الرئيسية / أقلام / رضا بركاتي: “المومياء”
رضا بركاتي: “المومياء”

رضا بركاتي: “المومياء”

زاوية نظر

في أحد الأيام (يوم الثلاثاء 31 ماي)، كنت داخلا تونس مترجلا، متجّها إلى وسط المدينة، أو إن شئتَ شارع بورقيبة حيث لي موعد بأحد المقاهي المبثوثة على أرصفة الشارع الرئيس. كنت قادما من ناحية ساحة الشهداء، ساحة إفريقيا سابقا، أو إن شئت ساحة المنقالة، فقابلتني حضيرة، الحضيرة، حضيرة الفارس العائد على جواده. كان ذراعا الآلة الرافعة العملاقة لا يزالان تحت الفارس الملفوف في الضمادات، في أعلى سدّة النصب العالية. وكانت حواجز البلدية تحيط بالحضيرة. فوقفت لألتقط صورة. وإذا بصوت يأمرني بالتحرّك ومغادرة المكان. إنّه الشرطي الواقف خلفي. قلت: “ألتقط صورة وأمضي”. فعاد السّوط يفرقع. فقلت: الحواجز بعيدة عنّي بأمتار وأنا لا أقف في مكان يحجر به المرور أو الوقوف.” فجاءني الصّوت مهدّدًا في لهجة من ضاق صدره ونفد صبره: “باش تمشي ولاّ نجيك.”

أحسست أنّي أقف، وسط ساحة المدينة، عاريا حافيا أعزلَ. فانسحبتُ خَجلِاً، وجلِاً، عَجِلاً. ee

من أنت؟

طُفتُ بالصخرة العالية وجئتها من قُدّامٍ. فوجدتُ مجموعة من العمّال ينظفون الممرَّ العريض، أمام النصب التذكاري، بين صفّيْ الأشجار العالية، وقد تسلّحوا بالمكانس يضربون بها الأرضية في همّة فتتطاير رغوة الصابون المميّع.

كان واقفا، داخل الحضيرة، يتسلّى بهاتفه الجوّال. هو رجل عادي ككلّ الرجال. قصير القامة بعض الشيء، مكتنز، ويبدو من ملامحه أنّه رجل طيّب أليف الطبع. قلت له: “هل يمكنني أن ألتقط بعض الصور؟” فقال : “تفضلْ”.

شكرته. دخلت الحضيرة.

سللت هاتفي الجوّال. وشرعت في اختيار زوايا التقاط الصور. وراح الرجل يتحرّك مثلي خلف العمّال وهو يردّ على مكالمة هاتفية.

وقف بجانبي وسأل: “هل يعجبك التمثال؟” فأخبرته أنّي لمّا رأيت التمثال هكذا ملفوفا قفزتْ إلى ذهني كلمة واحدة: “المومياء”.

بقي صاحبي واجمًا ينظر لي فاحترت في أمري. وفكرت أنّه ما كان عليّ أن أجيبه هكذا. هذا الرجل لا بدّ أنّه رئيس حضيرة العمال البلديين. فرحْتُ أتحدّث إليه معتذرا موضّحا أنّها مجرد فكرة عابرة وإن كان لم يفهمني فالأمر ليس مهمّا.

فأجابني بهدوء تام: “فهمتك”. ثمّ أضاف: “من أنت؟”

إنّ هدا السؤال يربكني دوما. ويحيّرني في أمري. ويقذف بي إلى هاوية الحيرة الوجودية. وأنا لا أحبّه. ولا أحبّ أن أسمعه. ولا أريد الإجابة عنه.

وفي ذات اللحظة أومض برق خاطف في ذهني. هذا الرجل ليس رئيس حضيرة العمال. إنّه بوليس بالزيّ المدني.

نظرت إليه واسترجعت أنفاسي وجمعت شتاتي وتذكرت صولاتي وجولاتي مع زملائه منذ أربعين سنة خلتْ وقلت: “أنا فلان الفلاني، مواطن صالح، أدفع الأداءات القارّة وغير القارّة.”

فابتسم. وبدأ يتحدّث إليّ موضّحا أنّه يريد أن يعرف رأيي في التمثال… فقاطعته سائلا: “من أنت؟”

فابتسم وقال: “أنا النحّات الذي نحت هذا التمثال منذ عقود.”

فاجأني جوابه. تهللت أساريري. وقلت: “مرحبا بـ”رودان” تونس”.

ماذا أم لماذا ؟

في العادة تكمن قوة المنحوتة، أيّ منحوتة، في الفكرة التي تحضنها، في المعاني التي تعبّر عنها أمّا الباقي فتقنيات وفنيّات وحرفية وحسابات وصناعة… جميعها في خدمة الرسالة التي قصد الفنان تبليغها للمتلقي، للجمهور، للناس.

أمّا بخصوص هذه المنحوتة بالذات، والتي تمثل عودة الزعيم في غرّة جوان 1955 في محاولة لتخليد تلك الذكرى وزعامة تلك الأيّام، فالأمر مختلف. فالنحّات هنا قام بواجبه من الناحية الفنيّة والتقنية عندما جسّد تلك اللحظة التاريخية حسب ما تستوجب نواميس وشروط فنّ النحت لكنّ الرسالة التي أرادها لها صاحبها أو الذين تقدّموا للنحّات بطلب إنجازها  أو الذي دفع تكاليف إنجازها فأمر آخر.

فالدارس، أيّ دارس، لا يمكنه أن يبلغ ولن يبلغ رسالة التمثال باستقراء المنحوتة وتحليلها واستجلاء معانيها لأنّ دلالتها، رسالتها، معانيها ليست كامنة فيها بل هي في نوايا ومقاصد وغايات الذين طلبوا من النحات إنجازها.

يبدو واضحا، لكلّ من يريد أن يفهم، أنّ التمثال أنجز لسبب بسيط ألا وهو حصول الزعيم الذي اهترأت صورته على صفة جديدة: رئيس مدى الحياة. فالدارس الذي يسأل (ماذا؟) طلبا لرسالة التمثال لا يجد جوابا لذلك عليه أن يسأل لـــــمــاذا؟

المسيرة الجديدة

 

في الحقيقة إنّ لوضع هذا النصب التذكاري أكثر من دافع. ولكن لعلّ الدافع الرئيسي يكمن خلف مسيرة الزعيم منذ تلك اللحظة التاريخية: غرة جوان 1955.

إنّ ذلك التاريخ هو نقطة فاصلة بين مرحلتين. نهاية مرحلة النضال ضدّ الاستعمار وبداية مرحلة جديدة دشّنها الزعيم بالخلاف مع رفيقه صالح بن يوسف الذي وقعت تصفيته.

لقد صفّى الزعيم كلّ خصومه السياسيين بدءا باليوسفيين وتبعهم القوميون.

ثمّ جاء دور اليسار بكافة تلويناته وتفرعاته بدءا بمنظمة آفاق-العامل التونسي

وفي الأثناء وقعت محاكمة أحمد بن صالح ثمّ محاكمات رفاقه الذين انتظموا في حزب الوحدة الشعبية.

وجاء من بعده دور أحمد المستيري وجماعته الذين انتظموا في حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي تعرضت لكل أنواع المنع وتعطيل النشاط بمختلف الأساليب وصولا لتزوير الانتخابات (1981).

وفي صائفة 1971 هجمت مليشيات الحزب الدستوري على المؤتمر الثامن عشر للاتحاد العام لطلبة تونس فأعلنت بذلك القطيعة النهائية بين الحزب الدستوري وأوسع قطاعات الشباب وخاصة الطلبة والتلاميذ.

واكتملت الدائرة في حمّام الدم، يوم 26 جانفي 1978، لمّا أعلنت القطيعة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الدستوري.

rr 

         “المجاهد الأكبر” أم “الشعب أكبر”؟

وهكذا اهترأت صورة الزعيم، حبيب الأمّة، الذي صار ذكره يتردّد يوميا في المدائح والأذكار على موجات الإذاعة الوطنية المحتكرة، فأين المجاهد الأكبر الذي كان؟ لقد صار “شعبه” يتابع توصياته، كلّ مساء، قبيل نشرة الأنباء التي يحتكر منها نصيب الأسد. كما يتابع “صولاته” كلّ صائفة، على الشاشة الصغيرة، في مسبح قصر صقانس بالمنستير حيث يقضّي الصائفة في الاحتفالات بعيد ميلاه (3 أوت) التي لا تنتهي إلا بحلول فصل الخريف.

لذلك كان الردّ على ادّعاء “المجاهد الأكبر” والرئاسة مدى الحياة، عفويا، عاما، شاملا، جماعيا، جماهريا، في أروقة الكليات، أثناء الاجتماعات العامة، في التجمعات العامة، وفي المظاهرات في شوارع العاصمة وساحاتها، وخاصة في مظاهرة يوم الجمعة 19 أفريل 1974، كان الردّ : “الشعب أكبر – لا مجاهد إلاّ الشعب”.

بيت القصيد

هناك قصيدة النظم وقصيدة الشعر. والنظم لا يرتقي إلى مستوى الشعر لأنّه يفتقد إلى الصورة الشعرية، إلى روح الشعر، إلى الشعرية وهو مجرد كلام موزون ومقفى ورد على إيقاع بحر من بحور الشعر.

قصائد المتنبي في مدح سيف الدولة بقيت على مرّ العصور، رغم أنها مدحية وكان المتنبي ينال بها أجمل العطايا وأثمن الهدايا، ذلك أنها استوفت شروط فنّ الشعر.

لقد قال شعراء من تونس لا يحصى عددهم قصائد لا تحصى ولا تعدّ في “حبيب الأمّة” وتباروْا وتنافسوا في حضرته. لكن ماذا بقي من كلّ عكاظيات قصر صقانس؟

 إنّ الشابي، شاعر تونس خالد الذكر، اختصر مهجة شعره في إرادة الحياة:

إذا الشعب يوم أراد الحياة  …  فلا بدّ أن يستجيب القدر

 أمّا شاعر البلد وابن تونس البار الراحل عنّا، الماكث فينا، المفرد في صيغة الجمع، أولاد أحمد، فلقد أردف حبّه للبلد بحواره مع التمثال بشأن الوثن:

يا ابن خَلدون

المدينةُ أضيقُ من خطاكْ

ولَكَمْ مَرَرْتُ بِبُرْنُسِكَ الحديدْ… فساءني زمني

فاخْرُجْ من الوثن الجَديدْ

واكتُبْ إلى الوثَنِ المُقابِلِ ما يليقُ بحَجْمِهِ

قُلْ ما تُريدْ: هذا حصانك واقف والكفُّ من زمنٍ تُرحِّبُ

بالغريبْ

قُلْ ما تريدْ

فلنا المدى

وله الصديدْ

أمّا منوّر صمادح، الشاعر- النبيّ المتوّج بالجنون، فلقد كان سبّاقا في كشف ألاعيب اللعبة منذ البداية فسجّل بمرارة انقلاب الأدوار وانقلاب القيم وسأل مستنكرا:

عهدي به جدّا فصار مزاحَا … بدأ الضحيّة وانتهى السفّاحا

من حرّر الأجساد من أصفادها … عقلَ العُقُولَ وكبَّلَ الأرواحا

كان السجينَ فصار سجّانًا لها… يا من رأى سمكًا غدَا تمساحا

البابُ فتّحه الذين استشهدوا … فلمن تُرى قد سَلّمُوا المفتاحَا؟

 

فارس الحرية

ولكن مهما يكن من الأمر فلقد جاء موعد إزاحة التمثال، بعد أن أحدث الزعيم الفراغ حوله ولم يبق إلاّ ما تبقّى من أعضاده المخلصين المتنافسين – المتقاتلين بالنار الباردة على خلافته، استنجد أحدهم بعسكري ليرهب به الشعب الذي أرهقته الأزمات الاقتصادية والنقابية والاجتماعية والسياسية وصار يتململ، فلمّ العسكري على “الملمّة وما ثمّة” وانقلب على الزعيم الذي طالت شيخوخته وبعثه إلى التقاعد الإجباري قبل الأوان في إقامة جبرية وأزاح تمثاله ونصب مكانه “منقالة” ليعلن بها عن بداية “عهد جديد”.

ولم يحرك أحدٌ ساكنا من أولائك الذين اكتنزت لحمة كتفهم في ظلّ رعاية الزعيم.

وحده جورج عدّة المناضل الوطني الذي عرف سجون ومحتشدات الاستعمار الفرنسي لمطالبته باسقلال وطنه تونس وهو الشيوعي حبيب كل المضطهدين في العالم وهو المناضل النقابي رفيق العمال والمدافع عنهم وهواليهودي المناهض للصهيونية، المعادي للتطبيع والمطالب بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وحده جورج عدّة طالب بإطلاق سراح السجين لأنّه بكلّ بساطة رجل مبادئ وحقّتْ فيه تسمية فارس الحرية.

أسئلة تطلب أجوبة.

وبمناسبة غرة جوان 2016،

من أعاد النصب؟ هل هو فعلا الرئيس الذي أذن بذلك؟ ولماذا تذكر الرئيس الجديد زعيمه ومعلّمه الآن فقط؟ ولماذا سكت، هو ومن معه، طيلة ربع قرن؟

وهل عاد النصب إلى مكانه كما جاء في اللوح الرخامي للنصب؟ أليس مكانه الحقيقي تقاطع شارع محمد الخامس مع الشارع الرئيسي أي مكان “منقالة” “العهد الجديد” ؟

ولماذا لم يجرؤْ أحدٌ على الدعوة إلى إزالة “المنقالة” التي أزاحت الزعيم؟  أوليس هكذا يكون الإنصاف؟ أوليس البادئ أظلم؟ وهل صحيح ما يروّج من أنّ الوقتَ سيحين ليعود الجنرال ويدرجح “المنقالة” مع ولد الخالة؟

ولماذا نُصِبَ النصْبُ على سدّة من الرخام الأملس الصقيل مرتفعةً جِدًّا جِـــدَّا؟ هل خوفا من أن تصعد خفافيش ظلام جـــــدَّا إلى الفارس المتهم ب”تجفيف المنابع” ؟ هل لايزال الجماعة يتذكرون يوم غزوة “المنقالة”؟

وهل صحيح ما يروّج من أنّ الدولة لم تصرف من المال العام مليما في عملية إرجاع النصب إلى مكانه أو بالتدقيق إلى جوار مكانه الأصلي؟ وهل صحيح أنّ العملية تمّت برعاية مؤسسة أمضَتْ إبداعها الصخري بوضع ختمها في خلفية السدّة الرخامية العالية؟ وهلْ ستطرح هذه المؤسسة مصاريفها هذه في السدّة الرخامية العالية من جدول الأداءات؟ عفوًا . حاشا وكلاّ . وهل تدفع تلك المؤسسة الأداءات أصلاً؟

 تماثيل.

1)    في أضواء المدينة.

نحتأضواء المدينة هو شريط سينمائي للفنان المبدع شارلي شابلين. في بداية الشريط يجتمع أعيان المدينة محفوفين بجمهور مرموق صحبة سيّدات أنيقات في ساحة لإزاحة الستار عن تمثال يعبّر عن التقدّم والرقي والرفاه الذي حققته المدينة.

وينزل الستار. ماذا هناك ؟ متسكع من مشردي المدينة (شارلي شابلين) نائم في أحضان التمثال.

وينطلق النشيد الرسمي النحاسي الحماسي وعلى إيقاعه يشرع المتسكع المهمش “البدون” مأوى في النزول من أحضان التمثال والانسحاب خلف صفّ من شجيرات الزينة.

2)    رفيق الطلبة

في مدينة هادلبارغ الألمانة وهي مدينة جامعية (ولقد أصبح الآلاف من الطلبة التونسيين يعرفونها) يوجد نصب تذكاري لأحد مهمشي المدينة أمام المحطة المركزية للقطار. النصب يمثل رجلا كان يعيش في محطة القطارات وجعل لنفسه مهمّة واحدة في حياته وهي استقبال الطلبة الوافدين من كلّ المدن الألمانية وغيرها وحمل حقائبهم وإيصالهم إلى كلياتهم ومعاهدهم وأحيائهم الجامعية.

3)    إخوة قافروش

في مدينة لافلات عاصمة مالطة هناك حديقة عمومية تقع في مرتفع اسمها “جنان العالية” فمِمَّا يزيّن الحديقة تماثيل لثلاثة أطفال في أسمال بالية من مشردي المدينة ويطلق على هؤلاء اسم “لاي قافروش” وقافروش، هو الطفل البطل، إلى جانب جان فالجان، في رواية البؤساء لفيكتور هيغو.

4)    كلّ بلاد وأرطالها

في تونس، وقع الاعتداء على  النصب التذكاري للمصلح الاجتماعي الطاهر الحداد ابن الزيتونة البار ورفيق محمد علي الحامي في تجربة جامعة عموم العملة التونسيين،  وصاحب كتاب “العمال التونسيون” والمدافع عن حقوق المرأة وصاحب كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”.

كلّ بلاد وأرطالها ولكم سديد النظر.

 yyyرضا بركاتي: كاتب وناقد ونقابي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×