الرئيسية / صوت الوطن / حول حملة الاعتقالات الأخيرة لبعض رموز الفساد: حين تناور السّلطة لتحويل هزائمها إلى انتصارات
حول حملة الاعتقالات الأخيرة لبعض رموز الفساد:  حين تناور السّلطة لتحويل هزائمها إلى انتصارات

حول حملة الاعتقالات الأخيرة لبعض رموز الفساد: حين تناور السّلطة لتحويل هزائمها إلى انتصارات

بلغت أزمة الائتلاف الحاكم درجة من الحدّة والتعفّن أصبح معه رحيلها هو الحلّ الوحيد لبعث رسالة أمل للتونسيّين مفادها أنّ إنقاذ البلاد والنّهوض بها على طريق تحقيق أهداف 668_334_1495785313الثورة وتلبية مطالبه الحيويّة ما يزال ممكنا.

 ائتلاف يتخبّط في أزمة حادّة وعميقة

ما فتئت الاحتجاجات التي تتوسّع دائرتها لتشمل عددا متزايدا من الفئات والجهات تحاصر الحكومة التي لم تنجح حتّى في لعب دور المطافئ وتتمسّك بانتهاج نفس الخيارات القديمة التي لم تُنتج غير التّفقير والتّبعيّة والرّفع من منسوب الاحتقان الاجتماعي، وهي نتيجة منطقيّة لتواصل نفس الخيارات الكبرى والتّمسّك بمنوال تنمية ثار عليه الشعب التونسي ذات 14 جانفي. وحتّى بعد أكثر من 6 سنوات من الثورة عرفت خلالها البلاد 8 حكومات ظلّ الجوهر نفسه: خيارات لفائدة أقليّة فاسدة مرتبطة بالدوائر الامبرياليّة، بينما تزداد وضعيّة السّواد الأعظم من الشّعب سوء يوما بعد يوم رغم كلّ محاولات البرجوازية الحفاظ على استقرار الأمر لصالحها مجرّبة كلّ أشكال الحكومات، من حكومة انتخابية إلى حكومة تكنوقراط إلى حكومة انتخابية واسعة فحكومة انتخابية مدعومة بمشروعية توافقية واسعة تحت مسمّى حكومة “الوحدة الوطنية”…

إنّ ما تغيّر هو شكل السلطة السّياسية من شكل حكومة ديكتاتورية إلى شكل حكم بمؤسّسات ديمقراطيّة، أمّا المضمون والجوهر فهو نفسه دولة طبقيّة تتمترس وراء جهاز حكمها القمعي بأدواته المادّية والمعنوية لضمان سيطرة أقلّية مترفة على حساب عموم الشّعب، والحصيلة: أزمة شاملة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأخلاقية تتسبّب فيها هذه الأقلية الجشعة ويتحمّل وزرها غالبيّة الشعب، الذي يواصل رفض الوضع القديم طالما أنّ ما وقع من تغيير، على أهمّيته، يظلّ شكليّا.

 الرّئاسة تعمّق الأزمة وتتحوّل الى بؤرة تآمر على الثّورة

 ورغم هذه الحصيلة الكارثية، فإنّ رئيس الدّولة الذي من المفترض أن يكون الضّامن لاحترام الدستور ولوحدة الدولة واستقلالها يصرّ باستمرار على تمرير مشروع قانون مشبوه يكرّس المصالحة مع منظومة الفساد القديمة غير آبهٍ باعتراض جزء كبير من الرأي العام عليه. وقد كشف رئيس الدولة من خلال التمسّك بتمرير هذا القانون سيّء الذكر أنه منشغل فقط بردّ الجميل للوبيات الفساد تعويضا عن تمويلات حملته الانتخابية الرئاسية والمرتبطة عضويّا بحزبه الحاكم، إضافة إلى دعم الشقّ المساند لنجله أغلبهم من رموز الفساد في المنظومة السابقة والذين يريد رأس الدولة وابنه المسكون بهاجس التوريث إعادتهم إلى تصدّر مشهد الحكم ولعب دور أكبر داخل حزب نداء تونس لضمان سيطرة الابن على حزب “العائلة”. وقد تأكّد هذا المنحى في خطاب رئيس الدولة الأخير الذي أطلّ فيه على الشعب بالتهديد والوعيد فكان هذا الخطاب بمثابة إعلان حرب على الشعب، حرب اقتصادية من خلال إقرار رئيس الائتلاف الحاكم بعدم توفّر الدولة على حلول للمحتجّين المطالبين بالكرامة في دولة ما بعد الثورة وحرب عسكرية يزجّ فيها بالمؤسّسة العسكرية لحل أزمة الائتلاف الحاكم عبر قمع الاحتجاجات الاجتماعية تحت ذريعة حماية المؤسسات والمنشآت العمومية، هذا الخطاب كان بمثابة صبّ الزيت على النار المشتعلة ممّا زاد في تأليب الرأي العام ضد الائتلاف الحاكم  الذي أصبح يرى فيه عائقا أمام تقدم البلاد إلى الأمام والنهوض بأوضاعها.

 أحداث تطاوين والمنعرج الحاسم

 مباشرة إثر خطاب رئيس الدولة العدواني، شنّت الحكومة حملة قمع وحشية على المعتصمين والمحتجّين بجهة تطاوين (الكامور) ممّا خلّف سقوط شهيد وعدد كبير من الجرحى وحالات اختناق بسبب الاستعمال المفرط للغاز المسيل للدموع، وكادت أن تكون هذه الأحداث جرعة الموت الرّحيم للحكومة.

ولكن الائتلاف سرعان ما شعر بأنّ هذا الوضع وإمكانيّة تطوّره إلى وضع ثوري عارم قد يعصف بأركان الائتلاف الحاكم المتداعي بطبعه، جعله يسارع لإقرار تجديد حالة الطوارئ وإعلان حملة اعتقالات ووضع تحت الإقامة الجبرية لبعض الشخصيات في مجال الأعمال والتهريب، تحت مزاعم “محاربة الفساد” حملة رافقتها هالة دعاية إعلامية قوية جعلت جزء كبير من الرأي العام يُبدي تعاطفه ومساندته لرئيس الحكومة في “حربه” على الفساد.

 الحكومة تناور من أجل قلب هزائمها إلى انتصارات

 هذه الحملة هي في حقيقة الأمر، وبعيدا عن تهليل جوقة الحكم وتطبيلهم، مجرّد مناورة سياسية أخيرة للسلطة تحاول، رغم هزائمها الكثيرة، “صنع” انتصار زائف وتحقيق بعض المغانم السياسية على الأقل:

أوّلا: الخروج من مأزق تطاوين والتغطية عن التجاوزات الخطيرة للحكومة من خلال الهالة الإعلامية التي رافقت حملة الاعتقالات والتي نجحت في حرف الرأي العام عن أحداث تطاوين واعتصام الكامور وتوجيهه إلى الحملة الأخيرة.

ثانيا: المزايدة على موقف هيئة الحقيقة والكرامة الأخير وعكس الهجوم عليها والظهور بمظهر الأحرص منها على مقاومة الفساد.

ثالثا: التخلّص من أحد أجنحة الفساد الذي تجاوز الخطوط الحمراء ودخل في عملية كسر عظام مكشوفة مع أجنحة أخرى من أجنحة الفساد ولوبيّاته المتنفّذة وأصبح يمثّل تهديدا لنفوذها ولهيمنتها على جهاز الدولة حتى وصل به الأمر إلى درجة تحدّي رئيس الحكومة على الملأ.

رابعا: خلق ظروف أفضل لتمرير مشروع قانون المصالحة وتهيئة الرأي العام لذلك من خلال محاولة الإيهام بأنّ هذا القانون لا علاقة له بالفساد والمفسدين بما أنّهم قاموا بإيقاف الفاسدين، والحقيقة أنّ قانون المصالحة هو قانون موجّه إلى الجناح الأكثر تنفّذا في جهاز الدولة والمعادي للجناح المستهدف بحملة الإيقافات والمحجوزين تحت الإقامة الجبرية.

خامسا: هذه الحملة هي استجابة إلى بعض شروط الدوائر المالية العالمية التي احترزت في أكثر من مناسبة إزاء عدم اتّخاذ الحكومة إجراءات واضحة وملموسة لمقاومة الفساد الذي يعطّل عمليّة “الانتقال الديمقراطي” وما يتطلّبه من “إصلاحات” للمؤسّسات المالية العالمية. وكان تردّد الحكومة في تطبيق أوّل نقطة من اتفاق قرطاج، وهي مقاومة الفساد، قد جعل الأطراف المقرضة تتردّد في دعم “التجربة التونسيّة”، ممّا يرجّح فكرة أنّ هذه العملية الاستعراضية هي فقط رسالة إلى صندوق النقد الدولي مفادها أنّ الحكومة جادّة في مقاومة الفساد حتّى “تجني” صرف القسط الرابع من القرض المسند من قبل صندوق النقد الدولي والبالغ قيمته 2.7 مليار دينار.

من الضّروري التنبّه إلى أنّ الصّراع بين أجنحة الفساد داخل جهاز الحكم لا مصلحة للشّعب فيه، وعلى القوى الثوريّة تحمّل مسؤوليّتها وكشف هذه المناورات التي تستهدف الشّعب وترمي إلى إيهامه بأنّ مقاومة الفساد يمكن أن تتمّ بعملية ارتجالية والحال أنّ اختيارات هذا الائتلاف اللّاوطنية واللاّشعبية لا يمكن إلاّ أن تغذّي الفساد الذي تطلّب مواجهته انتهاج خيارات جديدة ووجود إرادة سياسية حقيقية تترجم إلى إعداد استراتيجية شاملة لمقاومة الفساد وتفكيك منظومته إذ لا يعقل أن يواجه هذا الائتلاف الفساد بيد تصالحه (قانون المصالحة) وأخرى تريد ليّ ذراعه…

إنّ هذه المنظومة الفاسدة بخياراتها ومؤسّساتها لا يمكن أن تقاوم الفساد الذي هو شرط وجودها واستمرارها. وحتّى وإن لقيت حملة الاعتقالات الأخيرة تأييد جزء من الرّأي العام فإنّ الأمر سينكشف لها مع مرور الوقت مع تواصل عجز رئيس الحكومة على المضيّ في حربه أبعد من هذه المناورة، فالمسألة لا تتعلّق بالحماسة أو بالعواطف الجيّاشة، بل مرتبطة بشروط موضوعيّة، وهي ليست مسألة ظرفية بل مسألة هيكليّة ترتبط بالخيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وبمنوال التنمية المنتهج، فخيارات التفقير والتبعيّة المعتمدة من قبل كلّ حكومات، قبل الثورة وبعدها، شكّلت وتشكّل حاضنة لتفريخ الفساد وترعرعه، ولا يمكن بالتالي مقارعة الفساد باعتباره ملفّا منفصلا بل باعتباره يرتبط ويتداخل بعمق الخيارات التنمويّة، ووحدها الخيارات الوطنيّة الديمقراطيّة والاجتماعيّة كفيلة بضرب قاعدة الفساد واجتثاث جذوره العميقة.

محمد الحباسي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×