الرئيسية / صوت الوطن / حين يخطئ رئيس الدّولة المرمى…
حين يخطئ رئيس الدّولة المرمى…

حين يخطئ رئيس الدّولة المرمى…

خطاب رئيس الدولة يوم الرابع من شهر جويلية الجاري، الذي أعلن فيه حالة الطوارئ، يبيّن إلى أيّ مدى ارتدّت تونس عن مطالب ثورتها، وإلى أيّ مدى تقدّمت قوى الثورة المضادة في إعادة إرساء سلطتها الرجعية. لقد كان موضوع الخطاب، دواعي إعلان حالة الطوارئ في هذا الظرف بالذات. وقد انتظر الناس أن يقدّم إليهم رئيس الدولة معطيات جديدة، استثنائية، تبرّر مثل هذا القرار، خصوصا وأنه مرّ حوالي الأسبوع على “مجزرة” سوسة الإرهابية (26 جوان) ولم يُقدم بمناسبتها، على إعلان حالة الطوارئ، مع العلم أنّ أعضاء مجلس الأمن القومي كانوا طلبوا منه ذلك في اجتماع الأحد 28 جوان 2015، ولكنه رفض.

غياب المبرّرات المقنعة

رئيس الدولة لم يقدّم معطيات أو معلومات تبرّر اتخاذ مثل هذا القرار الاستثنائي، بل إنه عوض أن يركّز حديثه على الإرهاب، ركّزه على التحركات الاجتماعية التي اعتبرها في معظمها غير مشروعة. كما اعتبرها بمثابة العصيان المدني، فبدت كأنها السبب الرئيسي لإعلان حالة الطوارئ. بل كأنها المشجّع على الإرهاب. ولم ينس رئيس الدولة أن يتعرّض إلى الإعلام، ليعبّر، بطريقة مبطّنة، عن تبرّمه منه، ويشرط حرّيته، أي حرية الإعلام، بعدم “عرقلة” أو “تعقيد” مهمّة مقاومة الإرهاب. وحتى يُقنع التونسيات والتونسيّين بقرار إعلان حالة الطوارئ، لجأ إلى تخويفهم، قائلا لهم إنه يكفي أن تحصل عملية ثانية شبيهة بعملية سوسة كي “تنهار الدولة”.
إنّ رئيس الدولة كان أبعد من أن يقول الحقيقة للشّعب التونسي. كما كان أبعد من أن يطمئنه على مستقبله وعلى مستقبل بلده، ويقدّم إليه الحلول التي من شأنها أن تخرجه من الأزمة وتنقذه من أخطبوط الإرهاب المتمدّد. بل إنه بدا في ثوب الرئيس الذي يستغلّ ظاهرة الإرهاب ليكبت تطلّعات الشّعب التونسي ومطالبه ويتعمّد الخلط بين نضاله وبين الإرهاب، ويخلق المناخ الذي يمكّن حكومته من تقييد الحريات وتمرير الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي تمليها المؤسسات المالية الدولية وإعادة رموز النظام السابق إلى الواجهة، بدعوى “الاستفادة من خبرتهم” (في ماذا غير القمع والفساد؟). وهذا السلوك يُعتبر تقليدا من تقاليد كلّ الأنظمة البورجوازية والرجعية في العالم. إذ أنها تستغلّ ظاهرة كظاهرة الإرهاب لتشديد قبضتها على شعوبها وتحميلها تبعات فشلها الاقتصادي والاجتماعي.

الإرهاب خطر محدق ولكن…

ما من شكّ في أنّ الإرهاب يمثّل اليوم خطرا جدّيّا على وطننا وشعبنا. فهو الأداة العنيفة التي تستعملها حركة رجعية، فاشيّة، تتغلّف بالدّين. وهذه الحركة ليست حركة محلّيّة فحسب. بل هي جزء من حركة إقليمية ودولية، صنعتها القوى الاستعمارية، الغربيّة والصهيونية، وتموّلها وتسلّحها بعض الأنظمة العربية والإسلامية، وفي مقدّمتها قطر وتركيا، من أجل إجهاض التّطلّعات الوطنية والديمقراطية والاجتماعية للشعوب العربية التي نهضت من أجل الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وتفكيك دولها وتمزيق وحدتها وإعادة تقسيمها على أسس طائفية وأثنية وإغراقها في الظلامية والفتن والمجازر لإضعافها وتأبيد السيطرة عليها وعلى ثرواتها. وليس أدلّ على خطر هذه الحركة الرجعية والفاشية على بلادنا وعلى الوطن العربي وكذلك على الشعوب الإسلامية، من الكوارث التي تحصل في الشقيقة ليبيا أو في العراق أوفي سوريا والصومال وأفغانستان وغيرها حيث وجدت الظروف الملائمة، من استبداد وفقر وضعف للقوى الثورية والديمقراطية والتقدمية، لكي تنتشر وتتوسّع.
إنّ رئيس الدولة لم يفسّر كلّ هذا للشّعب التونسي، كما أنه لم يفسّر له كيف نشأ الإرهاب في بلادنا، في عهد الدكتاتورية، في ارتباط بالفقر والتهميش والقمع والاضطهاد والتصحّر الثقافي والفراغ الفكري والخواء الروحي، التي كانت كلها العامل المحرك للثورة التونسية. وهو لم يفسّر له أيضا في أيّ ظروف تمكّنت الجماعات الإرهابيّة، الفاشيّة، التي تتّخذ أكثر من تسمية (أنصار الشريعة، الدولة الإسلامية…) من التطوّر السّريع والعلني في بلادنا في فترة ما بعد الثورة، ونعني هنا فترة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة التي أوجدت لها كلّ المناخات الفكرية والسياسية والمادية لكي تتغوّل وترتكب أفظع الجرائم، وفي مقدّمتها اغتيال الشهيدين، شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، والعشرات من الأمنيّين والجنود. ولولا هبّة الشّعب التونسي وقواه الديمقراطية والتقدمية التي أسقطت حكومة الترويكا كما أسقطت دستورها الذي كانت تنوي فرضه على الشّعب التونسي (دستور 1 جوان 2013) لكانت تونس اليوم في أسوأ الأوضاع.
كلّ هذا تجاهله رئيس الدولة، لأنّ حركة النهضة هي حليفة حزبه اليوم في الحكم. كما أنه تجنّب التّعرّض إلى من يمثّل الدّعامة الأساسيّة للإرهاب في بلادنا وفي الوطن العربي. ونعني في المقام الأوّل قطر التي تقدّم على أنها “صديقة تونس”، وتركيا أردوغان التي تفتح لها أبواب الاستثمار في بلادنا. وفوق ذلك كلّه فإنه لم يتوقّف عند الثغرات المتعددة للمنظومة الأمنية (اختراقات، فساد، بيروقراطية، تقصير وانحلال…) وهي الثغرات التي لولاها لما كانت نتائج العمليات الإرهابية الأخيرة، خاصة عمليتي باردو وسوسة بمثل تلك الفظاعة. بل إنه لم يتوقف عند عجز حكومته البيّن عن التصدّي للأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتحسين أوضاع الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة. وهو ما غذّى الاحتجاجات والإضرابات، بما فيها تلك التي حامت شكوك حول حقيقة من يقف وراءها وحول حقيقة نواياه، وهو ما زاد أيضا في دفع أعداد كبيرة من الشباب إلى الالتحاق بـ”الدواعش” بحثا عن جنّة موهومة. ولكنّ رئيس الدولة اختار الطريق السّهلة، طريق إلقاء مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية على الحراك الاجتماعي على غرار ما يفعله كلّ الرّجعيّين في مثل هذه الحال.

تخويف الشعب والنّفخ في الإرهابيّين

الأنكى من ذلك ما جاء ختاما على لسان رئيس الدولة من أنّ عملية أخرى مثل عملية سوسة ستؤدّي إلى “انهيار الدولة”. فلئن كان الهدف من هذا الكلام تخويف التونسيّين والتونسيّات حتى يقايضوا أمنهم بحريتهم، فإنّه لا يخلو من تمجيد لقوّة الإرهابيّين. وهو ما من شأنه أن يشجّعهم على المضيّ قدما. بل من شأنه أن يدفع الباحثين من الشباب التائه عن مغامرة، إلى الالتحاق بهم. بما أنّ “النصر” رهين ضربة أخرى شبيهة بضربة سوسة. كما أننا لا نخال أنّ مثل هذه “الخرجة” منصوح بها لمن يبحث عن تشجيع المستثمرين المنكمشين أصلا والخائفين على مصالحهم. وكأنّ كلّ هذا ليس كافيا، فقد أضاف رئيس الدولة أنّ إعلانه حالة الطوارئ يستند إلى القانون الصادر في 26 جانفي 1978، وهو القانون الذي صدر ضدّ الاتحاد العام التونسي للشغل الذي دعا حينها إلى الإضراب العام دفاعا عن كيانه وعن الشّغّالين في وجه هجمة حزب الدستور والأعراف، والذي كان سقط فيه العشرات من الشهداء. وقد اعتبر هذا القانون منافيا لدستور ذلك العهد، فما بالك بدستور اليوم الذي لم يذكره الرئيس ولو مرة واحدة.

ائتلاف يميني عاجز والحلّ في الوحدة والنّضال

خلاصة القول، إنّ ما جاء في خطاب رئيس الدولة يؤكّد أنّ الائتلاف اليميني الحاكم عاجز حقا عن مواجهة الإرهاب بصورة ناجعة وشاملة وذلك لسببين اثنين على الأقل. أوّلهما يتمثل في أنّ هذا الائتلاف توجد فيه حركة النهضة وهي التي كان لها دور في ترك الإرهاب ينتشر ويتطوّر، وبالتالي فإنها تمثّل عائقا أمام فهم حقيقته وبلورة خطّة جدّيّة لمواجهته. وثانيهما أنّ هذا الائتلاف ليس له البرنامج القادر على القضاء على جذور الإرهاب، البرنامج الذي يُصلح مؤسّسات الدولة، ويطهّرها من الفساد ومن البيروقراطية المشطّة ويقطع مع الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية القائمة لفائدة اختيارات جديدة وطنية وديمقراطية وشعبية تنهض بالبلاد وتلبّي حاجات الشّعب الأساسيّة في الشغل والتعليم والصحة والثقافة والسكن اللائق، والبيئة السليمة ومن ثمّة لا تترك المجال للفاشستيّين والغوغائيين لاستغلال آلام الشّعب وتوظيفها لفائدة أهدافهم الرّجعية والمدمّرة.

فما العمل أمام وضع كهذا؟

على حزبنا أوّلا المساهمة في تصليب عود الجبهة الشعبية ومواصلة العمل الدؤوب في صفوف الشّعب لإقناعه بالطريق الحقيقية والجذرية التي ستمكّنه في نفس الوقت من تحقيق أهداف ثورته ومن القضاء على الجماعات الإرهابية التي لن تقدر لا على هزمه ولا تفكيك دولته. وثانيا مواصلة الضغط على الائتلاف الحاكم من أجل رفع حالة الطوارئ الحاليّة وفرض إصلاحات أمنيّة جدّيّة صلب خطة وطنية تحمي بلادنا من الانهيار، على أن يكون المدخل إليها، كما جاء في بيان الجبهة الشعبية، كشف الحقيقة في اغتيال الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي وكافّة شهداء الأمن والجيش ومراجعة التعيينات والتحقيق في الأمن الموازي وحلّ الجمعيات المشبوهة والتصدي لعصابات التهريب ومحاسبة كلّ من تورّط في الإرهاب بالتّساهل معه أو بالتّستّر عليه. وإلى ذلك علينا الوقوف إلى جانب المطالب المشروعة للشعب والتصدّي لكلّ محاولات النّيل من حرية التونسيين وحقوقهم بما في ذلك التصدي لعودة رموز النظام السابق.

ص. ش

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

11 − 5 =

إلى الأعلى
×