الرئيسية / أقلام / جمال الجلاصي: “الكتابة هي شهادة قويّة على ما يحدث في هذا العالم”
جمال الجلاصي: “الكتابة هي شهادة قويّة على ما يحدث في هذا العالم”

جمال الجلاصي: “الكتابة هي شهادة قويّة على ما يحدث في هذا العالم”

جلاصيجمال الجلاصي، عالم من اللّغة التي تكثّف مختلف العوالم الإنسانية والحضارات، في شهادة إبداعية على الواقع ومعالجة فنيّة له..هو شاعر، روائيّ ومترجم تونسي لا يمكن تعريفه بالجوائز التي حصدها، رغم أهميتها، وإنما بمنجزه الأدبي وتاريخه الإبداعي ومواقفه النضالية..

صدر له مؤخّرا في الشعر ديوان “لا مجد لصوتي خارج أغنيتها”، في الرواية “باي العربان” وفي الترجمة “الإله الصغير عقراب” لروبارت ايسكاربيت و”السيّد الرئيس” لميغيل أنخل أستورياس”..

قابلته “صوت الشعب” وأجرت معه هذا الحوار:

جمال الجلاصي لكلّ منّا تلك اللّحظة المكثّفة التي تخزّنها الذّاكرة كأوّل لحظة اكتشاف للهويّة الذّاتية متى كانت تلك اللّحظة وكيف سكنتك اللّغة ؟

 كان ذلك مبكّرا نوعا ما بين السّادسة والسّابعة من عمري، أذكر ذلك اليوم جيّدا، يوم ذهبت أمّي لعزاء امرأة من قريتنا توفّي زوجها البحّار، كنت متّكأ على ركبة أمّي أشاركها الاستماع إلى الأرملة الحديثة تصف لوعة انتظارها لزوجها، وصول خبر غرقه وموته،

تفاصيل حزنها الدّقيقة ، كنت أستمع اليها وأنا أتخيّل نفسي أكتب قصّة تلك المرأة، وهو ما حدث لاحقا في رواية “الأوراق المالحة”…

الرّغبة في الكتابة إذن كانت فطريّة ومنذ اكتشافي لتلك الفطرة كانت الكاتبة تتخذ مفهومها بالنّسبة إليّ: الكتابة نقل المعاناة أو التّنفيس عنها الكتابة هي شهادة قويّة على ما يحدث في هذا العالم.

متى كانت “شهادتك” الأولى على ما يحدث وعلى ماذا أدليت بشهادتك ؟

أوّل قصّة نشرت لي كانت بعنوان “خبز وياسمين” تروي يوما من حياة طفلين في قليبية: ولد يبيع الخبز وفتاة تبيع الياسمين …

ومنذ تلك اللّحظة أصبحت حياتي فجائية…

ماذا  تقصد بالفجائية ؟

فجأة شيء ما أصبح يبعدني عن رفاق اللّعب متّجها إلى الكتابة والاستماع إلى الموسيقى، كنت أكتب في كرّاس عنونتها ب “هذيان واع جدّا” وكنت أقرأ محاولاتي لأصدقائي.

فجأة اتصلت بي مجموعة من نادي السينمائيين الهواة في قليبية وطلبوا منّي قراءة الشّعر في يوم الأرض مع الفنّان زين الصّافي الذي كان أستاذي بالمعهد آنذاك …

لقد كانت تلك الدّعوة أوّل اعتراف علنيّ بي كشاعر يأتي من الخارج.

هذه إذن بداية الطّريق إلى مدن الشّعر كيف كانت تلك الرّحلة ؟

بدأت الرّحلة مع مهرجانات الأدباء الشّبّان بكلّ تراب الجمهوريّة وهكذا انتقلت من المجموعة الرّياضيّة كحارس مرمى بالنّادي الأولمبي القليبي إلى المجموعة الأدبيّة وتعرّفت على الأدباء الشبّان آنذلك: تعرّفت إلى مجدي بن عيسى، مراد العمدوني، عادل المعيزي، نصر سامي وغيرهم الذين أطلق علينا فيما بعد إسم “أدباء/شعراء التّسعينات” مؤسّسين لأوّل مرّة “الملتقى الوطني للشّعراء الطّلبة”.

هل  كان الشّعر بالنّسبة إليك متل القصّة شهادة عن الواقع أم كان فضاء للخيال؟

إن كان المقصود بالخيال الغزل فلم أكن أفكّر يوما بكتابة قصيدة غزليّة، لقد كان الشّعر بالنّسبة إليّ مرتبطا برسالة إنسانيّة وبحثا معمّقا عن معنى الوجود ومحاولة للمساهمة في التّغيير الإيجابيّ لحياة المسحوقين والفقراء.

يمكننا القول إذن أنّ فترة الجامعة كانت فترة تأسيس جمال الجلاصي كشاعر يؤثث هذا العالم ؟

يمكننا قول ذلك، كنت طالبا في كلّيّة العلوم القانونيّة بأريانة، في تلك الفترة أيضا بدأت أولى محاولاتي في التّرجمة مترجما نصّ “النّائم في الوادي” لرمبو وبعض النّصوص الأخرى لما يسمّى بالشّعراء الملاعين في فرنسا كما بدأت في كتابة الصّفحات الأولى من  رواية ” الأوراق المالحة” لتكون خلافا لكلّ التّوقّعات أوّل عمل منشور لي سنة 2004.

إذا سألتك ما التّرجمة بماذا تجيبني ؟

“التّرجمة هي السّلطة. فمن يمتلك لغة أخرى يمتلك سلطة على الذي لا يعرف”

أذكر جيّدا ذلك اليوم الذي قال فيه إبن خالتي لأمّه:

“Attention”

وقد ترجمتها أمّي لها حرفيا ب: “سكّر فمّك”..

ورغم تأكيد أبناء خالتي الآخرين أنّه ليس ذلك المعنى المقصود بالكلمة الفرنسيّة إلاّ أنّ خالتي أصرّت على أنّ ترجمة أختها الكبرى، والتي هي أمّي، والعارفة بكلّ الأمور هي التّرجمة الصّائبة وعاقبت إبنها شرّ عقوبة على قولته تلك.

هذه الواقعة جعلتني متيقّنا من سلطة المترجم والتٍّرجمة عموما والمكان الذي يحظى به داخل البلاط باعتباره حلقة الوصل مع الحضارات الأخرى وهو الأمر الذي أكّد عليه “جان غوست” في مؤلّفه “عشيق المترجم”.

هكذا يمكننا أنّ أسلوب إقامتك في العالم هو الكتابة فهل كان هذا هو أسلوبك الوحيد ؟

منذ أن كنت في المعهد كنت جزءا من الحركة التّلمذيّة بقليبية: كنت ومجموعة من اتّحاد الشّباب الشّيوعي التّونسي أصيلي مدينة قليبية الذين كانوا يشرفون على تأطيرنا، في أواخر الثمانينات، نحاول إنشاء نقابة تلمذيّة بقليبية ولم نتمكّن من ذلك .

في الجامعة كنت مناضلا قاعديا صلب الاتّحاد العام لطلبة تونس وقد كانت تجربة مهمّة أتاحت لي فرصة لتعميق المعارف والأسس النّضاليّة من حلقات النّقاش والاجتماعات العامّة: في كلّيّة العلوم القانونيّة بأريانة سنة 1989 كنّا مجموعة من شباب اتّحاد الشّباب الشّيوعي التّونسي النّوعيّين لأنّنا كنّا واضحين ومبدئيّين وكانت بيننا وحدة ضمن اليسار الطلاّبي كان هنالك تنسيق محكم حول تحرّكاتنا.

ثمّ كانت تجربة الاتّحاد العام التّونسي للشّغل فخلال العشريّة الأولى من الألفيّة الثّانية تحوّل اتّحاد الكتّاب التّونسيين شيئا فشيئا إلى جناح من اجنحة النّظام البائد وأصبح سلطة قمع وإقصاء للكتّاب من ذلك محاكمة كلّ من عادل المعيزي  وظافر ناجي وتشكّل لدينا الوعي بضرورة انشاء هيكل جديد للكتّاب للدّفاع عن حقوقهم ولتقديم صورة مشرّفة عن الأدب والكتاب التّونسي وافتكاك المنابر الثقافية والابداعية من الكتّاب الموالين للنّظام، ولم نجد أفضل من الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية العتيدة كمنبر حرّ لصوت الكتّاب الأحرار فأسّسنا في جويلية 2010 “نقابة كتّاب تونس”

ما هو ثمن تأسيس “نقابة كتّاب تونس” ؟

تعرّضنا إبّان التّأسيس وبعده إلى مضايقات كبيرة من البوليس وإلى مساومات اتحاد الكتاب التونسيين خاصّة للكتّاب الذين يعانون من البطالة…

هذا وقد نجحت النّقابة في جمع الكتّاب التّونسيين الذين جمعوا بين القيمة الأدبيّة والقيمة النّضاليّة والدّفاع عن القيم الانسانيّة و معاداتهم الصّارخة للنّظام النوفمبري .

ومع اعتزازي الشّديد بتلك التّجربة إلاّ  أنّ الظّروف والملابسات بعد الثّورة تجعلني أقرّ وبمرارة أنّ سلطة الهمّ السّياسي والاجتماعي طغت على التّفكير في تطوير تجربة نقابة كتّاب تونس اضافة الى افتقارنا للدّعم المادّي أدّى إلى الانتفاء التّدريجي لشعلة الحماس الاولى حتّى أصبحت “نقابة كتّاب تونس”، سادس نقابة للكتاب في العالم وأوّل نقابة للكتاب في العالم العربي، ذكرى تبعث على المرارة والحزن. وأرجو أن لا تلاقي رابطة الكتّاب الأحرار، التي كانت طيلة سنوات الجمر الصوت الوحيد الحرّ المدافع عن الفكر التقدّمي، نفس ذلك المصير، خاصّة وأنه لم نعد نسمع بأنشطتها وفعالياتها إلاّ نادرا جدّا.

حول الدّورة 32 لمعرض تونس الدّولي للكتاب 2016:

منذ الدورة الأولى لمعرض الكتاب بعد الثورة، كانت الهياكل الممثلّة للمبدعين شريكا أساسيا، بمقتضى القانون الأساسي المنقّح للمعرض، مع المهنييّن في وضع التصورات والتنظيم وتنفيذ البرنامج الثقافي لمعرض الكتاب. وقد كانت تجربة منتجة مثمرة أفرزت برامج ثقافية ثريّة ومتنوعة وذات بعد إنساني، حيث حرص ممثّلو الهياكل على دعوة كتّابا تونسيّين ممثّلين لكلّ الأجيال والجهات والتيارات الفكريّة، وكتّابا عربا تقدميّين، مساهمة منهم في تدعيم الخيار المجتمعي لثقافة وطنية ديمقراطيّة تقدمية.

لكنّنا فوجئنا في هذه الدّورة، ومنذ تسمية الدّكتور عادل خضر، على رأس إدارة المعرض، بإقصاءٍ كلّي للهياكل الممثلّة للمبدعين واستبدادا بالرّأي وانفرادا بوضع البرنامج الثقافي مع مجموعة من زملائه الجامعيّين لا صلة لهم بالواقع الأدبي في تونس.

وما استقالتي من هيئة المعرض ثمّ استقالة الشعراء عبد الفتاح بن حمودة، أمامة الزاير ومحمّد العربي، إلاّ احتجاجا على هذا الاستبداد وعلى الاستهانة بالمبدع التونسي وخاصّة أمام الموقف الشاذ الذي اتّخذه مدير المعرض بعدم التكفّل بمصاريف تنقّل وإقامة الضيوف الشعراء والكتّاب العرب، والذي خلّف استياءا كبيرا في أوساط المثقفين في كافّة أنحاء العالم العربي.

وقد حاول مدير المعرض إصلاح أخطائه “بالتصدّق” على الهياكل الممثلة للمبدعين بتنظيم بعض الفعاليات بإسمها خلال يوم من ايّام المعرض. وانسجاما مع تاريخها، رفضت رابطة الكتّاب الأحرار هذه “الصدقة” معتبرة إيّاها عظما بائسا لا يتماشى مع مفهوم الشريك الذي أسّسناه منذ الثورة بيننا، وانسجاما مع تاريخها في الخذلان، ارتمت الهيئة المديرة لاتّحاد الكتّاب التونسيّين على هذه “الصدقة” وقبلت بها، وهو سلوك لا يشرّف بكلّ صدقٍ المنخرطين الذين عبرّ الكثير منهم على التزامهم بمقاطعة البرنامج الثقافي لمعرض الكتّاب احتجاجا على ممارسات المدير الحالي للمعرض.

حاورته: مديحة جمال

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×