الرئيسية / صوت الوطن / السّيادة الوطنيّة في مهبّ الرّيح
السّيادة الوطنيّة في مهبّ الرّيح

السّيادة الوطنيّة في مهبّ الرّيح

تشكّل اليسار الجديد في تونس في أواخر الستينات على قاعدة مشروع يهدف إلى تحقيق الحريات السياسية وإرساء ثقافة وطنية تقدمية وضمان المساواة بين الجنسين وتحقيق الاستقلال الكامل والفعلي لتونس إيمانا منه بأنّ اتّفاقية 1956 التفّت على هذا المطلب وأبقت على تبعيّة تونس السياسية والاقتصادية والثقافية لفرنسا تحديدا وللقوى الإمبريالية عموما.untitled-13-620x330

لقد أثّثت هذه الأهداف منذ ذلك الوقت برامج التنظيمات اليساريّة وطبعت شعاراتها السياسية التي كانت تُرفع في مختلف التحركات وتُدوّن في البيانات والكراريس.إلاّأنّ فشل اليسار في قلب الأوضاع لصالحه والوصول إلى قيادة البلاد من جهة، وعجز نظام الحكم عن بناء دولة وطنية مستقلّة ومزدهرة اقتصاديا واجتماعيا من جهة أخرى، نمّى الفوارق بين الطبقات والجهات وكثّف وتائر الاستغلال وعمّق التبعية التي وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من ارتهان على المكشوف للقوى الاستعمارية والإقليمية وخضوع للإملاءات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

 التّبعيّة تتعمّق خلال الثّورة:

 الثّورة التونسية فتحت الطريق أمام حرية الرأي والتّعبير ومكّنت عديد القوى المدنية والسياسية وفي مقدّمتها الجبهة الشعبية من طرح المسألة الوطنية، ليس من خلال الشعارات المجرّدة والجمل الثورية ولكن من خلال مهمّات ومطالب ملموسة وواقعية تتعلّق أساسا بالمنوال التنموي وبالسياسات الاقتصادية الواجب اتّباعها وبإعادة النظر في السياسة الخارجية.

لقد طُرحت مراجعة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وسياسة الاقتراض والتداين وسياسة الانخراط في المحاور وغيرها،إلاّأنّ هذه المطالب لم تلق التجاوب المطلوب لأنّ من أتى بهم صندوق الاقتراع في ظروف يعرفها الجميع لا علاقة لهم بالثورة ولا بمطالبها وتحديدا كلّ ما يتعلّق باستقلال تونس الاقتصادي والسياسي والثقافي.بل لعلّ الإصرار على المواصلة في نفس الخيارات القديمة وما أفرزته من نتائج كارثية دفع الحكم الجديد إلى المضيّ بأكثر تصميم في سياسة الارتهان للقوى الاستعمارية التقليدية وللرجعية الإقليمية والقبول بإملاءاتها المختلفة دون تحفّظ. لقد أصرّ الحكم الجديد طيلة الخمس سنوات الأخيرة على تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي الداعية إلى الضغط على الأجور والانتدابات وإلى خوصصة ما بقي من القطاع العام وتحرير الأسعار وتشجيع المستثمرين الأجانب مقابل تدفّق القروض.كما انخرط في سياسة المحاور بالانحياز للمحور الأطلسي فنظّم مؤتمر أصدقاء سوريا وقطع العلاقات معها غير عابئ بمصالح التونسيين في هذا البلد الشقيق وفتح الباب أمام الإرهابيّين للسّفر إلى بؤر التّوتّر (في عهد الترويكا) وانخرط في المحور الإسلامي استجابة إلى طلب النظام السعودي، وأصبحت تونس عضوا غير مؤسّس في حلف الناتو الذي حصل على قاعدة جوية على الحدود التونسية الليبية رغم أنه حلف استعماري لعب دورا في إثارة الحروب العدوانية ضدّ الشعوب والأمم وشكّل طوق حماية للرجعية العربية ضدّ خطر التّمدّد الثوري (في ظل الائتلاف الحالي بقيادة النداء والنهضة).

أعتقد أنه بقدر ارتفاع أصوات الوطنيين والتقدميين ضد التبعية وسياسة المحاور فإنّ الحكومات المتعاقبة بعد 14 جانفي لم تتردّد في الهرولة نحو الارتماء في أحضان القوى الاستعمارية والاحتماء بها لمعالجة الأزمة الشاملة التي باتت تهدّد حكمها.

وقد جاء مشروع قانون المالية لسنة 2017 مجسّما بامتياز لهذه التبعية.ونعتقد أنّ خطر هذه الميزانية التي ستكون لها انعكاسات مدمّرة اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيّا مرتبط وثيق الارتباط بغياب السيادة الوطنية.

 لا تقدّم ولا ازدهار دون سيادة وطنيّة

 إنّ بلورة الخيارات والبرامج الوطنية والجهوية والمحلية وضبط الخطط التنموية والموازنات المالية بالتعويل على العقول والخبرات التونسية بمشاركة المنظمات الحزبية والمدنية والفعاليات الشعبية بعيدا عن أيّ وصاية خارجية من شأنها أن تشجّع أوسع الجماهير على الانخراط فيها وإسنادها من أجل إنجاحها.فالمواطن كلّما أحسّ بأنه شريك وطرف في المشروع الوطني كلما ازدادت حماسته وأسهم في إنجاحه وتطويره.مثلما هو مستعدّ في الآن نفسه للصبر وتحمّل جزء من العبء في حالات الأزمة.

يقول المثل الشعبي “المال اللي ماشي للسدرة الزيتونة أولى بيه”.هذا المثل يصحّ على المشروع الوطني الذي نتحدث عنه، أي أنّ الأموال والثروات التي يتقاسمها معنا الأجنبي سواء من خلال الاستثمارات المباشرة التي عادة ما ترافقها أرباح طائلة وتسهيلات جبائية وضغوط على العمّال للقبول بأجور بؤس بدعوى ضمان مواطن الشغل أو من خلال خدمة الدين، من الأفضل والأجدى أن يعاد استثمارها وضخّها في الدورة الاقتصادية المحلية لإنتاج الثروة وتوسيع الطاقة التشغيلية للمؤسسات الرابحة وخلاص مستحقات الدولة من الجباية.بهذا المعنى يذوب الاحتقان الاجتماعي وتتنامى حالة الاستقرار ويعمّ الأمن والسلم الأهلي.

السيادة الوطنية ليست شعارات جوفاء ولا أحلام مجردة بعيدة عن الواقع حتى يقع الحط من أهميتها.إنها برامج وأفعال على الأرض، وهي الشرط الضروري والأساسي للإقلاع الاقتصادي والنهوض الاجتماعي والثقافي وتطوير الخدمات الأساسية من تربية وتعليم وصحة وبيئة وغيرها.إنها القاعدة لأي مشروع وطني ناجح وقادر على الخروج بالبلاد من الأزمة الشاملة التي باتت تنخرها.إنّ خلاص تونس غير ممكن في ظلّ التبعية والارتهان لقوى الهيمنة والردّة. فإلى الأمام على طريق الاستقلال الكامل والفعلي لتونس.

علي البعزاوي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×