الرئيسية / صوت الوطن / مبادرة الباجي قائد السّبسي “جاء يطبها عماها” جيلاني الهمامي
مبادرة الباجي قائد السّبسي  “جاء يطبها عماها” جيلاني الهمامي

مبادرة الباجي قائد السّبسي “جاء يطبها عماها” جيلاني الهمامي

باغت الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية مساء يوم الخميس 2 جوان الماضي الرأي العام الوطني في لقاء تلفزي بالدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية لمجابهة الأزمة التي تمر بها البلاد. هذه الدعوة جاءت حسب ما صرح به كحلّ ممكن من جملة الحلول التي استمع إليها من بعض ممثلي الأحزاب التي سبق له أن التقاها في المدة الفارطة. وقد اتضح فيما بعد أنّ هذا الموقف هو أقرب إلى القرار منه إلى المقترح. حيث جاء في أجوبته أعتقد أنّ حكومة الوحدة الوطنية يجب أن يكون فيها اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة وإلاّ فلن تنجح. ثم أضاف في جواب لاحق تكوين الحكومة سيتمّ التشاور فيه ومن سيرأسها أيضا وأنا أرى أنّ حتى الرئيس الحالي يمكن أن يسيرها لكن يجب أن يكون الجميع منخرطا فيها. أمّا عن مكوناتها فقد وضّح بالضرورة اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة إضافة إلى أحزاب الائتلاف الحاكم ومستقلين… هناك أحزاب من المعارضة لا تريد المشاركة وأحزاب أخرى إن قبلت مرحبا بها فتونس للجميع. وصلتني مقترحات بأن يكون هناك ثلاثة رؤساء للحكومة يلتقون يوميا، وهناك من اقترح الإبقاء على الحكومة الحالية وتغيير أربعة وزراء….

هذا ما يعني أنّ الفكرة قد طبخت جيدا وأنّ “المقترح” جاهز وأنّ اللقاء التلفزي جاء أساسا للإعلان عنه في صيغة وجهة نظر لأنّ الرئيس يعلم جيّد العلم أنّ الدستور لا يخوّل له حلّ الحكومة أو اتخاذ قرار في شأنها.

xsebssi2015720.jpg.pagespeed.ic

 وقد جاءت ردود الأفعال كثيرة ومتنوعة تفاعلا مع هذا الموقف المتسرع رغم أنه لم يكن مفاجئا بالنظر إلى الاتصالات التي جرت طوال الأيام الماضية. وبالنّظر أيضا إلى الأخبار المعلنة والخفية المتواترة حول إمكانية إجراء تحوير وزاري أو تغيير حكومي كامل. وقد اهتمت ردود الأفعال أساسا بدواعي هذا الموقف وكذلك بالتركيبة الحكومية الجديدة وبتوجّهاتها. وبصرف النظر عن صواب ما ذهبت إليه هذه المواقف فإنّ جانبا آخر من المسألة قلّما تمّ التعرّض إليه وهو توقيتها. فما جدوى طرح هذا القرار الآن بالذات؟ وما فوائده وانعكاساته على الوضع العام؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن تنجح ما سمّي بـ”مبادرة الرئيس”؟

 إرباك وضع مرتبك

سبق أن تعرّضنا في عدد سابق من “صوت الشعب” إلى الأزمة العامة لمنظومة الحكم وبيّنّا إلى جانب بعدها الاقتصادي والاجتماعي بعدها السياسي. وقد توقّفنا عند التشويش الذي تقوم به مؤسسة الرئاسة على عمل السلطة التنفيذية بإثارة تنازع الصلاحيات في باب التسميات وغيرها. وقد لاح للجميع أنّ هناك سباق بين رئيسي الدولة والحكومة. وجاءت المبادرة الحالية لتؤكّد أنّ رئيس الدولة قد انتقل من موقع الدّفاع إلى الهجوم في ما يشبه عملية حسم لهذا الصراع. لكن الخطير في الأمر هو أنّ الجدل الذي أطلقته الرئاسة سيزيد من حالة الغموض والاضطراب، ذلك أنّ البلاد ستقضي بضعة أسابيع في التكهنات حول ما إذا كان رئيس الحكومة سيستقيل أم لا، وفي متابعة مسلسل ليّ الذراع بين الرجلين. لأنه وحسب تسريبات الكواليس وما رشح عن الاجتماع الأخير الصيد والباجي لم يتوصل إلى قرار حاسم بالاستقالة. كما تروج أخبار عن ممانعة النهضة في التفريط في رئيس الحكومة الحالي الذي تحوّل بقدرة قادر إلى مقرّب منها بعدما كان في الأصل محسوبا على الباجي وحزب النداء. في ظلّ هذا التعتيم والضبابية تعيش البلاد تحت حكومة مهزوزة الشرعية ومشكوك في قدرتها بشهادة رئيس الدولة وفي انتظار من سيخلفها.

ومن جهة أخرى وإلى غاية استجلاء الصيغة التي سيتّخذها الحوار بخصوص الاتفاق على رئيس حكومة جديد – أو تجديد الثقة في الصيد وهو أمر مستبعد – بدأ الباجي يجري اتصالاته مع بعض الأطراف (اتحاد الصناعة والتجارة) للتشاور. وتحدثت وسائل الإعلام عن لقاء جماعي جمع أحزاب الرباعي واتحادي الشغل والأعراف الخميس 9 جوان الجاري. وتوحي هذه الاتصالات بأنّ الحوار المزمع تنظيمه لا يعدو أن يكون لقاءات ثنائية محورها رئيس الدولة، وهو لا يرتقي إلى مستوى الحوار المنتظر والخليق ببلورة اتفاق يحظى بـ”وحدة وطنية “حقيقية.

وبدأ هذا التمشي يفشي وبصورة مبكّرة حقيقة التوليفة التي ستنتهي بها هذه المشاورات، أي الارتداد مجددا إلى نوع من المحاصصة التي ستفضي في أحسن الحالات إلى ترضية مكونات الرباعي أوّلا وخاصة النهضة وربما تعزيز الائتلاف بطرف جديد أو اثنين وتوسيع تركيبته ثانيا. وفي ضوء التصريحات الأولية يستبعد أن يكون ضمن الفريق الحكومي القادم ممثلين مباشرين عن اتحاد الشغل واتحاد الأعراف اللذين سيكتفيان على الأرجح بمساندة سياسية فقط. ومع ذلك ما تزال هذه المساندة غير متأكدة ما لم يشرع بعد بنقاش برنامج الحكومة وما لم يجد فيه اتحاد الشغل مثلا ما يرضيه بخصوص عدد من الملفات وعلى رأسها ملف الصناديق الاجتماعية، وما لم يجد فيها الأعراف ما يرضيهم في علاقة ببرنامج الشريك المتميز مع الاتحاد الأوروبي.

 المعارضة تتوحّد

في الجهة المقابلة لم تقض المعارضة كثيرا من الوقت لترصّ صفوفها. فبعد التفاعلات الأولى مع مبادرة الباجي بصفة منفردة جرت اتصالات حثيثة بين مكونات المعارضة الأساسية أثمرت اللقاء الجماعي صبيحة يوم الأربعاء والذي قطع الخطوة الحاسمة في التباين مع المبادرة. ويمكن القول أنه بات من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، أن يجرّ الباجي طرفا من هذه القوى لحضيرة مشروعه. الوحدة التي أبدتها المعارضة – وهي من المرات القلائل – ستحاصر مبادرة السبسي وسترفع من سقف الاشتراطات بخصوص مسار تشكيل الحكومة. ولا مبالغة إن قلنا أنّ تمشّي المحاصصة بات في مأزق وإن حصل فسيفتضح مبكرا بما ينزع عن الحكومة المترتبة عنه صفة “الوحدة الوطنية”. بل أكثر من ذلك وحدة المعارضة ستمارس      -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- ضغوطات معنوية وسياسية على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لن يضع كلّ بيضاته في سلة الرباعي ويتجاهل المعارضة، أكثر الأطراف تعاطفا معه ومناصرة لملفاته. ولعلها المرة الثانية في تاريخ تونس السياسي الحديث تتحول المعارضة، ولو من موقع دفاعي ضعيف، إلى مؤثر حقيقي في القرار، وتجبر الحكم على أخذها في الحسبان رغم أنه من المؤكّد مازال أمام الباجي هامشا من المناورة للمرور بقوة وتشكيل حكومة تؤدي أغراض “مبادرته ” ولكنها ستكون حكومة مستنسخة من سابقتها ومنهكة منذ لحظة ولادتها.

 البرنامج أم المحاصصة

إلى جانب كلّ هذه العوامل سيكون الحوار بخصوص الحكومة القادمة مهما كانت الصيغة والشكل الذي سيتّبعهما حوارا صعبا. والحقيقة أنّ الباجي ذاته وضع نفسه في هذا السياق الصعب منذ أن تحدث عن أولويات المرحلة القادمة وألمح إلى محاور برنامج الخروج من الأزمة. فانطلاقا من ذلك ما عاد من الممكن التعاطي مع الحكومة الجديدة بصيغة المحاصصة الصريحة مثلما تمّ من قبل في تشكيل حكومات الترويكا والحبيب الصيد. وفضلا عن ذلك توجد اليوم قناعة عميقة لدى أوساط واسعة بأنّ البلاد في حاجة إلى برنامج لإنقاذ البلاد من الانهيار والإفلاس. وعليه فإنّ الحوار سواء شمل المعارضة الجادة أو لم يشملها لا يمكنه البتّة التّغاضي عن نقاش برنامج الحكم في المرحلة القادمة. كما لا يمكن لهذا الحوار أن يتوقف في نقاش البرنامج عند الجمل العامة المستهلكة وصيغ اللغة الخشبية التي إن نفعت لكانت نفعت الحبيب الصيد. لذلك يتوقع أن يأخذ الحوار حول البرنامج حيّزا زمنيّا محترما. أمّا إذا سبقت المشاورات عامل الوقت واستعجلت تشكيل الفريق فستُعجّل بفضح أيّ عملية محاصصة مقنّعة وستنزع عن أيّ اتفاق المصداقية التي حاولت مقولة “الوحدة الوطنية” مغالطة الشعب التونسي والمتابعين للشأن التونسي في الخارج.

 إجمالا ستقضي البلاد ما لا يقلّ عن شهرين من الضياع في ظلّ الغموض والانتظار لتستفيق في الأخير على عملية تغيير عبثية لحكومة فاشلة بحكومة محاصصة جديدة تحمل بذور فشل أخطر وأشدّ وقعا. وحدها معجزة من السماء يمكن أن تنقذ “مغامرة ” الباجي بإحالة حكومة الصيد على مقعد البدلاء. وعلى رأي المثل الشعبي فإنّ الباجي “جا يطبها عماها”.

 لكن لسائل أن يسأل ما الذي دفع بالسبسي إلى الإقدام على هذه المغامرة؟ الجواب عن هذا السؤال يحيلنا في الحقيقة إلى موضوع خيّرنا عدم الحديث فيه وهو الدوافع الحقيقية وغير المعلنة التي عجّلت بالتّخلي عن الحبيب الصيد وهي الصراعات الداخلية في الرباعي وأساسا السباق المحموم بين النهضة والنداء نحو التحكم في مواقع الحكم الأكثر حساسية لاعتبارات حزبية وسياسية ومصلحية داخلية وخارجية. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في عدد لاحق.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×