الرئيسية / أقلام / فــــــي الحكومــــة والدولــــــة والإدارة
فــــــي الحكومــــة والدولــــــة والإدارة

فــــــي الحكومــــة والدولــــــة والإدارة

بقلم مصطفى القلعي

télécharger (9)إنّ الواقع السياسي الذي أفرزته انتخابات 2014 التشريعيّة والرئاسيّة واقع مليء بالمتناقضات المدوّخة. فالأمور إلى حدّ الآن تسير على رأسها واختلط فيها الحابل بالنابل. من بين هذه المتناقضات أنّ أحزاب سياسيّة لم توفّق في الانتخابات مثل حزبي المسار والعَوَد وأخرى فائزة فوزا ضعيفا (حركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين والجبهة الوطنيّة للإنقاذ والمبادرة وآفاق تونس) وثالثة فائزة فوزا معقولا ولكن بمساعدة المال السياسي المشبوه (الاتحاد الوطني الحر) وشخصيّات عامّة لم تشارك في الانتخابات أصلا (عبد الكريم الزبيدي وحبيب الصيد) ووجوه كثيرة من النظام القديم، هذه الأطراف جميعها تتشاور حول الحكومة القادمة التي ستتمدّد بيننا لخمس سنوات كاملة. بينما الجبهة الشعبيّة الطرف السياسي الوطني المناضل الفائز في الانتخابات والذي قدّم شهداء من أجل تحقيق هذا المسار الذي تتجاذبه الضباع تُركن في الزاوية وتُبعد إلى الهامش بإرادة من الحزب الأغلبي..!

طبعا هناك خيار سياسي داخل الجبهة يفضّل الابتعاد عن المشاركة في الحكومة. ولاشكّ أنّ هذا الخيار صادر عن مجلس الأمناء مؤسّسة القرار الوحيدة داخل الجبهة. ولكنّ المسألة جدليّة ولم تخضع لنقاش واسع بين الجبهويّين. هذا إضافة إلى أنّ موقف الجبهة يفتقر للبراغماتيّة اللاّزمة التي تتطلّبها اللحظة. معنى ذلك أنّه لابدّ من الفصل بين أمور/ مفاهيم ثلاثة: الحكومة والدولة والإدارة. فرفض المشاركة في الحكومة لا يعني التخلّي عن الواجب تجاه الدولة ولا الاستغناء عن الحقّ في الإدارة. هنا فلسفة الحقّ والواجب تحتاج إلى تفكيك وتدقيق.

قبل ذلك لابدّ من التوضيح أنّ الحكومة مسألة سياسيّة آنيّة عابرة. والجبهة كان موقفها واضحا منذ البداية الوضوح اللاّزم خلافا لأطراف أخرى اتّسمت مواقفها بالمواربة وبالانتهازيّة. فموقف الجبهة بُني على البرامج الاقتصاديّة والاجتماعيّة لا على التقاطعات في المسألة الديمقراطيّة فقط كما كان الشأن في جبهة الإنقاذ. فالمشاركة في الحكومة مستبعدة منذ البداية وليست مفاجئة بحكم التوازي في البرامج الاقتصاديّة الاجتماعيّة بين الجبهة ونداء تونس.

أمّا مسألة الحقّ/ الواجب المتّصلة بالدولة والإدارة فهي شأن آخر مختلف عن الحكومة التي تعني خيارات ومناويل معيّنة. فعدم المشاركة في الحكومة لا يعني اعتكاف الجبهة واكتفاءها بدور المتفرّج على اللاّعبين الجدد وهم يستولون على ما تركته الترويكا من الإدارة في مختلف القطاعات بما يضمن لهم السيطرة على الدولة بشكل كامل لا لخمس سنوات قادمة بل لعقود وعهود قادمة. وهذا ما لن تغفره للجبهة قواعدها ومناضلوها المرابطون من أجلها.

الحكومة ليست الدولة. الحكومة تكون لحزب أو لتكتّل حزبي، أمّا الدولة فللشعب التونسي كلّه. الحكومات تتغيّر وتفنى والدولة باقية. الحكومات تدير شؤون الدولة قد تخدمها وقد تخرّبها فيما الدولة تاريخيّة. صلاح الحكومة يخدم الدولة وفسادها يبيدها. لهذا لابدّ من الاهتمام بالحكومة من أجل الدولة، وهذا واجب. لا يمكن أن تترك الحكومة تتصرّف على هواها في الدولة وإن كان لها تكليف شعبي انتخابي. فاجتهاد الحكومة تقديري نسبي وليس مطلقا تماما كالتكليف الذي لها دستوريّا. فهو تكليف نسبي يتعيّر بحسب مردود الحكومة ونجاحها في خدمة الشعب ورعاية مصالحه وضمان نموّ الدولة وتطويرها طبقا لمقاييس تقييم يتّفق عليها الجميع. من هذا المنطلق لابدّ أن تتيقّظ الجبهة الشعبيّة وأن تستعيد حيويّتها لتكون قوّة اليقظة اللاّزمة من أجل منع خيارات وفرض أخرى. الجبهة وإن لم تكن لها مسؤوليّات تجاه الحكومة فإنّ لها مسؤوليّات تجاه الدولة. ولذلك عليها أن تنهض بمسؤوليّاتها من منطلق وعي فلسفي كاشف ينير الرؤية ويوضّح سبل التّعاطي التاريخي مع مجريات الواقع السياسي الوطني.

إنّ حالة الذهول التي أصيبت الأحزاب التقدمية بعد نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 المخيّبة جعلت هذه الأحزاب وبقيّة الطيف المدني والديمقراطي تغفل عن الترويكا وهي تملأ الخانات الفارغة وتعوّض المفرغة منها بأبنائها بعد أن اعتبروا الحكم غنيمة للتقاسم وتوزيع المنن. ونتيجة لذلك امتلأت مختلف الإدارات والمؤسّسات الوطنيّة والمنشآت والديبلوماسيّة بفيض من النهضويّين موشّحين ببعض التكتّليّين أو المؤتمريّين. وعندما أفاق الجميع كانت الإدارة التونسيّة قد سُبيت وأُغرقت بخطط وتعيينات زائدة عن حاجتها أو لا تسدّ الشغور بالفعل. وهو ما أعجز الإدارة وأفقدها حركيّتها وأفقر إنتاجها وأثقل كاهل الدولة بالأجور الوهميّة. هذا إضافة إلى العناء العبثي الذي تكبّدته القوى التقدمية والمدنيّة من أجل مراجعة التعيينات. فما تمّ قد تمّ وربحت النهضة في زرع أبنائها في كلّ مكان خدمة لهم.

بعد انتخابات 2014 قد يحدث الأمر نفسه. والخشية كبيرة من أن تغفل الجبهة وبقيّة القوى المدنيّة عن الحكّام الجدد حتى يفعلوا بالإدارة كما فعل سلفهم، وربّما يكون ذلك باتّفاق بينهم. للجبهة أبناؤها من العاطلين ومن المظلومين من الترقيات بسبب نضالهم السياسي ومن المعطّلين إداريّا، ومن واجبها أن تحرص على خدمتهم وخدمة كلّ أبناء الشعب التونسي على قدم المساواة. على الجبهة، إذن، أن تميّز بين الحكومة وبين الدولة وبين الإدارة هذه المرّة وأن لا تغفل عن الآخرين. ليس في هذا تهافت بل واقعيّة ووفاء للمناضلين والكفاءات الجبهويّة إذ ليس من المعقول انتظار 5 سنوات أخرى ليتمّ إنصاف أبناء الجبهة ليأخذوا حقّهم في الإدارة والدولة هذا على فرض أن تفوز الجبهة بالانتخابات القادمة! وكيف يمكن للجبهة أن تفوز في أيّ انتخابات وأبناؤها بعيدون عن الإدارة والدولة؟ لابدّ من استبعاد العقليّة الطهرانيّة واستبدالها بالواقعيّة في التعاطي مع اليومي..

«فكّ وطالب واِحتجْ» هذا أفضل من النزعة الطهرانيّة والأصوليّة اليسراويّة التي ستعزل الجبهة وتفقدها تمركزها في الدولة مكتفية بالعقليّة الاحتجاجيّة الفوضويّة المفتقرة إلى البدائل والتي لا تنمّ على أكثر من عقليّة استسلاميّة تركن إلى الفرجة «الشارعيّة» عوضا عن التأسّس والانغراس في الواقع والمجتمع..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×