الرئيسية / أقلام / علي البعزاوي: “دكتاتوريّة الأغلبيّة أم “دكتاتوريّة الأقلّيّة”
علي البعزاوي: “دكتاتوريّة الأغلبيّة أم “دكتاتوريّة الأقلّيّة”

علي البعزاوي: “دكتاتوريّة الأغلبيّة أم “دكتاتوريّة الأقلّيّة”

عرفت النّقاشات داخل مجلس نواب الشعب حول قانون المالية لسنة 2016 وتيرة تصاعدية. فبعد بداية هادئة عبّر فيها النوّاب من مختلف الكتل عن مواقفهم واحترازاتهم وصوّتوا على الفصول قبولا أو رفضا، كلّ حسب قناعاته وحساباته. إلاّ أنّ هذه النقاشات أخذت فيما بعد منحى تصعيديا خطيرا يؤشّر على أنّ الخلاف ليس بسيطا ولا يتعلّق بالجزئيّات ولا بمسائل تقنيّة.

alibaالصّراع بدا مفتوحا بين كتل الأغلبية الحاكمة من جهة وكتلة الجبهة الشعبية وباقي المعارضة من جهة أخرى. ومداره الفصلان 54 و56 اللذان يشرّعان للتهرب الجبائي والإفلات من المحاسبة والفصل 61 الذي يفتح الباب أمام تبييض الفساد المالي والتصالح مع الفاسدين. هذا الفصل  الذي لم يدرج منذ البداية في المشروع المقدّم للمجلس لكن أضافته كتل الأغلبيّة الحاكمة خدمة لمصالح مافيات المال الفاسد.

 صراع بين مشروعين

لقد اتّضح من خلال النّقاشات أنّ الأمر يتعلّق بمشروعين مختلفتين تمام الاختلاف مشروع يدافع عن السّيادة الوطنية والعدالة الجبائية ولو جزئيّا، بما يدعم موارد الدولة ويساعد على تغطية النفقات والحدّ من الاقتراض، وآخر خاضع لتعليمات صندوق النقد الدولي ومكرّس للفساد والتّهرّب الضّريبي ويفتح الباب أمام مزيد التّداين والارتهان للخارج. وقد برز نوّاب كتلة النهضة بدفاعهم المستميت عن الفصول المذكورة معتمدين  حججا تبريرية واهية وغير واقعية من خلال مقارنات تعسّفيّة لا تأخذ في الاعتبار خصوصية الحالة التونسية.

الصّراع بدا مفتوحا ومباشرا وواضحا حيث وضع الأصبع على حقيقة الدّاء وكشف عن الأسباب الحقيقية التي تعيق مسيرة بناء الدولة الجديدة وتُجهض كلّ محاولات إعادة التّوازن والاستقرار. فكلّما بدت هناك حلول ومعالجات تنسجم مع انتظارات التونسيين كلّما كان هناك صدّ من طرف كتل الأغلبية التي تتآمر على مصالح الشعب التونسي، حيث رفضت إجراء أيّ تعديل على الفصول المذكورة دفع برئيس كتلة نداء تونس الحزب الفائز الأوّل في الانتخابات التشريعية إلى اتّهام الجبهة الشعبية وباقي الكتل التي قاطعت جلسات المجلس احتجاجا على التّعنّت ورفض التّوافق بأنها تمارس ما أطلق عليه “دكتاتورية الأقلية”.

فعن أيّ دكتاتورية يتحدّث؟

أوّلا لا بدّ من التّوضيح أنّ انسحاب كتل المعارضة من الجلسات هو حق مشروع وهو احتجاج سلمي مدني من شأنه أن يدق ناقوس الخطر ويلفت الانتباه إلى أنّ الأغلبية تصرّ على المضيّ قدما في اتّخاذ قرارات خطيرة من شأنها إضعاف موارد الميزانية بما يضطرّ الحكومة إلى مزيد الاقتراض من الخارج وبشروط مجحفة باعتبار تراجع الترقيم السيادي لتونس إضافة إلى مساعيها المحمومة لتكريس الفساد وشرعنة الإفلات من المحاسبة.

ثانيا أعتقد أنه لا وجود في معجم السّياسة لما أطلق عليه رئيس كتلة نداء تونس “دكتاتورية الأقلية”. فالأغلبية هي التي مارست في موضوع الحال دكتاتوريّتها على الأقلّيّة بأن فرضت عليها اختياراتها اللاّشعبية واللاّوطنية بكلّ صلف. ورفضت إجراء تعديلات على بعض الفصول دون سواها أو حتى الاكتفاء بشطب الفصل 61 الذي وقع حشره في مشروع قانون المالية  تعسّفا رغم أنّ هذا الأخير لا يستجيب في مجمله إلى استحقاقات المرحلة في بلد يعيش مسارا ثوريا ولا يساعد على الخروج من الأزمة الشاملة التي تمرّ بها البلاد والمتمثّلة في اختلال الموازين المالية والانكماش الاقتصادي والاتّجاه نحو الإفلاس، إضافة إلى تنامي الظاهرة الإرهابيّة التي أصبحت تمثّل خطرا بيّنا على البلاد، ممّا يطرح تساؤلات جدّيّة حول طبيعة المرحلة التي تعيشها تونس. فهل نحن في حاجة إلى الإجماع والتّوافق حول حلول وخيارات دنيا مشتركة أم أنّ الظروف تسمح بهروب الأغلبية إلى الأمام والانفراد بالرأي بعناوين الديمقراطية والأغلبية والأقلية.

أيّ الحلول أفضل للخروج من النّفق؟

 من الطبيعي في ظلّ الديمقراطيات الحديثة أن يقع الالتجاء بعد صراع المواقف والأفكار إلى التّصويت الذي يكرّس رأي الأغلبيّة مع حقّ الأقلّيّة في مواصلة النضال السلمي والتعريف ببرنامجها وبدائلها على نطاق واسع من أجل أن تصبح أغلبيّة. هذا طبعا في الظروف العادية أي عندما يكون البلد مستقرا وغير مهدّد ويعيش انتعاشة اقتصادية من شأنها خلق الثروة وتوفير فرص العمل لطالبيه ولو في حدود معيّنة  وقادرا على توفير الحماية والخدمات الأساسية الدنيا لمواطنيه.

وهو ما لا ينطبق على الحالة التونسية. فالبلاد تعيش مسارا ثوريّا مفتوحا وهي مهدّدة من طرف العصابات التكفيرية المدعومة إقليميا ودوليا، وتسجّل حالة من الانكماش الاقتصادي وشحّ الموارد وغياب الاستثمار الداخلي والخارجي وتعدّ نسبة عالية من البطالة والفقر والتهميش إضافة إلى تردّي الخدمات الصحية والتربوية والثقافية وغيرها.

في مثل هذه الظروف، البلاد في حاجة إلى توافق واسع حتى تتوحّد كلّ الأطراف داخل الحكم وخارجه أحزابا ومنظمات وجمعيات ومواطنين حول مشروع إنقاذ مرحلي يضمن حدّا أدنى من الاستقرار والعيش الكريم والأمن والخدمات دون إقصاء. مشروع قادر على تعبئة كلّ الطبقات والفئات لحمايته والدفاع عنه. مشروع يتقاسم فيه التونسيون جميعا الأعباء والتضحيات. أما الانفراد بالرأي مهما كان أغلبيا و”ديمقراطيا” فلن يفضي إلاّ إلى مزيد الفشل والارتباك والتقهقر. وهذا ما لم تفهمه الأغلبية الحاكمة التي لم تستوعب خصائص المرحلة وحقيقة المخاطر التي تتهدّد البلاد التي لا يمكن إدارتها بالوسائل التقليدية.

وهو ما حدا بالجبهة الشعبية وباقي المعارضة من جهة أخرى إلى إعلان مقاطعتها جلسات المجلس إلى حين إجراء التّوافقات الضرورية. لكنّ هذه المقاطعة لم تفض إلى حلول مباشرة ملموسة لأنّ الأغلبية أصرّت على مواصلة النقاشات والتصويت على مشروع قانون المالية في غياب المعارضة. وقد لا تفلح لاحقا في إسقاط الفصل 61 اللاّدستوري. لكنّ المعارضة بهذا السلوك أطلقت صيحة فزع ونبّهت الرأي العام الوطني إلى خطورة ما قامت به كتل الأغلبية والذي يتناقض مع جوهر قانون المالية ذاته.

وعلى الشعب التونسي تحمّل مسؤوليّاته وإرجاع الأمور إلى نصابها.

علي البعزاوي: عضو لجنة مركزية لحزب العمال

“صوت الشعب” – العدد 188

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×