الرئيسية / صوت الثقافة / تظاهرة 24 ساعة مسرح بالكاف: “عشب على حجر”
تظاهرة 24 ساعة مسرح بالكاف: “عشب على حجر”

تظاهرة 24 ساعة مسرح بالكاف: “عشب على حجر”

وهيبة العيدي متخرّجة من معهد الموسيقى والمسرح بالكاف

وهيبة العيدي متخرّجة من معهد الموسيقى والمسرح بالكاف

 الإهداء: إلى شهداء الكاف الذّين ماتوا في مواجهة الإرهاب

كما ينبت العشب بين مفاصل صخر، تنبت مدينة الكاف بين جبال الشمال الغربي، جبل الطويرف وورغة بشعابها وتعرّجاتها وأغوارها الموغلة في الإبهام والغموض المغري بالمغامرة، والمسكونة بالمفاجآت وبالموت أحيانا.

كما ينبت الحب بين شغاف القلب وتلافيف الذاكرة وتعاريج الوجدان الخطرة والمملوءة بالمسالك الواهمة وبالحياة دائما.

 أزهرت نوّارة تظاهرة الـ24 ساعة مسرح كعادتها، لتملأ رائحتها شوارع الكاف الوعرة وتحوّلها إلى متاهة من الفن والفرجة والحركة.

هي حركة الضوء في وجه العتمة تشعّ بدفئها رغم برد الكاف اللاذع المتسلل عبر سماء ماطرة في شهر الطير، شهر مارس الذّي حدّثني عنه جدّي بأن “أمطاره ذهب خالص” وهي الضامن للصابة في السنوات العجاف.

في هذا الشهر وفي التاسع عشر منه كانت إحدى جمرات النحس ونذير العتمة في متحف يختزن ذاكرة شعب (متحف باردو).

وفي آخر الشهر جاءت أمطار الكاف بتظاهرة 24 ساعة مسرح لتغسل أدران ضجّت بها الأرض، وتمسح سوادا كاد يلف آخر أشعّة الضوء، كذلك هو المسرح دائما حمّال همومنا وملجأنا حين تدلهمّ أمامنا السّبل.

من مركز الفنون الدرامية والركحية تتسرّب العروض المسرحية، والعروض الموسيقية لتعمّ أركان الكاف العالي، حيث البازليك ورائحة التاريخ الفوّاحة كالعطر الذائع من احتراق عود النّد، كانت مسرحيّة “السقيفة” تؤثث معانيها من جدران القصبة، لتستلهم من التاريخ منعرجاته الحاسمة في تطور الحضارة العربية الإسلامية، “سقيفة بني ساعدة” أولى إرهاصات الصراع والبذرة التي شكّلت مستقبل الفتنة والتقاتل..

عبر المسرح حاولت التظاهرة ترميم ما كان قد خُرِّبَ في النفوس وفي العقول من زيف التأويل، فدخل المسرح إلى أركان المدينة وزواياها وشوارعها المهندسة كمدارج منزل ينام في حضن جبل، دخلت العروض إلى فضاءات صغيرة تحت عنوان “مسرح الجيب”، لتقول لنا أنه علينا أن نحمل المسرح ونحميه ككتاب بين طيات ثيابنا وقلوبنا وعقولنا.

فالتظاهرة وهي تغالب الانغلاق والتطرّف والعتمة، وهي تفتح على التمفصل القائم بين الممكن الإنساني دونما إقصاء كان فضاء البازليك “المعبد الروماني”، كانت دار الكاهية بهويتها وأصولها وطابعها المعمّد بتاريخ الكاف والشمال الغربي. لم تقتصر أشعّة ضوء التظاهرة على الكاف المدينة بسجنها ودور مسنيها، بل تسرّبت إلى المعتمديات المحرومة من الفن والفرجة والثقافة، فشملت تاجروين ونبّر والجريصة والكريب والسرس والدهاني وتيبار وفرنانة و ساقية سيدي يوسف، ذهبت التظاهرة إلى الأعماق وفاضت على الكاف لتعمّ الولايات المجاورة، في محاربة حقيقية لثقافة الموت حاملة راية ثقافة الحياة والفرجة، فالمشهد في هذه المناطق لم تعد تغلب عليه مشاهد الإرهاب والعنف فهناك مشهد آخر ينبض بالممكن الأجمل وبالبهجة والتفاؤل والعطاء وزرع شجرة المسرح التي بقيت عبر العصور أصلها في الرّكح وفروعها في المنتج الحضاري الإنساني.

تظاهرة بهذا الحجم وبهذا الحلم الممكن، لم تلق للأسف الدّعم المطلوب لا المادّي ولا المعنوي ولا السياسية من سلطة آلات على نفسها كما تدّعي في خطابها أنها تراهن على الثقافي في اجتثاث السواد من العقول ومن البلاد، لم يحضر من وزارة الثقافة في تظاهرة دولية شاركت فيها فرق من الجرائر ومن مصر ومن إيطاليا وكانت مسبوقة بندوات علمية قيّمة طيلة ثلاثة أيام متتالية أثثها نخبة من خيرة المشتغلين في المجال الثقافي والمسرحي تحديدا مثل رضا بوقديدة وجليلة بكّار ولبنى مليكة وعمر علوي وغيرهم.. مثل هذه التظاهرة لم يحظر افتتاحها سوى المعتمد الأول بالجهة، لا وزيرة الثقافة ولا من يمثّل ديوان وزيرة الثقافة ولا والي الجهة..

هذا التهميش لا يليق بمثل هكذا تظاهرة، هذا علاوة على الدّعم المادي الذي لم يرتق إلى مستوى حفل عشاء تقيمه الوزارة أو وصولات البنزين التي تستهلكه سيارة الإدارة. دعم 5000 دينار لا تكفي تذاكر الفرق المشاركة من داخل البلاد فما بالك من خارجها.

وحده الأستاذ والمسرحي سامي النصري مدير مركز الفنون الدرامية والركحية يعمل مع فريقة الإداري ومع مثقفي الجهة على أن تكون للجهة اشعاعها وللتظاهرة صيتها وسطوتها..

رغم كل ذلك التعتيم والتهميش من قبل السلطة الذي لا ندري إن كان سهوا أم عمدا، فإن التظاهرة قد نجحت في استقطاب الجمهور من ولاية الكاف ومن خارجها، رغم بعض العروض التي لم تكن حسب رأي في مستوى تاريخ هذا الحدث، وهي لا تعدو أن تكون عرضا أو اثنين، وذلك مردّه أن إدارة المسرح جازاها المسرح خيرا لم تتكرّم على التظاهرة إلاّ بستة عروض.

عسى أن تستفيق الوزارة والوزيرة في الدورات القادمة والتظاهرات المماثلة وتجعل من الثقافة أساس متين في بناء عقلية ووعي عام لا تأخذه سنة ولا نوم في مواجهة شوائب الحياة من تطرّف وإرهاب وميوعة وغيرها…

وهيبة العيدي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×