الرئيسية / أقلام / المسجد بين حقّ التّديّن والتّوظيف الحزبي..
المسجد بين حقّ التّديّن والتّوظيف الحزبي..

المسجد بين حقّ التّديّن والتّوظيف الحزبي..

mosquéلعبت المساجد دورا تكوينيّا/تعبويّا مهمّا خلال كامل تاريخ حركة النهضة الاتجاه الاسلامي سابقا، وشكّل العمل المسجدي رافدا من روافد توسّع وانتشار الحركة خاصة في فترة السبعينات من القرن الماضي في إطار شبكة الحلقات المسجدية التي كونتها وذلك ضمن رؤية توظيف الرأسمال الرمزي الاسلامي للتمكين لحركات الاسلام السياسي على حساب الاسلام الرسمي الذي لم يبتعد عن وظيفة استكمال شرعيّة أنهكتها وعصفت بها سلسلة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي عاشها النظام الدستوري منذ أواسط الستينات.

تعتبر حركات الاسلام السياسي المساجد مجالها الحيوي وأبرز منصّات انطلاق خلاياها القاعدية ومحضنة استقطاب المزيد من الموارد البشرية وإدماجها في ديناميكيتها الفكرية والسياسية، لذلك فإنّ التكتيك الذي طوّرته والقائم على تحجير النشاط الحزبي والتمسك بالنشاط السياسي وتبريره بضرورة تقديم وجهة نظر “الدّين” من مختلف القضايا المطروحة يعكس حجم المسجد وموقعه في الاستراتيجية الاخوانية حيث تصرّ هذه الحركات على ضمان ممارسة الوظيفة فوق الدينية التعبدية داخله واستثمار “حصانته” الرمزية والأخلاقية والاعتبارية للتأثير في جموع المصلين من روّاد المساجد وتشكيل وعيهم.

إنّ نقاشا هادئا ومركّزا لإشكالية ضمان الحق في ممارسة الشعائر الدينية وارتياد المساجد مع تفادي منزلق التحزيب والاستثمار السياسي/الانتخابي لدور العبادة يجب أن يأخذ في الاعتبار المنطلقات التالية:

1)  أنّ ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي أسقطت الاحتكار الرسمي للشّأن العام ووضعت نهاية لتجريمه بعد انكفاء مظاهر التضييق على الحقوق والحريات وبما فتحته من إمكانيّات قانونية وميدانية حقيقية للعمل السياسي والجمعياتي أفقدت تصوّر استغلال المساجد للعمل السياسي كلّ مبرّراته وكشفت حقيقة الإصرار عليه باعتباره استثمارا حزبيا/سياسيا في الرصيد المرجعي المشاع والعام لكلّ التونسيين ضمن الحقبة العربية الاسلامية من تاريخهم المديد، لا يستقيم أخلاقيا وسياسيا السّطو عليه ومصادرته والتحدّث باسمه واستغلاله في سوق المراهنات السياسية والانتخابية.

2)  أنّ المسجد جزء أصيل من المرفق العام تتحمّل الدّولة مسؤوليّته الإدارية والمالية ويعهد لها شأن الإنفاق عليه من الموازنة (وبالتالي من دافعي الضرائب ومن المديونية العامة للدولة) باعتبارها تعبيرا عن الإرادة العامة وهو أيضا آلية من آليات تحقيق الحاجيات الدينيّة للمسلمين التونسيين بصرف النظر عن تبايناتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية مثله كمثل المستشفى والمدرسة، لا يحقّ لأيّ طرف سياسي توظيفه واستغلاله في الشأن السياسي ويحظى تبعا لذلك بكافة ضمانات حماية القانون.

3)  أنّ الدّعوة للدّين الاسلامي في بلد عرف الإسلام منذ ما يزيد عن الأربعة عشر قرنا وتشرّب تاريخه وقيمه وتراثه ضمن مؤسّسات التنشئة الاجتماعية/الثقافية أمر يدعو إلى الكثير من الاستغراب في ضوء ارتفاع نسبة التعلم وسهولة الولوج إلى المعرفة الدينية وسواها ببلادنا ما يؤكّد أنّ الأمر لا علاقة له بالانتصار للدّين الاسلامي وضرورة تثبيت قيمه وترسيخ تعاليمه في وجه مزاعم وادّعاءات بوجود مؤامرات تحاك ضدّه بقدر ما هو تبرير متهافت قوامه ابتزاز جمهور المسلمين عبر آلية التخويف لإضفاء معقولية ومشروعية زائفة للاستغلال السياسي للمسجد.

4)  أنّ مضمون الخطاب الدّيني المتشدّد والمغالي الوافد من المشرق عبر الإعلام الفضائي البترودولاري طوال السنوات الماضية في سياق التصحّر الثقافي الذي تسبّبت فيه المعالجة الأمنية للقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والمتمحور حول ثنائية الإيمان والكفر والذي شهد انتعاشة مع صعود حركة النهضة إلى الحكم، قد شكّل الغطاء الفكري والسياسي لتفشّي الظاهرة الارهابية وانتشار المجاميع المتشدّدة والتكفيرية وشيوع مظاهر العمل الموازي للدولة وزوّدها بالعدّة المعنوية وأمّن لها “التأصيل الشرعي” بلغ حدّ تشكيل شبكات استقطاب المئات من العناصر الجهادية في المساجد.

5)  أنّ شيوع اعتماد الإسلام عقيدة وتاريخا وتراثا كخلفية فكرية وسياسية للعمل السياسي والجمعياتي من خلال توظيف المساجد والزّجّ بها في الوظيفة غير التعبدية قد استهدف رأسا إحلال قراءة سياسية/ايديولوجية ماضوية ولا تاريخية للتاريخ والتراث والعقيدة والثقافة محلّ المواطنة كإطار دستوري وتشريعي للوطنية التونسية بما شكّل جملة من المخاطر على منظومة التوازنات الثقافية التي طوّرها التاريخ الثقافي التونسي الحديث والمعاصر وهدّد الوحدة الوطنية للتونسيين حينما زكّى محاور مفتعلة للانقسام وطرح على جدول أعمال العملية السياسية قضايا لا علاقة لها بأهداف الثورة.

6)  إنّ تسييس المقدّس الذي تقوم به جماعات التحريض المسجدي وإقحامه ضمن مجال الصراع السياسي وجدل البدائل يشكّل مدخلا لتقديس السياسي وخلع هالة من القداسة وفقدان القابلية للمساءلة والنقد للحاكم في بلد تمحورت شعارات ثورته حول الحرية السياسية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية وهو ما يؤكّد الطابع الرجعي والمعادي للتّطلّع المشروع للتونسيين في استئصال شأفة الاستبداد وقطع الطريق أمام عودة الحكم الفردي.

هذه في تقديري جملة الاعتبارات التي تؤسّس لضرورة تحجير العمل السياسي بالمساجد من أجل فتح المجال للتونسيين لممارسة حرية شعائرهم الدينية دون توظيف سياسي من قبل مجموعات سياسية تستخدم الدين الاسلامي لتحقيق أغراض سياسية.

                                                                                                                                                                                                                                      محمد الهادي حمدة

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×