الرئيسية / أقلام / تجدد مأزق الديمقراطية البرجوازية  بين مغالطات التصور الحداثوي ونفعوية الإسلام السياسي.
تجدد مأزق الديمقراطية البرجوازية  بين مغالطات التصور الحداثوي ونفعوية الإسلام السياسي.

تجدد مأزق الديمقراطية البرجوازية  بين مغالطات التصور الحداثوي ونفعوية الإسلام السياسي.

يقدّم منظّرو الأنظمة الرسميّة البرجوازيّة، الديمقراطية البرجوازية على أنّها النّموذج المثالي النهائي الذي اهتدى اليه الفكر السياسي الحديث والذي لا إمكان لحلّ إشكالية إدارة الجماعة الوطنية أو العالمية خارجه. وفي الحقيقة فانّ هذا التصوّر فيه من المبالغة الشيء الكثير ممّا يجعله مجرّد دوغمائية إيديولوجية نظاميّة تنتمي الى فضاء الأجهزة الايديولوجيّة للدولة الرأسماليّة والذي لا علاقة له بالمقاربة الموضوعيّة والعلميّة ذلك أن تماسك أيّ تصوّر او فرضيّة نظريّة يبقى مشروطا بقدرته التفسيرية ومعقوليته الداخلية وبقدرته على حل المشاكل الواقعية المستعصية ومشكلات الحياة التي يطرحها كل عصر.

ولا نبالغ اذا قلنا انّ الديمقراطية والنّسق السياسي البرجوازي عموما يعرف اليوم أزمة مركّبة وعميقة، فقد أفرزت الرأسمالية في معقلها التّقليدي تعمّق الاختلالات الهيكليّة بين الأغنياء والفقراء وبين الدول الرأسمالية الكبرى والدول الأقلّ شأنا ولا أدلّ على ذلك من الأزمة التي يعيش عليها الاتّحاد الاوربي، هذه المنظّمة التي توظّف لخدمة الدول الكبرى (فرنسا وألمانيا خاصة) على حساب اقتصاديات الدول الأوربية الصّغرى (اليونان اكبر مثال) ويبقى الاختلال الأكبر هو بين دول المركز والأطراف نتيجة التّوزيع غير العادل للعمل على مستوى دولي وما يستتبعه من نتائج على غرار نهب الثروات ومشاكل البطالة والمديونيّة والاستغلال الفاحش لليد العاملة الوطنية من قبل الشركات الاستعمارية وهجرة الأدمغة وتنامي ظواهر الهجرة السرّية والإرهاب وغيرها من المآسي التي تعاني منها شعوب الجنوب.

الديمقراطية البرجوازية، سماتها وراهنيّتها.

امّا في الدول التّابعة والمتخلّفة التي توخّت، بدفع من المنظومة الرأسمالية العالمية وأجهزتها الماليّة،  الوصفات الرأسمالية المشجّعة على الخصخصة وتخلّي الدولة عن دورها الاجتماعي فلم تنل الاّ الخراب والدّمار لفئات لا تنفكّ تتوسّع. فأيّة راهنيّة للديمقراطية البرجوازية؟

ان المقام لا يسمح بالتّوسّع ولكن التذكير بمفهوم الديمقراطية يبدو ضروريا. لقد تعدّدت تعريفات الديمقراطية وأكثرها تداولا هو التعريف الذي يقدّمها على انّها تعني حكم  الشعب عبر الشعب ولفائدة الشعب. انّ هذا التّعريف لا يرتقي الى مستوى التعريف وما يقتضيه من دقة بحيث يكون تعريفا للشّيء ذاته تعريفا جامعا ومانعا. هنا يمكن الاعتماد على مفهوم الديمقراطية باعتبارها مسارا ينشد تحقيق سلطة تقرير المصير الفردي والجماعي، سلطة تقرير المصير الفردي بأن يفكّر الانسان فيما يريد وكما يريد ويعبر عمّا يفكر به ويمارس قناعاته بحريّة (حريّة الاستقلاليّة عن المجتمع والدولة وحريّة المشاركة في الشّأن العام) وسلطة تقرير المصير الجماعي بأن تحقّق كلّ جماعة/ أمّة/ دولة مصيرها بكل حريّة عبر حريّة اختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. غير انّ هذا التصوّر النّظري للديمقراطية سرعان ما تفنّده الممارسة في الحياة السياسية. فلقد أنتجت المنظومة الرأسمالية حين تبلورت على أنقاض الاستبداد الاقطاعي، الديمقراطية الانتخابية القائمة على الاقتراع العام كأفضل أداة لممارسة الشعب سيادته على مصيره ” السياسي”. ولكن مع تبلور منظومة الأحزاب والبرلمانات وجدت الرأسمالية نفسها أمام مفارقة مأزقيّة بين ما تقرّه الفرضيات الديمقراطيات من ضرورة فصل السلطات وتوزيعها ضمانا للحرية من جهة وبين ما تكشف عنه الممارسة والحياة السياسية من  تمركز السلطة (السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية خاصة) شيئا فشيئا بين نفس الأطراف الحزبية/الطبقية، وقد أسهم اعتماد أنظمة الاقتراع بالأغلبيّة واستبعاد أنظمة النّسبيّة بداعي البحث عن استقرار الحكومات الى تعميق الازمة واستفحالها اكثر حيث انحصرت المنافسة الانتخابية ورهان السلطة السياسية في حزبين كبيرين يتداولان على السلطة بخيارات متقاربة وتحوّلت الانتخابات الى ممارسة استعراضيّة فلكلوريّة تغدق عليها دوائر ولوبيّات المال الفاسد والأعمال وتجنّد لها ادوات التّضليل والتّمييع الدّعائي  للحفاظ على مصالحها التي يلتزم برعايتها الحزبين الكبيرين كمقابل للدّعم في الحملات الانتخابية. انّنا امام مأزق سياسي كبير فالسلطة السياسية بأذرعتها التشريعية والتنفيذية أصبحت ممركزة بيد حزبين يعبّران عن مصالح نفس الفئات والطّبقات المكوّنة للبرجوازيات الكبرى وجزء من البرجوازيات المتوسّطة.

امام هذا الواقع اختار الشعب او الجزء الذي فقد الثّقة في الحلّ الديمقراطي البرجوازي الاستقالة والكفّ عن لعب دور المزكّي لأحزاب لا تخدم مصالحه بل تضرّ بها وهو ما يشهد له ارتفاع نسبة الامتناع عن التّصويت في كلّ التّجارب الديمقراطية دون استثناء وهكذا أصبحنا أمام ديمقراطية برجوازية تقصي أغلبية الشعب صاحب السّيادة وتجرّده من سيادته. وبدل احتكار السلطة من قبل الملك والارستقراطيّة أصبحت السلطة محتكرة من قبل الأحزاب المعبّرة عن مصالح البرجوازية. لقد تحولنا من ديمقراطية تروم تحقيق حكم الشعب إلى ديمقراطية دون الشعب (une démocratie sans le peuple ومن جهة أخرى أفضى تراجع الثّقة في الحلّ المؤسّساتي والأحزاب التقليديّة الكبرى وخاصة الاحزاب التي تحمل في أسمائها كلمة “اشتراكي” أو “اجتماعي” ولكن ممارستها تبيّن أنّها يمينيّة أكثر من أحزاب اليمين، أفضى إلى تنامي القوى الشعبويّة التي تمثّل إفرازا طبيعيا من إفرازات فشل المنظومة الرأسمالية على غرار فاشية ما بين الحربين الكبيرتين.

ومع تعمّق ازمة الديمقراطية التّمثيليّة، حاولت البرجوازية تجاوز أزماتها بابتداع آليّات وضمانات جديدة لتجاوز مأزقها على غرار محاولة ارجاع صاحب السّيادة الأصلي إلى ممارسة سيادته وإعادة الثّقة في النّموذج الديمقراطي البرجوازي  من خلال الديمقراطية شبه المباشرة كآليات الاستفتاء والاقتراح الشعبي وغيرها من الآليات التي تكمّل وتعاضد الديمقراطية التمثيلية التي وصفت كديمقراطية مناسباتيّة لتصبح مع تدعيمه بالديمقراطية شبه المباشرة بمثابة ديمقراطية مستمرّة. كما حاولت اعادة الاعتبار للدستور والقيّم الدستورية العليا وحماية حقوق الإنسان من تعسّف الأغلبيات البرلمانية غير إقرار نظام رقابة دستورية القوانين . ولكن التجارب العديدة تبين ان هذه الضمانات لم تنجح بالشكل المطلوب في اعادة ثقة الشعب في الديمقراطية ولا ادل عل ذلك من التنامي المطرد لنسب الامتناع عن التصويت في اعرق الديمقراطيات كما ظلت عملية مراقبة دستورية القوانين محاطة بعدة اسئلة تتعلق بحدود الرقابة وقدرتها على حماية الحقوق الأساسية ومدى نجاعة هذه الالية في فرض علوية الدستور وحدود ضمانات استقلالية القضاء الدستوري.

*أزمة الديمقراطية في بلداننا.

إن الديمقراطية قبل أن تكون أدوات واليات هي ثقافة وقيم ومبادئ والنواة الصلبة لهذه القيم تتشكل من  ثلاثية الحرية والمساواة والكرامة. الحرية لجميع المواطنين والمساواة بينهم في كل الحريات والحقوق  والكرامة لكل الافراد والفئات . ان تعاطي منظومات الاسلام السياسي مع الديمقراطية كآليات ووسائل دون استبطان القيم الديمقراطية تفضح الطابع المعادي للديمقراطية لهذه الحركات فهي حركات تعادي القيم الديمقراطية وخاصة الحرية والمساواة ولا تقبل بشمولية الحرية وكونيتها كما لا تقبل المساواة التامة في القوانين وأمام القوانين. ان المنطق الديمقراطي يقتضي أن تكون الإجراءات/ الوسائل / الأدوات (الانتخابات، الاستفتاء…)  في خدمة القيم / الأهداف (المساواة/ الحرية والكرامة). انه لمن المتناقضات الفاضحة/ الكاشفة أن يدعي طرف ما انه يؤمن بالديمقراطية وفي نفس الوقت يطلب ان يتم عرض فكرة المساواة في الميراث (كجزء من شرط المساواة التامة) على الاستفتاء. فهل ان الهدف هو بلوغ الغايات القيم الديمقراطية وتعزيزها أم هو ضربها ونسفها؟. ان الادوات الديمقراطية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تطبق على القيم الديمقراطية و إلا لتمكن أعداء الديمقراطية من اغتيال الديمقراطية كمنظومة قيم عبر الادوات ديمقراطية . إن مقاربة الإسلام السياسي هي مقاربة براغماتية تجزيئية ومناوراتية تأخذ بالوسيلة بمعزل عن غاياتها الديمقراطية لان الديمقراطية بالنسبة لهم ليست إلا مجرد آليات توصلهم في سياق تاريخي / اقتصادي واجتماعي ثقافي معين الى السلطة. إنها مجرد سلّم يتم التخلص منه بعد ان يصعدوا عبره الى سدة الحكم  ليبدأ اثر ذلك تنفيذ مشروعهم المعادي للديمقراطية والتقدم. إننا بصدد عقل مأزوم، عقل أداتي نفعوي مازال محكوما باليات اشتغال العقل القروسطي والتي حددها المفكر المصري نصر حامد أبو زيد في المنطلقات التالية:

-التوحيد بين الفكر والدين: اعتبار الاجتهادات البشرية المحكومة بالتاريخية والنسبية وبظروف المجتهدين الموضوعية والذاتي كجزء من الدين وما يعنيه ذلك من إهدار للبعد التاريخي، فللإسلام معنى واحد لا تؤثر فيه حركة التاريخ ولا يتأثر باختلاف المجتمعات وهذا المعنى الواحد الثابت لا يصل إليه إلا علماء الدين.

– رد الظواهر إلى مبدأ واحد هو مبدأ الحاكمية الإلهية ونفي فاعلية الانسان وقوانين الطبيعة ورفض العلمانية واعتبارها كفرا وحصر الدين في الشريعة التي لا تزيد عن كونها عمل بشري تاريخي ونسبي.

– اليقين الذهني والحسم الفكري ونفي حق الاختلاف ونسبية الحقيقة.

– إهدار البعد التاريخي عبر احلال الماضي في الحاضر والتمسك برأي السلف ورفض التقدم وإنكار التطور كسمة للحياة والوجود.

إضافة إلى ذلك، يجب الانتباه إلى أن الإسلام السياسي معادي للقيم الديمقراطية الليبرالية وفي نفس الوقت ينتهج الرأسمالية الاقتصادية، وهذه “السكيزوفرينيا” تدفع ثمنها المجتمعات العربية والإسلامية مزيدا من التخلف الثقافي والاقتصادي والسياسي لفائدة قوى التحكم والإلحاق الاستعماري.

اما القيمة الثالثة للديمقراطية فهي قيمة الكرامة وهي مبدأ أساسي من الحقوق الأساسية للإنسان. والمقصود بالكرامة هي ضمان ظروف عيش إنسانية ولائقة للأفراد والشعوب وهو التحدي الذي يعرّي منظومة الخيارات الرأسمالية التي تغلّب المصالح الضيقة للطبقات المسيطرة والحاكمة على حساب مصالح وطموحات الاغلبية العظمى من الشعب وقد ازدادت معاناة جماهير الكادحين والفقراء خاصة في الدول المتخلفة والتابعة حيث اجبرت على انتهاج  مقاربات تنموية ليبرالية موحشة تتجاهل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين رغم التنصيص علي هذه الحقوق في النصوص الدستورية فترتفع تبعا لذلك نسب البطالة والفقر وتسوء الخدمات والمرافق العامة من صحة وتعليم ونقل وسكن.. ويتم تدمير البيئة والمحيط بشكل غير مسبوق كما يتواصل انتهاك كرامة الشعوب من قبل منظومة رأسمالية عالمية تعيش فيها انظمة الدول الكبرى وتثري على حساب حق الشعوب الدول الصغرى في التحرر الوطني والاجتماعي وتقرير مصيرها بحرية ويتم ارتهان قرارها بالمديونية المشروطة وبالاملاءات المجحفة والمدمرة لأوطانها ولطبقاتها الكادحة والفقيرة خاصة.

*طبيعة أزمة الرأسمالية وحتمية تجاوزها.

 إن أزمة الرأسمالية هي أزمة شاملة، أزمة خيارات متوحشة مهما كان الشكل الذي تتخذه هذه الخيارات حداثويا أم محافظا ليبراليا أم فاشيا/ شعبويا . ويضاف إلى أزمة الخيارات أزمة الآليات والمؤسسات وهي أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية و قيميّة  وهو ما يؤكد الترابط الوثيق بين الديمقراطية السياسية وما تعنيه من إقرار لحقوق الأفراد الكونية والشاملة وفصل الدين عن السياسة وما يتطلبه من إدارة الصراع حول السلطة على أساس زمني/تاريخي/واقعي وعلى قاعدة صراع البرامج والرؤى والخيارات والديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. ومن البديهي ان الخيارات الليبرالية المتوحشة قد اثبتت التجربة التاريخية فشلها وقصورها في ضمان تحقيق كرامة الافراد والشعوب إذ لم تجن منها هذه الأخيرة غير الالحاق للدول الضعيفة وارتهان مصير شعوبها لخدمة حفنة من الدول المتربعة على عرش النظام الرأسمالي وهو ما يؤكد أن الحلّ هو إتباع خيارات تنموية تلبي مطامح الاغلبية الشعبية في العمل وفي الحق في مرافق عامة عصرية ولائقة وهذا الطابع الاجتماعي يتطلب موارد مالية كافية لترجمته في مشاريع وخدمات ملموسة. وقد بينت التجربة ان البرجوازيات التابعة في دول الاطراف فشلت في ابتكار مسارات تنموية تنهض بدولها وتستجيب لطموحات شعوبها في الكرامة والعيش الكريم لان هذه البرجوازيات خيرت طريق التبعية وخدمة مصالح الامبرياليات وهي تصر على انه ليس هناك من حل سوى الليبرالية المتوحشة التي لم تنتج غير التفقير والارتهان. إن حل أزمة الرأسمالية لا يمكن أن يتمّ من داخل منطق المنظومة السائدة بل على انقاض هذا المنطق بالذات. ان الحل يكمن في اتباع مقاربة جديدة ومنظومة مغايرة في خياراتها وأولوياتها. إن هذا الحل هو نهج الاشتراكية في الدول ذات الاقتصاديات الرأسمالية المتقدمة وفي انتهاج طريق التحرر الوطني والاجتماعي المبني على مقومات السيادة الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في الدول التابعة لأنه لا استدامة للحقوق السياسية ولا معنى لها دون تمكين اقتصادي واجتماعي وثقافي ولا يمكن تحقيق كرامة الفرد والشعوب في ظل الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المتوحشة التي لا يعنيها إلاّ هاجس وحيد وهو تحقيق الربح والربح الاقصى لصالح  راس المال.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×