الرئيسية / صوت الوطن / سمير طعم الله //: “هل عشنا حداثتنا؟”
سمير طعم الله //: “هل عشنا حداثتنا؟”

سمير طعم الله //: “هل عشنا حداثتنا؟”

إذا كانت الحداثة في إحدى جوانبها هي العقلانية والحرية والنقد والتقدّم فحريّ بنا أن نضع أنفسنا أمام محك السؤال الموجّه إلى الذات كفرد مبدع من جهة وكذات مجتمعية من جهة أخرى. فالذات المجتمعية حاولت ملامسة الحداثة في العديد من ردهات تشكلّها عبر التاريخ. ومن أهمّ أسس الذّات المجتمعية التحررية الحديثة هو القرار الخلاّق بإلغاء الرقّ والعبودية سنة 1846، إضافة إلى عهد الأمان سنة 1957 الذي أقرّت فيه الذات المجتمعية حرية المعتقد والمساواة بين الناس دون اعتبار الدين، ومهّدت إلى صياغة الدستور التونسي سنة 1861، ومع المجدّدين في الفكر من المدرسة الزيتونية ومع الحركة الشعرية والسردية ومع محمد علي الحامي في الحركات الاجتماعية والسياسية.

هذه الذّات كانت مسنودة بمد إنساني كبير على المستوى العالمي من خلال الأصوات المناهضة للاستعمار وحركات التحرر الوطني التي ترافقت بالمقاومة الإبداعية وبابتكار أشكال فنّية وأنماط تعبيرية جديدة. أمّا الذات المبدعة هي ذات مفكّرة لا تستمدّ حداثتها ممّا أنجزه القدامى لأنهم قدامى، ولا تذهب مذهب المحدثين لأنهم محدثين، بل لأنها تفكّر وتعمل العقل الذي هو في الأصل جوهر الإنسان وماهيته وعماد الحداثة ورافعها ونستحضر هنا المقولة الشهيرة لديكارت “أنا أفكّر إذن أنا موجود”. والتفكير هي عملية رصد للكون وللعالم وللإنسان بما هو تطوّر محمول على الاستنباط والتجاوز.

والحداثة بما هي قطع وتمرّد على السائد وبحث دؤوب عن الرقي بالإنسان إلى مستوى التحرر وكسر القيود المكبّلة له في الحياة وفي المجتمع عموما وفي الفكر خصوصا. فنحن ما زلنا في نصوصنا الإبداعية – باعتبار أنّ العمل المسرحي هو نصّ أبداعي مكتوب بلغة اخرى لغة الحركة والضوء والفضاء والأشكال والأجساد والألوان والموسيقى وغيرها من أدوات الكتابة الركحية – مازلنا لم نتخطّ بعد حدود اللياقة الأدبية في الإبداع ونسائل بوضوح فنّي مطبات اليوم وهنا. هذه المطبات التي تهندس وعينا وتحرّكاتنا وأحلامنا. مازلنا نخاف الصعود فوق الجسر حتى نطلّ من فوق على المشهد المجتمعي والثقافي الفكري والإبداعي الذّي نعيش. كيف لنا أن نطرح سؤال الحرية وسؤال القطيعة ليس بمعناها الابستيمولوجي العلمي بل بمعناها الحضاري ونربك تاريخنا بالأسئلة المحرجة. كانت الأسئلة في بداية القرن أكثر حداثية منها اليوم.

إنّ أساس بناء مفهوم الحداثة وعمادها هو العقل بما هو تجريب واختبار ونقد وتجاوز وجسارة فكرية في نبذ للخرافة والمسلمات وبما هو أيضا سؤال وقلق لا يلين ولا يصدّه حاجز لا عقائدي ولا اجتماعي ولا حتى علمي. العقل المجادل لمستويات من الوجود الإنساني العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والأدبية والفنية والفلسفية والتداخل فيما بينها. ومن هنا يمكن أن نستمدّ مشروعية سؤال هل عشنا حداثة مجتمعاتنا وهل سايرنا ما يشقّها من تناقضات.

فحداثتنا مازالت تتلمّس خطاها الأولى وهي تعيش في لحظة حاسمة من الصراع والتّحدّي للجمود والتحجّر والانتكاس. ففي المستوى الحضاري مازلنا نواجه الطاهر الحدّاد ومازلنا نجادل مجلّة الأحوال الشخصية ونواجه النمط الحضاري التونسي الذي انبنى في جزء منه على الانفتاح والتحرر.

مازلنا في تفاعلنا مع التجارب التي نعايشها لم نحطّم الأصنام ولم نتحرّر بعد من سطوة المعلّم والمرشد، فما أن ننبهر بتلك التجربة حتى نسعى بكل إصرار على تقنينها وقولبتها وإضفاء مسحة من القداسة عليها، الأمر الذي يصبح معه “البحث في ذات التجربة إشراكا كالبحث في ذات الله”. وأسوق مثال تجربة الفاضل الجعايبي أصبغها النقّاد والمسرحيين بطابع القداسة، وهنا نحن لا ننكر الريادة التي للجعايبي في المسرح التونسي. لكن على المبدعين الحداثيّين أن يتعاملوا معها كتجربة لها خصوصيّتها وميزاتها وهناتها دون اتّباع ولا محاكاة ودون أن ندخل في جلبابها. فمجانين المسرح كثر وعشّاق المغامرة مازالوا على قيد الابداع، أي على قيد الحياة، ليشقّوا لهم وسط المعاناة الإبداعية دربا.

والحداثة بما هي تجربة حياتية معيشة محكومة باللحظة الراهنة تستمدّ عمقها من الواقع بما هو فعل متغيّر فما هو حديث اليوم قد يصبح مألوفا غدا وخارج دائرة الجدة ومحكوما بقواعد وقوانين نقدية وقيود، ممّا يجعله مرجعا ومقياسا. في حين أنّ التجربة لا تعترف بهذه القيود وتتخطّاها دونما خجل ولا مراعاة، ولا بوصلة لها في فعل التجاوز وكسر المألوف. ففي المسرح مثلا من كان مؤمنا بالتجريب ومساير لواقعه وطامحا لتأسيس الخاص والجديد “لا يؤمن أنّ هنالك مسرحا تجريبيا، لأنه في الوقت الذي ينظّمُ فيه هذا المسرح في قواعد وشروط وأنظمة فإنه لا يعود تجريبيا”. (عبد الفتاح القلعجي)

لكننا نجانب الصواب إذا ربطنا مفهوم الحداثة بالبعد الزمني الآن وهنا وأخذناه على سطحيته في حين أنه مفهوم يحمل في زواياه تصورا شاملا يتخطّى صيرورته الزمنية الراهنة، حيث يجري الحديث عن الزمن الحاضر، أو المرحلة الراهنة، أو العصر الحديث، أو المجتمع المعاصر، يمكن القول إنّ الحداثة هي غير بعدها الزمني، إنها مفهوم مركّب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبدا عن إجابات تغطّي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني.

سمير طعم الله

“صوت الشعب”: العدد 202

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

أربعة + 13 =

إلى الأعلى
×