الرئيسية / صوت الوطن / شهر جانفي والذاكرة الجماعيّة
شهر جانفي والذاكرة الجماعيّة

شهر جانفي والذاكرة الجماعيّة

يعتبر شهر جانفي من أكثر أشهر السنة رمزية لكل المناضلين والناشطين في سبيل الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والكرامة ولكل الأحرار والوطنيين الغيورين على حرمة واستقلال هذا الوطن العظيم من أفراد الشعب التونسي، وربّما يمثّل نذير شؤم على الحكّام والمتنفّذون في السلطة. رمزية هذا الشهر اكتسبها من الأحداث التاريخية الهامة التي حصلت خلاله منذ فترة الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي. وسنتتبّع بعض الأحداث ونتمعّن في ملاءمتها مع الأوضاع السّياسية والاقتصادية والاجتماعيّة أثناء وقوعها لتحسّس رمزيّتها وأهميتها في الذاكرة الجماعية.Untitled-1

تأسيس الاتّحاد العام التونسي للشغل:

ربّما نعتبر تاريخ 20 جانفي 1946 تاريخ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة نقابية تونسية محطّة مفصليّة في العمل النقابي وأيضا في النضال الوطني ضدّ الاستعمار. وإلى جانب المطالب النقابية تضمنت لائحة المؤتمر مطالب سياسية وطنية منها حلّ المجلس الكبير وتعويضه بمجلس وطني حقيقيّ غير منقوص النّفوذ ولا النظر، وتأميم الشّركات الكبرى وجميع المصالح والمعامل ذات المصلحة العامة كالمناجم والغاز والتيار الكهربائي وأبار النفط وشركات النقل والأراضي الفلاحية الكبرى…

18 جانفي 1952

لا يجب على أن نمرّ مرور الكرام على ذكرى 18 جانفي 1952، ذكرى اندلاع الثورة المسلحة في تونس ضدّ آلة الاستعمار الغاشم. فبعد فشل المساعي الدبلوماسية السلمية بين سنتي 1949 و1952 للوصول إلى تسوية بين قيادة الحركة الوطنية والحكومة الفرنسية، أجبرت الحركة الوطنية على اتّحاذ العمل المسلّح حلاّ لإجبار فرنسا للتفاوض الجدّي من أجل الاستقلال.

وقد قامت المقاومة المسلحة (نعتتها فرنسا ب”الفلاّقة”) بعمليات جريئة وبطوليّة ضد المستعمر في جميع أنحاء البلاد، فدمّرت عدة ثكنات ومحطات كهربائية وسيارات وجسور وطرقات ونفّذت الهجوم على القوافل العسكرية الفرنسية. وأسفرت هذه العمليات عن عديد الحملات العسكرية الفرنسية التي نفذت الاغتيالات والإعدامات ونكلت بالتونسيين وبالمناضلين خاصة واعتدت على عائلاتهم وممتلكاتهم. وكانت النتيجة مئات القتلى والجرحى من الجانبين.

وبدأت بتأسيس أوّل خليّة مقاومة مسلحة بالمقر الجهوي للاتحاد العام التونسي للشغل بمدينة قفصة في 16 ديسمبر 1951 ووصل عددهم سنة 1954 في حدود 3000 مقاتل، اشتهر منهم الطاهر الأسود، بلقاسم البازمي، أحمد الأزرق، مصباح الجربوعي، إلى جانب مجموعة أحمد التليلي والأزهر الشرايطي والسهيلي بلقاضي ومحمد عمارة الزعبوطي وساسي الأسود…

جانفي 1963

في هذا التاريخ حصلت محاكمة “مجموعة المحاولة الانقلابية” (محاولة انقلاب 24 ديسمبر 1962) والتي تُسمى أيضا انقلاب الأزهر الشرايطي وهي محاولة انقلاب ضد نظام الحبيب بورقيبة بسبب التفرد بالرأي والاستبداد والتسلط وتركيز نظام ديكتاتوري، وخاصّة بعد أن قام بتصفيات شنيعة في حّق خصومه السياسيّين، اليوسفيّين. فقد ألغى بورقيبة التعددية الحزبية وألحق على كل المنظمات الوطنية بما فيها الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين واتّحاد المرأة.

ومن أبرز وجوه هذه المحاولة الأزهر الشرايطي والهادي القفصي ومحمد قيزة. ألقي القبض على المجموعة التي تضم قرابة ‌25 شخصا في 19 ديسمبر 1962 وبدأت محاكماتهم في 12 جانفي 1963 وحُكم على كثير منهم بالإعدام. وحكم على علي بن سالم 20 سنة سجنا.

أحداث 26 جانفي 1978

تحدّثنا سابقا أن بورقيبة قد كرّس الحكم الفردي المطلق وسعى لتنصيب وصايته على أغلب المكونات السياسية والنقابية، ومن بينها منظّمة الاتحاد العام التونسي للشغل. وفي ظلّ أوضاع الانغلاق السياسي (انعدام الحريّات العامة بالبلاد، محاكمات متتالية، انتخابات مزوّرة مجالس نيابية وبلدية صورية لا تمثل الشعب، فساد رشاوي وجاهة / محسوبية …) والتردّي الاقتصادي والاجتماعي (بطالة، تدني الأجور وغلاء المعيشة، إضرابات…) لم يكن من الممكن تفادي مواجهات دامية قادمة بين السلطة والشعب. فقد استعر جنون بورقيبة لتركيع الاتحاد وإخضاعه، قابله إصرار قيادة الاتحاد على الدّفاع عن استقلاليّته واختار الحبيب عاشور إعلان الإضراب العام، وسمّيت الأحداث ب”الخميس الأسود”. فكانت النتيجة مئات الشهداء والجرحى الذين غصت بهم المستشفيات (ما يزيد عن 400 شهيد وأكثر من ألف جريح)، القبض على قيادة الاتّحاد بما في ذلك أمينه العام السيد “الحبيب عاشور” وإيداعهم السجن ومحاكمتهم بتهم ملفقة. ووصل عدد النقابيين أمام محاكم الحق العام في محاكمات صوريّة 7000 نقابي، و130 أمام محكمة أمن الدولة. كما تعرّض المحاكمون للتعذيب في أقبية وزارة الداخلية واستشهاد بعضهم تحت التعذيب (أو من جرّاءه) على غرار حسين الكوكي.

وتمّ تدبير الانقلاب على الاتحاد العام التونسي للشغل وتنصيب قيادة موالية للحكومة (جماعة المنصبين بقيادة التيجاني عبيد)، ولأوّل مرّة يدخل الجيش في معركة بين النظام والشعب وأنشأت المحتشدات الطلابية وإجبار الطلبة على العمل الإجباري في الصحراء.

عملية قفصة الأليمة

تعود هذه الأحداث إلى الليلة الفاصلة بين 26 و27 جانفي 1980 حيث تولت مجموعة من المسلحّين ينتمي جميعهم إلى المعارضة التونسية، ـ “الجبهة القومية التقدمية” ذات التوجه العروبي أو “التيار اليوسفي” في تونس، ـ الاستيلاء على ثكنة أحمد التليلي ثم على جزء هام من المدينة ثم وجهوا نداءً للأهالي “للانضمام إلى الثورة المسلحة والإطاحة بالنظام البورقيبي” بعد أن جمعتهم الرغبة في تغيير الأوضاع في تونس بعد القمع الذي تعرضت له الحركة النقابية عام 1978. كانت حصيلة المعارك حوالي 18 قتيلاً وجريح من المدنيين، و38 من الحرس الوطني، و3 من الشرطة، وجرح قرابة 90 من أفراد الحرس الوطني، واعتقال 42 من المجموعة.

وردّت السلطة، التي استنجدت بفرنسا، بعنف كبير وتمكنت من السيطرة على عناصر المجموعة واعتقال معظمهم وأحيلوا على المحاكمة وتم الحكم حضوريا بإعدام 11 منهم ونفذ فيهم الحكم فجر 17 أفريل أي بعد العملية بـ 80 يوما فقط. والسؤال المطروح اليوم، من هم ثوار عملية قفصة؟ هل هم مجرمون حقا، مثلما نعتهم نظام بورقيبة وزبانيته أم هم تونسيون آمنوا بالمقاومة المسلحة لتغيير نظام الحكم الديكتاتوري الاستبدادي الذي طالما قهر الشعب وخاصة في الجهات المهمشة (الداخلية)، أم هو أحد أدوات السّخط الشعبي على الاختيارات الاقتصادية التي عمقت الفروق الاجتماعية وكرست الاستبداد السياسي؟ ألا تعتبر في نهاية الأمر امتداد للانتفاضة العمالية التي عرفتها البلاد؟

أحداث الخبز 1984

تعود أحداث انتفاضة الخبز لسنة 1984 إلى قرار بورقيبة وحكومة مزالي مضاعفة سعر الخبز بتوصيات من صندوق النقد الدولي، انطلقت شرارتها من مدينة دوز بالجنوب التونسي تزامنا مع السّوق الأسبوعية في 29 ديسمبر 1983 في شكل مظاهرات أدّت إلى المواجهة بين المتظاهرين وقوات الأمن. ثم انتشرت التحركات إلى مدينة قبلي المجاورة في اليوم الموالي ولكن بأكثر عنفا لتبلغ بعد ذلك مدينة الحامة.

ومع بداية تنفيذ الزيادة يوم 1 جانفي 1984 بلغت الحركة الاحتجاجية مناطق الكاف والقصرين وتالة وبقية مناطق الجنوب قفصة وقابس ومدنين، مما استدعى دخول الجيش.

أجج إعلان وزارة الداخلية يوم 2 جانفي عن سقوط قتلى وجرحى في مناطق قبلي والحامة والقصرين وقفصة، المنطقة الصناعية بقابس ثم بمدن تونس وصفاقس وأدخلها في إضراب شامل ومسيرات كبرى شارك في تنظيمها كل من العمال والطلاب معبرين عن رفضهم إلغاء الدعم عن العجين ومشتقاته.

وفي يوم 3 جانفي بلغت الانتفاضة أوج أحداثها واستخدم بالرصاص الحي فأحرقت المحلات والمؤسسات والحافلات في شوارع العاصمة وضواحيها وفي كثير من المدن الساحلية والداخلية على حد السواء. لم تتوقف الحركة الاحتجاجية إلا مع إعلان رئيس الدولة آنذاك التراجع عن تلك الإجراءات وإعادة النظر في الميزانية الجديدة في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.

أحداث أو انتفاضة الحوض المنجمي 2008

لم تخفت الحركة الاحتجاجية والشعبية نهائيا بعد انتفاضة الخبز الشهيرة، ولكن انتظرت أكثر من عشرين سنة لتنطلق انتفاضة مدن المناجم في حركة احتجاجية واسعة دامت حوالي ستة أشهر سنة 2008، وشملت خاصة مدن الرديف والمتلوي وأم العرائس والمظيلة الغنية بمادة الفوسفاط في ولاية قفصة. انطلقت الأحداث يوم 05 جانفي بسبب تدهور المناخ الاجتماعي بالمنطقة (البطالة، والأمراض الناجمة عن تشغيل المنجم والفقر…) ومباشرة إثر الإعلان عن نتائج مناظرة الانتداب الخاصة بشركة فسفاط قفصة والتي كانت مخيبة للآمال بسبب المحسوبية والرشوة ما دامت هناك طُغم تتحكّم في آليات الانتداب.

ومع انطلاق هذه التحركات الاحتجاجية السلمية ذات الطابع الاجتماعي (إضرابات عن العمل مسيرات، وقفات احتجاجية، اعتصامات، نصب خيام، إضرابات جوع …) والتي شاركت فيها شرائح واسعة من سكان المنطقة (تلاميذ طلبة نقابيين عمال وأهالي نساء ورجالا)، باشرت القوات الأمنيّة حملة واسعة من التمشيط والمداهمات والاعتقالات في صفوف الأهالي في عديد مدن وأحياء الحوض وخاصة في الرديف مع ما صاحبها من التنكيل بالأهالي وإتلاف الممتلكات وإيقاف العشرات من الشبان والنقابيين والأهالي وتعذيبهم بوحشية وتقديمهم للمحاكم. مما دفع بالمئات، من الشباب خاصة، إلى الالتجاء إلى الجبال. وقد خلف هذه المعالجة الأمنيّة قتلى ومئات المعتقلين، إلى جانب تعذيب قيادات الحركة من نقابيين وسياسيّين وحقوقييّن وشباب معطّل، الذين حكم عليهم بأحكام سجنيّة قاسية. ولم تنتهي هذه المظالم إلا عقب فرار بن علي على إثر الثورة المجيدة.

جانفي 2011: ثورة الحرية والكرامة:

يمكن اعتبار فرار بن علي يوم 14 جانفي 2011 من أبرز الأحداث التي توّجت عقود من نضال التونسيّات والتونسيّين من مختلف مشاربهم الفكرية والسياسية وانتماءاتهم القطاعية والفئويّة، حيث اعتبرت زلزالا دكّ عرش نظاما من أعتى الدكتاتوريات في العالم، حكم البلاد 23 سنة بالحديد والنّار، وأذاق فيه ويلات التعذيب والإخفاء القسري لمعارضيه وحكم على آلاف منهم بالاغتراب والنضال السرّي وبالسجون والحرمان من العمل.

إنّ جلّ هذه الأحداث تؤكّد على ان هناك ما يجعل من شهر جانفي له ميزة خاصّة، هي ميزة الانتفاض والتمرّد، هي خاصية من خاصيات رفض الذلّ والمهانة والخضوع، إذ لكأنّ في هذا الشهر، يكون التونسي قد نفذ صبره ولم يعد يطيق الخنوع وقبول التسلّط، وربّما يصعد لديه شعور التحرّر ونيل الانعتاق. ربّما أيضا بسبب استنفاذ العائلة التونسيّة ل”مدّخراتها” من مؤونة التقشّف، والتي تزداد عبئا بفعل الزيادات وسنّ ميزانيات التفقير.

المخجل أنّ المتعاقبون على الحكم بعد الثورة المجيدة يسعون بكلّ ما أوتوا من جهد ومن دهاء لطمس هذه البطولات وإلقاءها في غياهب النسيان. ولم يكتفوا بتزوير التاريخ وطمس الحقائق بل طالبوا “بحقهم الشرعي في المصالحة الوطنية” دون محاسبة (“بوس خوك وما كان بأس”) متناسين كل هذه الانتهاكات والجرائم الفظيعة في حق شبابنا وأهالينا ومناضلينا وما التزموا به في الدستور حول العدالة الانتقالية (الكشف عن الحقيقة وحفظ الذاكرة ـ المساءلة والمحاسبة ـ جبر الضّرر ورد الاعتبار). وكأن سنين الجمر الطويلة ليست سوى حدث عابر لا قيمة له. لذا لسائل أن يتساءل أليس من حق هؤلاء الأبطال علينا، نحن في حزب العمال والجبهة الشعبية، أن ننصفهم وأن نخلّد أرواحهم وتضحياتهم في ذاكرتنا الجماعية؟ أليس من حقهم علينا جعل ذكرى هذه الأحداث مناسبة وطنية للاحتفال ولاستنباط العبر والدّروس؟ أليس من الواجب الأخلاقي أن تشبّث بالعدالة الانتقاليّة كآلية لردّ الاعتبار للضحايا ومحاسبة للجلاّدين وخدم الاستبداد حتّى نبني تونس أخرى جديدة، قوامها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنيّة؟

لزهر زينوبي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×