الرئيسية / الافتتاحية / جدل حول إقامة “الحدود” وحقوق الإنسان
جدل حول إقامة “الحدود” وحقوق الإنسان

جدل حول إقامة “الحدود” وحقوق الإنسان

 بقلم: حمه الهمامي

 كنا نشرنا في العدد الصادر من جريدة المغرب بتاريخ الخميس 2 أوت نصا يعود صدوره إلى ماي 2001 وهو يتناول موقع الحريات الفردية في المشروع المجتمعي  لحركة النهضة وغيرها من قوى “الإسلام السياسي”. وما دفعنا إلى إعادة نشر ذلك النص هو عودة الجدل حول هذه المسألة بمناسبة صدور تقرير “لجنة الحريات الفردية والمساواة”. وفي نفس السياق نعيد اليوم نشر نص آخر يهم هذه المرّة مسألة “الحدود” وحقوق الإنسان. وهذه المسألة أُثِيرت من جديد بمناسبة نشر التقرير المذكور أيضا بما يطرح تعميق الجدل حولها:  

وفي ما يلي نصّ المقال:

 إنّ جانبا آخر من مسألة الحرّيات/الحقوق الفرديّة يتعلّق بحقّ المواطن في احترام حرمته الجسديّة، ممّا يعني، وفقا للمواثيق الدّوليّة الخاصّة بحقوق الإنسان، والتي تعتبر جزءا من المنظومة القانونيّة لأيّ دولة وافقت عليها، عدم تعرّضه للتّعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبات القاسية أو اللاّإنسانيّة أو المهينة. ويُعدّ هذا الحقّ، حقّا غير قابل للتّصرّف، في كلّ الظّروف، حتى لو كانت حربا. ويمثّل انتهاكه، انتهاكا لكرامة الإنسان. والمطّلع على البيان المشترك (مواعدة ـ الغنوشي) الصادر في مارس 2001 بمناسبة مرور 45 سنة على إعلان الاستقلال، وعلى البيان الختامي للمؤتمر السّابع لحركة النهضة الصادر قبل مدة، يلاحظ أنّهما لم يتعرّضا لموضوع التّعذيب خاصة والعقوبات الجسدية عامة ولم يدرجا ضمن لائحة المطالب الواردة فيهما بندا يهمّ النّضال من أجل استئصال ممارسة التّعذيب ومحاكمة المسؤولين عنها أمرا وتنفيذا.

     ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أنّ محمد مواعدة أو راشد الغنّوشي ومناضلي “حركة النّهضة” لا يشهّرون بممارسة نظام بن علي التّعذيب والحال أنّهم، وخاصّة مناضلي “حركة النّهضة” من أكبر ضحايا تلك الممارسة وقد مات العشرات منهم بسببها في مراكز البوليس والحرس ومقرّات “أمن الدّولة” و”المصالح المختصّة” بوزارة الدّاخليّة وفي السّجون. ولكن ليس هذا هو الذي يهمّنا في هذا الباب، بل موقف “حركة النّهضة” الرّاهن من مسألة “الحدود الشّرعيّة” وهل هي لا تزال متشبّثة بها ضمن برنامجها السّياسي أو أنّها تجاوزتها باعتبارها تندرج ضمن العقوبات القاسية، اللاّإنسانيّة والمهينة، حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادّة 5) والعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة (المادّة 7) والاتّفاقيّة الدّوليّة لمناهضة التّعذيب (المادّة 1). 

   ومن المعلوم أنّ المقصود بالحدود هو جملة “العقوبات الشّرعيّة” كالجلد (التعزير) وقطع يد السّارق والرّجم والقتل أو الصّلب أو تقطيع الأطراف بخلاف أو النّفي. وقد أكسب الفقهاء هذه العقوبات الواردة في النّص القرآني (عدا الرّجم الذي لا نجد له ذكرا وإن كان مورس في العهد الإسلامي الأول في مادّة الزّنى) طابعا “قدسيّا” واعتبروها “شريعة اللّه” التي لا تمسّ و”الصّالحة لكلّ زمان ومكان”. وقد تبنّتها الحركات “الإسلاميّة” المعاصرة وحوّلتها إلى محور أساسي إن لم نقل العمود الفقري لبرامجها وأهدافهـا ودعايتها وجعلت منها الخطّ الفــاصل بين الإيمــان والكفر في تصنيفها للدّول والمجتمعات والأحزاب والتّنظيمات وحتّى الأفراد (من يقبل شريعة اللّه ويعمل بها ومن لا يقبلها ولا يعمل بها). ويعلم الجميع أنّ “حركة النّهضة” من بين تلك الحركات التي تبنّت الحدود ودافعت عنها في إطار تصدّيها للتّشريعات الوضعيّة التي عوّضت العمل بتلك الحدود في تونس وفي عدد آخر من الأقطار العربيّة والإسلاميّة. كما أنّها نظرت دائما بعين الرّضى إلى الأنظمة العربيّة والإسلاميّة التي حافظت على العمل بالحدود واعتبرت العودة إلى العمل بها في بعض الدّول والمجتمعات علامة “صحوة إسلاميّة” وخلاصا من “العلمانيّة الملحدة”!!

    ونحن في الحقيقة إذ نثير هذه المسألة في هذا الرّدّ فلأنّنا نريد طرحها مرّة أخرى برصانة وموضوعيّة، إذ أنّنا نرفض أن نستفزّ أحدا في مشاعره الدّينيّة، بل إنّنا نثيرها لأنّنا لا نعتبرها من صلب الإيمان، بل قضيّة سياسيّة اجتماعيّة، من حقّ كافّة التّونسيّين والتّونسيّات مناقشتها بكلّ حرّية لأنّها تعنيهم معنويّا ومادّيّا، ولأنّه حسب الموقف منها يحدّد المرء موقعه إن كان في تيّار التّقدّم الإنساني الجارف أم في تيّار التّخلّف المتجلبب بجلباب الدّين والإيمان. وأوّل شيء نريد الإشارة إليه في هذا الموضوع هو أنّ مسألة الحدود أُحيطت إلى حدّ الآن في الأدبيّات الإسلاميّة بمغالطات كبيرة وكثيرة ما انفكّت تحرج ضمير المسلم وتربكه وتعمّق قلقه وحيرته في عالمنا المعاصر وما شهده ويشهده من تطوّرات قيميّة هامّة شملت جميع المجالات بما فيه مفهوم العقوبات، فتراه ممزّقا بين الرّغبة في مسايرة التّقدّم البشري وبين الخوف من أن يكون بمسايرته تلك قد “تنكّر لإيمانه” حسبما تقوله له المؤسّسات الدّينيّة وأشباه العلماء.

 مغالطات

    وما من شكّ في أنّ أهمّ تلك المغالطات المنافية للمعرفة العلميّة، الموضوعيّة، تتمثّل في المحاولات المستمرّة لطمس مصادر تلك “الحدود” التّاريخيّة وبالتّالي عزلها عن أطرها الاقتصادية والاجتماعية والقيميّة والمعرفيّة، حتى لا يتمكّن المسلم من إعمال العقل فيها وخاصّة من تنسيبها والتّعامل معها كمنتجات تاريخيّة، ظرفيّة وانتقاليّة. إنّ كافّة العقوبات التي حوّلها الفقهاء والمؤسّسات والحركات الدّينيّة عبر التّاريخ الإسلامي، القديم والحديث، إلى منظومة تشريعيّة مقدّسة هي دون استثناء أعراف وتقاليد عربيّة ما قبل إسلاميّة وليست كما يُراد الإيهام به “استحداثات قرآنيّة ربّانيّة تتجاوز عقول البشر”. فقطع يد السّارق مثلا كانت عقوبة معروفة في مكّة. ولا تُخفي كتب التّاريخ والتّفسير أنّ أوّل من سنّها قد يكون الوليد بن المغيرة (والد خالد) وهو أحد أثرياء قريش ومن الأشخاص الذين كان يُحتكم إليهم وقد كان يعمل جزّارا وقضى بقطع يد السارق فصار حكمه هذا سنّة في معاقبة السّرقة. وقد كانت توجد قبائل عربيّة أخرى تعاقب السّارق عقوبة أخفّ، غير جسديّة تتمثّل في إرغامه على دفع أربعة أمثال المسروق. ولكنّ القرآن أخذ ما كان سنّة في قريش التي جاء فيها الإسلام.

     ومن جهة أخرى فقد كان الجلد، ويسمّى “التّعزير”، يُستعمل في الحواضر بشكل خاصّ لمعاقبة عدّة مخالفات (السبّ والشّتم والتّحرّش بالنّاس…). كما كان الطّرد والنّفي من أرض القبيلة أو من المدينة والخلع والتّبرّؤ من الشّخص عقوبات سارية المفعول في الوسط القبلي العربي “الجاهلي”. أمّا الرّجم بالحجارة حتى الموت فقد كان عقوبة موجودة عند العرب، وإن لم تكن مألوفة، وهي تطبّق على “المرأة المحصّنة الزّانية” فقط (مع أنّ العبرانيّين كانوا يرجمون “الزّاني والزّانيّة”). وتذكُر كتب التّاريخ والتّفسير أنّ أوّل من مارس عقوبة الرّجم هو ربيع بن حدّان. وكان العرب في “الجاهليّة” يطبّقون عقوبة تقطيع الأيدي والأرجل أيضا في أعمالهم الثّأريّة والانتقاميّة. وكان القتل عقوبة القاتل إلخ… 

وخلاصة القول إنّ كافّة هذه العقوبات هي منتجات تاريخيّة، سنّها العرب أو بعض قبائلهم، قريش خاصّة، (أو غير العرب لأنّ بعض هذه العقوبات كان يطبّق عند أقوام أخرى: أنظر قانون حمو رابي، والشّريعة التّوراتيّة إلخ…) لمواجهة المشاكل التي تحدث لهم. والمتمعّن فيها يلاحظ أنّها تتّسم بالعنف والقسوة. ولا سرَّ في ذلك. فهي تحمل سمات الأطر الاجتماعية والقيميّة والمعرفيّة التي أنتجتها.

   لقد كان المجتمع العربي قبليّا. وكان عامل القوّة هو الذي يحكم العلاقات بين القبائل. لذلك اتّسمت تلك الحدود/العقوبات بالقسوة. كما انّه لم تكن توجد في ذلك العصر، سلطة (دولة) وقوانين ومؤسّسات عقابيّة تقاضي المخالفين والجناة باسم المجتمع، بل كان الفرد أو قبيلته هي التي تثأر له بالقوّة لذلك اتّسمت تلك الحدود/العقوبات بطابع جسدي مباشر، انتقامي، ترهيبي. لقد كان المخالف أو الجاني “يدفع بالحاضر” من جسده (في بعض الحالات كانت بعض القبائل والأفراد يقبلون مبدأ التّعويض: الديّة).
وبالطبع فإنّ تبنّي الإسلام (قرآنا وسنّة وفقها) تلك الأعراف والتّقاليد العربيّة (القرشيّة وبدرجة أقلّ المدنيّة) “الجاهليّة” وإدراجها ضمن منظومة عقابية متميّزة، لا ينفي عنها بأيّ حال من الأحوال تاريخيّتها، لأنّ الإسلام ذاته لم يكن معزولا إطلاقا عن ظرفيّته التّاريخيّة التي حمل خصائصها في كافّة مستويات خطابه. كما أنّه لا ينزع عنها طابعا القاسي، وهو طابع لم تختصّ به المنظومة العربيّة الإسلاميّة العقابيّة وحدها في ذلك التّاريخ وحتى بعده، بل كلّ المنظومات العقابيّة في حضارات ومجتمعات “القصاص”، مع فوارق جزئيّة مرتبطة بالخصوصيات التّاريخيّة وبالأعراف والتّقاليد وبدرجة التّطوّر الحضاريّة والثّقافيّة.

 منتجات تاريخية

   وهكذا فإنه من الحكمة أن يتعامل المرء مع تلك المنظومة العقابيّة باعتبارها نتاجا تاريخيّا، نسبيّا وانتقاليّا. وهذه الحقيقة وجد، منذ العهد الإسلامي الأوّل إلى عصرنا الحاضر، أُناس نيّرون، وفطنون، قبلوها بهذا القدر أو ذاك فتعاملوا مع مسألة الحدود بروح خلاّقة فيها جرأة ومراعاة للظّروف ولتغيّر الأحوال من عصر إلى عصر. وهذا ليس بالأمر العسير. فيكفي أن يتحلّى الإنسان بقليل من الرّشاد لكي يقتنع بأنّ الواقع البشري والاجتماعي المتغيّر باستمرار لا يمكن أن تبقى فيه الأحكام هي نفسها، معزولة عن تلك التغيّرات والحال أنّها، أي الأحكام، ابتدعت أصلا لتنظيم علاقات النّاس بعضهم ببعض حسب درجة تطوّر تلك العلاقات وبالتّالي فكلّما تطورت، إلاّ واستوجب تنظيمها سنّ أحكام جديدة تراعي هذا التطوّر. وهو ما يجعل من القول بسرمديّة الأحكام والقوانين قولا خطلاً. فمهما حاولت أنظمة الحكم الرجعية والمستبدّة التّمسّك بها تبقى عاجزة عن الصّمود أمام تيّار التّطوّر، فتتآكل تدريجيّا إلى أن تعوّض بأحكام وقوانين جديدة.

     ذلك هو حال منظومة الأحكام الشّرعيّة الإسلاميّة التّقليديّة في مختلف المجالات. فحتى في البلدان “الأكثر تشدّدا” في الدّين، وجد الحكّام أنفسهم مجبورين، على إدخال تعديلات كثيرة عليها، في المجالات الاقتصادية والماليّة والتّجاريّة، خصوصا، حفاظا على مصالح دولهم، علما أنّهم اضطرّوا في أوقات سابقة إلى التّخلّي، بسبب الضّغوط الدّوليّة، عن الأحكام المتعلّقة بالرّقيق، وبـ”أهل الذّمة”.
وعلى هذا الأساس فإنّه من الخطأ أن يستمرّ المواطن في البلاد العربيّة والإسلاميّة، يُوهَم بسرمديّة “الحدود” وصلاحها لكلّ زمان ومكان والحال أنّه بينه وبين الزّمن الذي ظهرت فيه ما يزيد عن السّتّة عشر قرنا شهدت خلالها أوضاعه وأوضاع المجتمعات البشريّة عامّة انقلابات عظيمة في مختلف الميادين فرضت إعادة تنظيم العلاقات داخل المجتمعات على أسس جديدة كانت وراء بروز مفاهيم الحرّية وحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة بمعانيها الحديثة والمعاصرة (اللّيبراليّة والاشتراكية إلخ…).

 التقدم ضرورة

    فمن باب أولى وأحرى إذن ان يكون من حقّ ذلك المواطن، وهو يعيش في ظروف كونيّة جديدة أن يتبنّى منظومة عقابيّة تقوم على قيم جديدة تختلف عن تلك التي أنتجت قبل ستّة عشر قرنا، أحكام قطع اليد والجلد والرّجم وتقطيع الأطراف (فضلا عن الرقّ والسّبي…) منظومة عقابيّة تراعي كرامة الإنسان وفق المعايير المعاصرة، تسلب الجاني حرّيته ولكنّها لا تنتهك حرمته الجسديّة والمعنويّة وتؤمن بقدرته على التّطوّر والإصلاح إذا توفّرت له الظّروف الاجتماعية والنّفسيّة والسّياسيّة المناسبة، فلا تؤذيه ولا تحرمه من اعضائه، كاليد التي جعلت للعمل والإبداع وليس للقطع مهما كان السّبب، كما لا تحرمه من الحياة (إلغاء عقوبة الإعدام…). 

ونحن لا يسعنا إلاّ أن نتساءل بكلّ صراحة: هل أنّ المسلم يتضرّر حقّا في إيمانه وفي هويّته أو هل هو يتنكّر لهما، كما تزعم الحركات “الإسلامويّة” وبعض المؤسّسات الدّينيّة المحافظة وأشباه العلماء، حين يقبل التّخلّي عن العقوبات القاسية المذكورة أعلاه؟ فهل الإيمان أصبح يختزل في التّمسّك بتطبيق هذه العقوبات؟  وهل أنّ مصيره ومصير الإسلام صار مرتبطا ببقائها ممّا يعني أنّها أصبحت آخر المعاقل الرّمزيّة التي ينبغي الحفاظ عليها حتى لا ينهار البنيان؟

    ثمّ أفلا يدفع إصرار هؤلاء على التّمسّك بالجلد وقطع اليد والرّجم وتقطيع الأطراف بخلاف وغيرها من العقوبات الجسديّة القاسيّة والوحشيّة بمعايير الإنسانيّة التّقدّمية المعاصرة، إلى الاعتقاد بأنّ اللّه عندهم وفي منظورهم لا يحتمل الانفصال عن تلك الصّورة القاسية والرّهيبة التي توحي بها تلك الأحكام وبالتّالي لا يحتمل أن يوجد النّاس طريقة “أرحم” و”أرأف” في معاملة بعضهم بعضا؟ أفلا يوحي هذا بأنّ استمرار الإيمان بالّله في نظرهم مشروط بالاستمرار في خوف الإنسان منه، وفي الحفاظ على علاقة استلابيّة به وهي علاقة تُغذّي في الواقع العلاقة الاستلابيّة بالحاكم وبرجال الدّين ومؤسّساته؟
وعلى صعيد آخر فهل أنّ هويّة المسلم مهددة حقّا بالتّفسّخ إذا عُوّضت “الحدود” المذكورة بعقوبات أخرى أكثر إنسانيّة من منظور معاصر؟ وبعبارة أخرى هل أنّ قطع اليد والجلد والرّجم أمام العموم وتقطيع الأطراف بخلاف هي علامات أو رموز هويّة المسلم فإذا تركت لم يعُدْ هُوَ؟ أهذه هي الصّورة التي تعطى عن المسلم؟ أفلا يضعه هذا الطّرح في وضع محرج ومربك أمام الضّمير الإنساني (نقصد بالضّمير الإنساني عصارة القيم التّقدّميّة التي أنتجتها الإنسانيّة وليس ضمير بوش أو بلير أو شارون الغارق في البربريّة) فإمّا “الحدود” للحفاظ على الهويّة وإمّا التّفسّخ و”الكفر” لمجاراة التّقدّم الإنساني؟ أفلا تتحوّل الهويّة هُنا إلى مرادف للتّخلّف؟ ومن له مصلحة في وضْع كهذا غير أنظمة الاستبداد المتخلّفة وغير القوى الإمبرياليّة والصّهيونيّة التي يهمّها أن يظلّ المسلم غارقا في تخلّفه، يقضي وقته متلهّيا بالصّراع حول الكفر والإيمان، تاركا أسباب التّقدّم لغيره من الأمم؟

 الهويّة تتطور

   ولسائل أن يسأل: هل الشّعوب والبلدان التي كانت تمارس أو تطبّق نفس العقوبات التي ذكرناها والتي تشكّل في ثقافتنا “جزءا من الشّريعة الإسلاميّة” وفي ثقافتهم جزءا من “شريعة توراتيّة” أو من قانون روماني أو مجرّد أعراف وتقاليد، هل هي فقدت هويّتها؟ أم هل أنّ هويّتها على العكس من ذلك تعزّزت وتدعّمت بحكم تمدّنها وتحضّرها؟ ولم نحن نذهب بعيدا، فهل أنّ الشّعب التّونسي الذي لم يعد يعمل بالحدود في مجال المخالفات والجنايات قد ضاعت هويّته بل روحه لأنه لم يعد يتجمّع في السّاحات العموميّة ليتفرّج على قطع الأيدي أو قطع رأس بالسّيف ويصفّق أو ليشارك في عمليّة رجم؟ ألم يشكّل تخلّصه من هذه المظاهر تطوّرا في نزعته المدنيّة والإصلاحيّة الأمر الذي يجعله اليوم من أكثر الشّعوب العربيّة حساسيّة لقضايا حقوق الإنسان ومنها قضيّة التّعذيب مثلا؟ فهل أنّ المطلوب اليوم العودة إلى تطبيق “الحدود” لإعادة “الرّوح” للشّعب التّونسي أم المضيّ به قُدما نحو مستقبل تستأصل فيه كافّة مظاهر التّعذيب والعقوبات والمعاملات القاسيّة واللاّإنسانيّة والمهينة بمقاييس العصر (لأنّ الحدود كانت تبدو عقوبات عاديّة وطبيعيّة عند النّــاس في عصور ســابقة…)؟ وحتى من زاوية المقدّس: أيّهما في نهاية الأمر أحقّ بـ”التّقديس”: كرامة التّونسي وحرمته الجسديّة أم حد قطع الأيدي والجلد والرّجم؟ هذا هو مربط الفرس. فالمسألة اجتماعيّة سياسيّة في الأساس مدارها موقع المواطن (المواطن العادي البسيط: عاملا كان أم فلاّحا أم موظّفا أم عاطلا عن العمل) في العلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة. فـ”تكريم الإنسان” ليس بالخطب، بل بالحفاظ على كرامته وحرمته الجسديّة والمعنويّة وحمايتها قانونا وعملا من أيّ انتهاك، باعتبارها أمرا غير قابل للتّصرّف في كلّ الحالات وفي كلّ الظّروف.

    وإلى ذلك كلّه فإذا كانت “حركة النّهضة” لا تزال متشبّثة بتطبيق الحدود فلماذا إذن تُشْهر اليوم في وجه نظام بن علي الغاشم، الظّالم، الذي جعل من التّعذيب والمعاملات والعقوبات القاسيّة واللاّإنسانيّة والمهينة أسلوب حكم لردع الشّعب ولردع معارضيه، لماذا تُشهر الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والاتفاقية الدّوليّة لمناهضة التّعذيب وتطالبه باحترامها وتناشد المجتمع الدّولي بإلزامه بتطبيقها مع علم أنّ تلك المواثيق والاتفاقيات تعتبر أنّ ما يسمّى بـ”الحدود الشّرعيّة” عقوبات قاسيّة لا يوجد في عصرنا أيّ مبرّر لمواصلة العمل بها؟ أفلا يعبّر هذا السّلوك عن موقف مزدوج؟ وكيف تردّ “النّهضة” على من يتّهمها في هذه الحال باستخدام مبادئ حقوق الإنسان اليوم لأغراض “تكتيكيّة” لأنّ لها فيها مصلحة مباشرة (حماية مناضليها) أو لأنّها تضعف خصمها (بن علي) محلّيا ودوليّا بينما هي لن تتورّع عن انتهاك هذه المبادئ حالما يتغيّر وضعها؟

    أيّ مستقبل للشّعب التّونسي إذن إذا كان سيتخلّص من نظام بن علي البوليسي الغاشم ليجد نفسه مثلا في نظام يقطع اليد ويرجم ويقطع الأطراف بخلاف ويزيح الرّؤوس في السّاحات العموميّة بدعوى “العمل بالشّريعة الإسلاميّة”؟ فهل أنّ العصى، والآلة الحادّة أو الصّعقة الكهربائيّة يتغيّر طعمها حين تنتقل من يد بن علي إلى يد “حاكم إسلامي”؟ أو هل أنّ التّعذيب والعقوبات القاسية واللآّإنسانيّة والمهينة تتحوّل طبيعتها إذا غلّفت بغلاف ديني إسلامي؟ لا نعتقد ذلك. فهي تبقى قاسيّة ولا إنسانيّة ومهينة مهما كانت مسوّغاتها. ونحن لا نعتقد أنّ الشّعب التّونسي الواعي، النّير، المنفتح، يرضى بأقلّ من الالتزام بما جاء في الاتّفاقيّة الدّوليّة لمناهضة التّعذيب. ولا نراه يرضى بالعودة إلى الوراء، إلى تطبيق الحدود مهما كانت المسوّغات والتّبريرات. كما لا نراه يرضى بمؤسّسات عقابيّة (سجون) لا توفّر الحدّ الأدنى الذي يحفظ كرامة البشر الجسديّة والمعنويّة. وهذا ما ينبغي أن تعيه القوى السّياسيّة التي تعارض اليوم الدّكتاتوريّة، حتى يكون لمعارضتها معْنى يجاري حركة التّاريخ والتّقدّم، وحتى تكون في مستوى الاستجابة للحدّ الأدنى من طموحات البلاد والمجتمع. وعلى هذا الأساس فإنّ أي تحالف بين قوى المعارضة التّونسيّة ضدّ الدّكتاتوريّة النوفمبريّة لا بدّ له من أن يتبنّى بندا يقضي بالنّضال من أجل استئصال ممارسة التّعذيب ومحاكمة المسؤولين عنها أمرا وتعذيبا كما يقضي بالتزام جميع الأطراف بالنّضال من أجل التّخلّي عن العقوبات القاسيّة واللاّإنسانيّة والمهينة وفقا للبند (5) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والبند (7) من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والاتّفاقيّة الدّوليّة لمناهضة التّعذيب التي لا ينبغي التّراجع في التّوقيع عليها من قبل الدّولة التّونسيّة بأيّة ذريعة كانت دينيّة أو غيرها. 

 

(مقال نشر بجريدة المغرب بتاريخ 09 أوت 2018)

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×