الرئيسية / صوت الثقافة / بين التّفكير والتّكفير: ثقافة الإرهاب وإرهاب الثّقافة
بين التّفكير والتّكفير: ثقافة الإرهاب وإرهاب الثّقافة

بين التّفكير والتّكفير: ثقافة الإرهاب وإرهاب الثّقافة

يفرّق علماء الانتروبولوجيا بين الطّبيعة والثقافة ويضع “كلود ليفي ستراوس” كلّ المؤثّرات الفاعلة في جماعة ما ضمن الثقافة من عادات ومعتقدات ومذاهب وقوانين. و

Sans titre01

هو يرى أنّ الطّبيعة تنحو منحى الحريّة، في حين أنّ الثّقافة تنحو منحى القيد والتّقنين.

  جينالوجيا الإرهاب

محمد عبد الوهاب

 لذلك لا يمكن أن نفهم الإرهاب إلاّ بوصفه ظاهرة داخل بنية متكاملة متضامنة الأبعاد، لأنّ البنية كما عرّفها “أندريه لالاند” :”هي كلّ متكوّن من ظواهر متماسكة، يتوقّف كلّ منها على ما عداه. ولا يمكن أن يكون ما هو إلاّ بفضل علاقته بما عداه”. وفي هذا المدخل الموجز نقرّ أنّ الإرهاب بنية تتعدّد فيها الظّواهر بين العقائدي والاجتماعي والاقتصادي. وبما أنّها كذلك تتعدّد قوادحها من تعقّد تلك البنية.

ولئن وُجد الإرهاب في كلّ الأزمنة وفي كلّ الجماعات البشرية، فإنّ ما يعنينا في حاصل لحظتنا هو الإرهاب الموصول بالجماعات الدينيّة التكفيريّة. وهو يقتضي تفكيكا يبدأ من الظّاهرة الثقافيّة، ومنها المعتقد، والظاهرة الاقتصادية السياسية ومنها السلطة / الثقافي الضارب في العمق.

وهذا المكوّن هو الأخطر باعتباره السند الدائم الذي ينقدح بفواعل أخرى اقتصاديّة اجتماعيّة وسياسيّة. وتلك الفواعل بذاتها تشتدّ حينا لتخفت أحيانا أخرى وهي بذاتها رهينة دوافع آنيّة محليّة وإقليميّة.

 الحقيقة والعقيدة

يقول الشافعي :”كلّ ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى لأنّ العقل مضطرّ إلى قبول الحقّ”. ويقول في موضع آخر: “إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمّى أو غيره فاشهد أنّه من أهل الكلام ولا دين له”. وفي ذلك إقرار بأنّ الحقيقة في الشريعة وأنّ العقل مضطرّ، كما يقرّ الشافعي، إلى الاشتغال داخل سياج الشرع ولا وجود له خارج ذلك الإطار.

 من التّفكير إلى التّكفير

 إلاّ أنّ هذا الإطار الفقهي الضاغط سيتزعزع فور خروج المقدس من الائتلاف إلى الاختلاف عند أوّل تجربة احتكاك بالواقع، ومنها التنازع على السلطة في حرب الخلافة. ويعنينا أساسا موقف الخوارج الذي أورده الطبري في رسالة إلى علي بن أبي طالب جاء فيها :”أمّا بعد فإنّك لم تغضب لربّك إنّما غضبت لنفسك فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلاّ فقد نابذناك. إنّ الله لا يحبّ الخائنين”. ومع حرب الخلافة زال قناع القداسة في أوّل اختبار لجذور ما يسمّى اليوم بالإسلام السياسي وتمّ الانتقال بسرعة من الجماعيّة إلى الفئويّة ومن الموعظة إلى حدّ السيف بل من التفكير إلى التكفير.

 حسن البنا 

Sans titre2

 بين الأصول والفروع

 ولئن اعتبر البعض الخوارج بذور فتنة بمواقفهم المتطرّفة، فإنّنا نرى شأنهم من ذلك الصّراع بقدر شأن الفرق المتحاربة على السلطة بعنوان الخلافة. ويُرجع البعض زعامتهم لعبد الله بن سبأ المختلف في عقيدته، وينسبه البعض إلى اليهوديّة تبريرا للحاصل من تلك الفتنة ودوره القادح فيها.

إلاّ أنّنا نرى الأمر في شموله وعمقه خروجا بالعقيدة من قداسة المتعالي إلى دنس الدنيوي ومن سموّ الرّوح إلى وضاعة المادّة.

بين أحمد بن حنبل وابن تيميّة يتأسّس الجسر الواصل بين الاجتهاد والجهاد، لينضج المكوّن الثقافي تحت لافتة مفارقة تحدّد مقام المسلم بين “دار الإسلام ودار الشرك” وصولا إلى محمد بن عبد الوهاب في تحالف نادر بين سلطتي الدين والدنيا من خلال دولة آل سعود ومذهبها الدّاعم ثم المدعوم، ونعني به “الوهابية” التي انبنت على ذلك الفرع الثقافي الذي يجعل من المقدّس مصادرة مذهبيّة لا فاصل فيها بين سلطان الحكم وسلطان المعتقد. ومنذ “إمارة الدرعية” ترسّخ هذا الاتّحاد بين السلطتين بعقد متين يجعل من الجهاد توسّعا للحكم ليكون محمد بن عبد الوهاب مشرّعا لذلك التوسّع عبر تكفير المسلمين في محيط الإمارة الصغيرة “فقد تجاوزوا الحدّ فكفّروا أكثر الأمّة واستحلّوا دماءهم وأموالهم وجعلوهم مثل المشركين الذين كانوا في زمن النبي”.

ورغم الطّعون الكثيرة التي كانت تلقاها آراء بل شخصيّة محمد بن عبد الوهاب في محيطه القريب على غرار ردّ أخيه سليمان برسائل تُسفّه ما يدعو إليه، من بينها “فصل الخطاب في الردّ على محمد بن عبد الوهاب”،  فإنّ الرغبة في التوسّع بتسييس هذا المذهب  أزالت الحدود بين الاجتهاد والجهاد من جهة، كما زالت فيه الحدود بين ما يسمّى بالسلفيّة العلميّة والسلفيّة الجهاديّة. وبدعم كامل من البريطانيين تمّ ترسيخ حكم آل سعود وفي تزامن مع الثروات النفطية، انتشرت الدعاية للمذهب الوهابي ليتفرّع في حركات عديدة تختلف باختلاف بيئاتها الحاضنة.

 سيّد قطب 

Sans titre3

 المحكوميّة والحاكميّة في تجربة الإخوان

يمكن أن نعتبر أنّ الاخوان هم امتداد طبيعي لفكر محمد بن عبد الوهّاب. ذلك أنّ آل سعود سعوا إلى تمكين هذا المذهب من غطاء دعويّ، فكان نشر كتابات محي الدّين الخطيب. وكان لمدرسة المنار لمؤسسها رشيد رضا كبير الفضل في خلق الأثر الوهابي والسعي إلى تدعيمه بمحاولة “تنقية الدين من الشوائب”. وكان حسن البنّا جسرا واصلا بين التيّارين خاصة بعد هزيمة العثمانيين وإلغاء الخلافة سنة 1924. وفي تلك الأوضاع كان لا بدّ من سياق جديد تتجدّد من خلاله الأفكار. وكان القطب فيها فكرة الخلافة التي يعتبرها “حسن البنا” مركز الحراك الجديد الممكن بتأسيس حركة الاخوان سنة 1928 “الذين يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها في رأس مناهجهم… وهي المرحلة الخامسة من مراحل التمكين الستّ التي تبدأ بالفرد وتنتهي بأستاذية العالم” (رسالة المؤتمر الخامس).

ويبدو أنّ الشّعار المتمثّل في السيفين المتقاطعين هو من رموز الفكر الإخواني “سيف لأعداء الأمّة في الدّاخل  وسيف لأعدائها في الخارج”. ولا يمكن أن ننكر ما كان من دور للإخوان في محاربة الاستعمار الانجليزي وبث الوعي الوطني، لكن حماسهم ارتدّ إلى الدّاخل بعد ثورة يوليو 52 ممّا جعل علاقتهم بعبد النّاصر تنحو منحى الدمويّة. وكثرت مقولات الانغلاق والتطرّف لتكون مقولة الجهاد معلنة “قصد التمكين”. ولعل في شخصية سيّد قطب ومسيرة حياته تجسيدا لذلك التحوّل السّريع في انتقال الرّجل من النقد الأدبي والإبداع الروائي والجدل الثقافي مع العقّاد وطه حسين وغيرهما،- وله مصنّفات شهيرة في ذلك أشهرها رواية “أشواك”، – إلى أصوليّة فكريّة في كتاب “معالم على الطريق” والتلازم بين الجاهليّة والحاكميّة والإسلام للتغيير. وهي تنظيرات تعصف بالاختلاف وتنحو منحى التشدّد في رؤية العالم من خلال حدود مذهبية ضيّقة.

 أسلفنا أنّ الإرهاب بنية، بتكامل ظواهرها، مركزها الظاهرة الثقافية. لكنّ هذه الظاهرة تخفت حينا لتشتدّ أحيانا أخرى. ولعلّ العامل الأهم في اشتدادها هو عامل الظلم الاجتماعي وتعسّف الأنظمة وغياب الأفق الإصلاحي الوطني. وكانت تجربة الاخوان في تدرّجها سجلاّ يؤرّخ تأريخا سياسيّا حضاريّا لتوتّر العقيدة بين الروحي والدنيوي وبين الائتلاف والاختلاف وبين الجماعيّة والفئويّة.

وجرّاء غياب الديمقراطية انغلقت المفاهيم لتعلن القطيعة مع الأنظمة ومع الواقع المستفز باستقراره، ليعلن المرشد الخامس للإخوان مصطفى مشهور أنّ الجهاد هو السّبيل، وليتبنّى لفظ الإرهاب ليكون سبيلا إلى النصر ومعه لفظ الرعب ويعتمد في محاضرة له على آيتين كريمتين “…ترهبون به عدو الله وعدوكم” و”سنلقي في قلوب الذين كفروا الرّعب…” لكنّه حذّر قائلا:”إنّ هذا العلم هو علم الخواص ونحن من الخواص ولا يجب أن نصدح به أمام العامّة حتى لا يجفلوا من جماعتنا. فنحن في فترة تشبه فترة وجود الرسول في مكّة حيث كان آنذاك سلميّا لا يقاتل ولكن بعد أن أقام دولته قاتلهم”.

وبات الواقع المستفزّ قادحا لحركات جهاديّة رافضة للتعايش المختلّ في ظلّ العولمة. وتداخلت أدوات القدح بقدر تداخل مصالح التوظيف للدّوائر الاستخباراتية والنّفوذ الامبريالي التي وجدت في مذاهب الإسلام فرصة محيّنة، بفعل الواقع، لتفجير الخلاف والصّراع من أفغانستان وتجربة القاعدة إلى تشظّ ينهل من ذات المنابع في جبهات كثيرة ومنها العراق وسوريا “جند الخلافة… أجناد الله… أنصار الشريعة… أنصار بيت المقدس… “داعش” بفروعها…

ولا غرابة – عند تتبّع الرّصيد النظري- أن يعود كلّ التشظّي إلى مكوّن ثقافي مشترك يتصاعد من أحمد بن حنبل إلى ابن تيميّة وابن قيم الجوزي مرورا بمحمد بن عبد الوهاب ثمّ حسن البنّا وصولا إلى عبد الله عزّام وأيمن الظواهري ويوسف القرضاوي…

ولم نفعل في هذا المدخل غير اختصار لمسار ثقافي ارتبط بتأويل للعقيدة واتّخذ منها قاعدة للحجّة والاحتجاج على قاعدة “كونها عبادة وقيادة”. ونعتقد جازمين أنّ إصلاح الواقع هو من إصلاح العقيدة وأنّ محاربة التيّارات التي سطت على العقيدة لن تكون إلاّ بسبل إصلاح الحياة وفتح منابر الحوار والمشاركة الحقيقية لتحقيق العدالة وكرامة الإنسان واستقلال الأوطان بمصائرها. لأنّ الإسلام في جوهره – كما سائر الأديان – سعى إلى الارتقاء بمنزلة الإنسان الكونيّة.

محمد الجابلّي

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×