الرئيسية / صوت الحزب / علي الجلّولي: “العصابات الإرهابية والعنف الاستعراضي: أصل العلاقة وأهدافها”
علي الجلّولي: “العصابات الإرهابية والعنف الاستعراضي: أصل العلاقة وأهدافها”

علي الجلّولي: “العصابات الإرهابية والعنف الاستعراضي: أصل العلاقة وأهدافها”

jallouliتوالت في المدة الأخيرة مشاهد عنف وإرهاب مريع تمارسه العصابات التكفيرية، وهي مشاهد قلّ نظيرها في التاريخ المتحضّر للشعوب والمجتمعات التي قامت بمجهود فكري وعملي كبير وجبّار من أجل رسم خطوط الانفصال مع الأصل البدائي للإنسان، صحيح أن الحروب والنزاعات العنيفة تكثر فيها التجاوزات والانتهاكات الجسيمة ضد البشر، لكن قلّ أن أعطتنا التجربة الإنسانية –على الأقل الحديثة والمعاصرة- مجموعات تؤصّل نظريا وعمليا هذه الاعتداءات التي لا تفيها هذه الكلمة حقيقتها، بل أن العقل الانساني يعجز عن توصيفها. فمشاهد الحرق والنحر وضرب الرقاب والقتل أمام الملأ هي مشاهد نعرفها في كتب التاريخ، إضافة لكونها أدلة قطعية على الماضي السحيق للإنسانية الذي كان ماضيا حيوانيا وحشيا يحتكم إلى قانون الطبيعة الذي هو قانون حفظ البقاء الذي من تجلّياته القدرة على افتراس الاخر/ الخصم/ العدو الذي يشكل خطرا دائما وكليا على البقاء. إن المشاهد المروّعة تعيد طرح سؤال عميق: هل تجاوزت الانسانية حيوانيتها أم هي ساكنة فينا بشكل ما وبتعبيرات ما؟.

ما يعمّق الحيرة والسؤال هو تفنّن هذه العصابات في الإخراج السينمائي لعمليات القتل التي تعتمد آخر التقليعات التقنية الهوليودية بما فيها من إثارة وشد انتباه وحبس للأنفاس واستعراض للقوّة والقدرة والإيمان العميق بما يفعل هؤلاء في إطار تأصيل نصي فقهي يتزامن مع بث الصورة في شكل تراتيل وخطب تمسّ القلب والوجدان وتثير الهواجس حول واقع الأمّة وتحدياتها. على أنّ ما يجب أن يثير الانتباه هو النتائج العاجلة والفائقة السرعة لهذه العروض الفرجوية الاستعراضية، ففي نفس الوقت التي تثير حنق العديدين في العالم، فإنها تثير تعاطف العديدين الذي يلتحقون بمواقع القتال، ولا يهم الأمر الشباب المسلم المضطهد والمقهور، بل يشمل أيضا شبابا من مجتمعات وديانات أخرى يلتحق أبنائها بفيالق التقتيل البربري الوحشي.

إن ظاهرة الإرهاب الديني المتمثل في صور التقتيل الشنيعة بحاجة اليوم للدراسة والتنقيب بعيدا عن السطحية والإجابات الجاهزة والتقليدية. إنها ظاهرة بصدد التنامي والتوسع كمّا وكيفا، وأسبابها لا تعود فقط للواقع الأليم وحالة الاغتراب الشاسعة التي يعيشها المعذبون في الأرض- وبعض الأغنياء أيضا- فثمة في أنماط التفكير السائدة ما يشكّل حاضنة أخرى بل وأساسية لهذا التفكير الظلامي اللاتاريخي.

*عودة للتاريخ.

تؤكد الأبحاث الانتربولوجية والتاريخية أن خروج الإنسانية من طورها البدائي لم يكن دفعة واحدة، بل كان بالتدرج، وبولادة التشكيلة الاجتماعية الطبقية الأولى في التاريخ، طرح المجتمع على نفسه تنظيم وإعادة تنظيم الأدوار داخله في إطار تكريس السيطرة الكاملة لطبقة السادة ومن رحم هذا التوجه ظهرت الأشكال الأولى للدولة ومؤسساتها القسرية التي بدأت تدريجيا في احتكار العنف باعتبارها جهازا للضبط الاجتماعي، لكن احتكار الجهاز لم يمنع السادة المتنفذين من ممارسة العنف على نطاق واسع بحماية من الدولة ذاتها، وكان العنف في الأساس بدافع فرض النظام الاجتماعي الطبقي ومعاقبة كل خروج عنه أو تشكيك فيه أو تململ وتبرّم منه، لذلك كانت الدولة تطبّق العقوبة العنيفة بشكل علني في الساحات العامة تكريسا لفكرة علوية الدولة وسلطة السادة، ولم تستهدف العقوبة الجاني أو الجناة فحسب، بل كانت تستهدف كل المجتمع لفرض الطاعة والخضوع، تم تسويق ذلك باسم الثأر والقصاص والعدل وهيبة الدولة والدفاع على الأخلاق العامة والدين… وكانت الأحكام تصدر باسم الله والدين والحاكم بأمره، ويشمل الأمر ذاته الحروب التي رغم الجهد الإنساني لتأطيرها أخلاقيا مثل المعاملة الحسنة للأسرى، إلا أنها ظلت محتكمة بالكامل للعنف الشديد الذي يمارسه الاقوياء على الضعفاء لاحتلال أراضيهم وافتكاك ثرواتهم وسبي نسائهم باسم المقدس تارة وباسم الحق طورا وباسم شرعية القوة أحيانا .

تواصلت هذه الممارسة التي كانت بشعة وتنهل من الماضي البدائي للإنسان الى حدود العصر الحديث، حيث حاول الفكر البشري تساوقا مع الثورة البرجوازية التي صاغت، شعارات جديدة حول انسانية الإنسان وحقوقه وكرامته، وطال الأمر العقوبة التي طرحت مهمّة أنسنتها بالتخلي عن جانب التشهير والعلنية، وشخصنتها بربطها بالجاني المفترض إذ سابقا كان العقاب جماعيا وحضور العائلة والقبيلة والقرية إلزامي في لحظة تطبيق العقوبة مع شرط الرضى والتصفيق لحظة تنفيذ العقوبة ضمن طقوس التذكير بالولاء والتأييد للحاكم. في هذا الاطار عرفت المنظومة الجزائية ثورة في أفق أنسنة العقوبة فبدأت المعتقلات والسجون تتغير، وأصبح الإعدام “رحيما” وصولا إلى حملة إلغائه في النصف الثاني من القرن العشرين حيث بدأت المظاهر المزرية للإهانة والتنكيل في الاختفاء تدريجيا، وأصبح لشُرعة حقوق الانسان وجود وتأثير حتى في حال الحروب رغم عنفها واحتكامها إلى منطقها الخاص.

إن الشوط المهم الذي بلغه المجتمع الانساني يهمّ أساسا ظهور توجهات فكرية وحقوقية وسياسية مناهضة للوحشية والبربرية، وهي اتجاهات بصدد التوسّع والتأثير ووجود اتفاقات ومعاهدات وصكوك دولية تحمي حقوق البشر يُعدّ مكسبا ثوريا وتقدميا للإنسانية وللمحرومين والفقراء الذي كانوا لقرون عديدة موضوعا للتشنيع والقتل والإرهاب. ورغم كيل الرأسمالية بمكيالين في نظرتها وتكريسها لمنظومة حقوق الانسان والذي يتجلّى بمناسبة احتلالها وتدخلها وخلقها ودعمها لعصابات الإجرام والإرهاب، إلّا أن المكسب الهام يتمثّل اليوم في إمكانية مواجهتها حتى على أرضها بما يخلق هوامش مهمّة يمكن أن تستفيد منها الطبقات والشعوب المعتدى عليها، وذلك في انتظار وضع انساني أكثر إشراقا و احتراما لحقوق البشر.

*وماذا عن مجموعاتنا التكفيرية الإرهابية؟

تكثف في العقود والسنوات الأخيرة وجود ونشاط مجموعات الإسلام السياسي التي اتّجه جزء منها إلى العمل العنيف بدواعي سياسية تتعلق بأن وضع الأمة الحالي يستوجب الدفاع عنها بكل الوسائل وأهمها و” أرقاها” العنف الذي يسمى في عرفها جهادا، ودواعي تاريخية / حضارية تتعلّق باسترجاع أمجاد الأمة خاصة زمن “السلف الصالح”، ودواعي فقهية تتعلق ب”التغيير باليد” بعد أن تعذّر “التغيير باللسان”، ورغم الإسهال الكلامي حول “قضية الأمة”، أي قضية فلسطين، إلاّ أن بنادق هؤلاء لم توجّه البتّة إلى صدور المحتلّين إلا جزء من فروعها في فلسطين ولبنان.

وقد تدرّجت تيارات العنف المعاصر من اغتيال الوزراء زمن حسن البنّا الأب المؤسس لحركة الإخوان المسلمين التي صاح ضدها قبيل اغتياله “ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين”، إلى العمليات المسلحة ضد أهداف سياسية أو سياحية (تجربة الجهاد في مصر بقيادة أيمن الظواهري،الإخوان في سوريا وتونس والمغرب )، لتعرف الممارسة العنفية لهذه المجموعات منعرجا كبيرا مع تجربة “جبهة الانقاذ” بالجزائر التي خرج من رحمها “المجموعة الإسلامية المقاتلةGIA–)، وهي تجربة مريعة دمّرت لسنوات طوال ولازالت الأفق السياسي للشعب الجزائري. وقد كانت مجموعات العنف متداخلة في أهدافها ووسائلها وأنشطتها مع خلفيات أخرى ترتبط بالتيارات الفاشية في النظام والجيش الجزائري وبمصالح المافيا الاقتصادية وفرعها التهريبي، وهو وضع مؤكد ومتشابه في تجارب هذه التيارات في باكستان وأفغانستان ونيجريا والسودان…،

إضافة لذلك فتعتبر العلاقة الايديولوجية/ الفقهية مع الوهابية حاضنة إضافية للاتجاه الأكثر تطرفا وظلامية الذي تجلّى مع تنظيم القاعدة وتفريعاته، وآخرها ما يسمّى تنظيم “داعش”. وفي مختلف هذه التجارب يعتبر العنف الشنيع ومظاهره الاستعراضية سمة بارزة وآخذة في التعمّق، خاصة وأن التواجد الأكثر كثافة ونشاطا لهذه المجموعات يرتبط ببؤر التوتر والنزاعات المسلحة في العراق وسوريا وليبيا، وبالنقاط الساخنة في شمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء، علما وأن هذه التيارات لم توجه خطابها ولا حرابها للاحتلال والتدخل الأجنبي بل انخرطت في مخطّطات إقليمية ودولية للتحكم في المنطقة ونشر “الفوضى الخلاّقة”، ووجّهت حرابها ضد السكان العزل والأقليات الدينية والعرقية مثل ما يجري ضد اليزيديين والأرمن والأكراد وأخيرا ضد الأقباط، بما يؤكد الطابع الفاشستي لهذه العصابات ولتزعّمها لخطة تفكيك المجتمعات إلى طوائف وملل ونحل بما يخلق التعلاّت للتدخل وهو ما يؤكد عمق الارتباط بينها وبين دوائر القرار في العالم التي تموّلها وتسلحها وتؤهلها لأقذر الأدوار، إن بصفة مباشرة وإن بالوكالة عبر الخط القطري/التركي/الاخواني الذي يشكل اليوم عرّاب هذه العصابات في إطار برنامج “الشرق الأوسط الجديد” الذي أعدّه عتاة اليمين الصهيوني في أمريكا لوضع اليد على المنطقة مقدرات وخيرات وشعوب، حاضرا ومستقبلا.

*فلسفة العنف عند العصابات التكفيرية.

تنهل هذه العصابات في فكرها من أشد الافكار قتامة في التاريخ الإسلامي، هذا التاريخ الذي يحتوي مثل كل تاريخ البشرية ماهو نيّر وتقدمي وما رجعي وظلامي، وتعتبر هذه الأرهاط التكفيرية امتدادا تاريخيا لتيار واسع من الفكر الانغلاقي الذي يتوهّم احتكار الحقيقة والتماهي مع جوهر الدين الذي استبطن فكرة تمثيله دون غيره، وبما أن الأمر كذلك فمتاح له أن يفعل ما يريد بما في ذلك ممارسة أقسى درجات العنف والإرهاب والرعب والتخويف. وتؤكد التجربة التاريخية للمجتمع العربي أن ممارسة العنف والتعذيب لم تكن شائعة كثيرا في المجتمع العربي البدوي قبل الإسلام وفي بداياته، وكانت ممارسة التشميس ضد العبيد هي الممارسة الأكثر شيوعا وتتمثل في الرمي تحت الشمس الرمضاء بعد التصفيد بالأغلال الحديدية وذلك من أجل فرض الطاعة وتكريس النظام الاجتماعي القائم. أما العنف السياسي فقد ظهر بعد أحداث حروب الردة التي خاضها أبو بكر الصديق ضد المرتدين بعد إعلان وفاة النبي، إذ تؤكد بعض المصادر أن التقتيل الواسع وحرق الأحياء ظهر لأول مرة بمناسبة تلك الأحداث. وقد عرف العنف السياسي المنظم أو الإرهاب -بلغة أيامنا- أشدّه مع الدولة الأموية بعد حسم مسألة السلطة والحكم لصالح بني أمية الذين تنحروا مع أنصار علي انتقاما من مقتل عثمان، وقد كانت الفتنة الكبرى مناسبة مورس فيها أبشع Hشكال العنف السياسي مثل التمثيل بالجثث ورفع الرؤوس على أسنة الرماح.

وقد عرف عهد معاوية بن أبي سفيان اتساع نطاق ممارسة العنف السياسي وهو ما أتقنه واليه على العراق زياد ابن أبيه الذي تفنّن في تعذيب العراقيين (أنصار علي بن أبي طالب) والتنكيل بهم مثل منع التجول ليلا (وأحيانا بالنهار) والقتل الكيفي وهو القتل على التهمة أو على الظن، وقتل البريء لإخافة المذنب وقتل النساء وهو ماكان معيبا في السابق، والإعدام على نطاق واسع حتى أن وكيله على البصرة أسقط ثمانية آلاف رأس، وأسس زياد لقطع اللسان الذي سيصبح ميزة الحكام الإرهابيين طوال تاريخ العرب والمسلمين. وقد عرف العنف تصاعدا كميا وكيفيا مع حكم الحجاج ابن يوسف، إذ شاعت ممارسة التعذيب حتى ضد الأسرى. كما عُرف عهده بممارسة قطع الرأس بالسيف متبوعا بالصلب وخاصة بالنسبة للمعارضين، كما عرف عهد هشام ابن عبد الملك التطبيق الواسع لحدّ الحرابة وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف لإرهاب الرعية وفرض الطاعة وإسكات المعارضين حتى أنه أصدر فتوى بصلب من يشكك في الخليفة في البيت الحرام رغم التقليد السائد بتحريم قتل حتى الحيوان هناك. وقد واصل العباسيون نفس منطق أسلافهم حتى أن ابراهيم الامام أوصى أبي مسلم الخراساني بإعدام من وصل خمسة أشبار و يُشكّ في ولائه، وقد تفنّن بعض حكامهم في أساليب التعذيب مثل دفن الأحياء، وزيادة الأعضاء المعنية بالقطع حتى وصلت الأربع عشر في عهد الرشيد مع استعمال قاطع غير حاد عوضا عن السيف إمعانا في الإيذاء والإيلام. كما مورس سلخ البشر في بعض الحالات والقتل حرقا وشيّا والجلد والرجم والقتل الجماعي دون موجب مثلما كان يفعل مراد الثالث في تونس وهو الذي سمّي مراد أبو بالة لأنه كان حين يغضب يخرج ويقطع رؤوس من يقابلونه بواسطة “بالة” قائلا “إن البالة قد جاعت”. هذا ولم تقتصر هذه الممارسات على الحكام الطغاة بل شملت أيضا بعض حركات المعارضة والحركات الانشقاقية.

على أنه يجب الإشارة إلى أن هذه الممارسات ظلت في الأساس حكرا على المعاملات الداخلية ولم تشمل الأسرى من الشعوب والديانات الأخرى رغم تعرضهم في حالات للقتل والإعدام لكن غالبا دون تشنيع أو تمثيل.

هذا وقد اقترنت ممارسة العنف الشنيع والإرهاب ضد الأفراد أو الجماعات  بتشريع فقهي يقوم به رجال الدين والفقهاء الذين وان ذهب بعضهم إلى انكار التعذيب وفي الأدنى ربطه بقيود وشروط تخفّف منه ، فان بعضهم ذهب عكس ذلك، بل أن الحكم الاستبدادي ارتبط طيلة التاريخ الاسلامي بالاستناد لخلفية دينية قوية حتى أن أبو بكر لمّا أنكر عليه بعض الصحابة حرق الأسرى الذي مارسه رئيس جنده خالد بن الوليد في حروب الردة قال قولته الشهيرة: “لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكفار”. هذا وتؤكد المراجع التاريخية والفقهية ارتباط ممارسة الارهاب بفكرة مركزية هي فكرة التكفير، وكُفر المسلم يجابه بإقامة الحد وهو القتل (حدّ الردة).  أما حملة الأديان الأخرى (أهل الذمة) فيطالبون بدفع الجزية وهي ضريبة مقابل عيشهم مع المسلمين.

وإن اختلف الفقهاء في شروط التكفير وحتى في جوازه أصلا، فإن هذه التهمة ظلت لقرون تهمة جاهزة تُوظّف في تشريع العنف والإرهاب والقمع، باسم الدفاع عن الدين وعن رسالته، وهو نفس المنطق الذي تستعمله اليوم العصابات التكفيرية التي تجيّر ممارسة الإرهاب وأفظع أشكال العنف الهمجي بغلاف ديني فقهي ، لذلك تتدافع قطعان التكفيريين على نحر أسراهم أمام الكاميرا دون مراعاة لأخلاق أو مشاعر علما وأن معاملة الاسرى ظلت عندنا وعند مختلف الشعوب مشروطة بأخلاقيات، ووصل الامر حدّ ذبح الموتى (حادثة ذبح الأمنيين بعد قتلهم بالرصاص في الشعانبي ، ذبح عون الامن في الفحص…)وحرق الحي (احراق الطيار الاردني) والنحر (21 قبطي في طرابلس) إضافة لقتل الأسرى (الصحفي الياباني..) وطلب الفدية، وذلك من نفس التيار التكفيري الارهابي الذي يتسع عدد ضحاياه الذين ليسوا فقط من الامنيين والعسكريين (أو الطاغوت) بلغة العصابات الإرهابية) بل يستهدف المدنيين مثلما حدث مؤخرا (يوم 18مارس 2015) بالعملية الإرهابية التي طالت متحف باردو بالعاصمة أين تمّ قتل أكثر من 20 سائحا ذنبهم الوحيد هو تواجدهم بالصدفة في ذلك المكان.

*ماالعمل لمواجهة الارهاب؟

إن جهدا كبيرا مطروحا على شعوبنا ومفكرينا ونشطاؤنا للتصدي لهذه التيارات التي ما دخلت بلدا إلا دمّرته وعادت به القهقرى إلى عصور الانحطاط وقرون الظلام التي تريدها لها القوى الامبريالية والصهيونية التي ثبت بالدليل والبرهان اعتمادها على هذه العصابات لتحقيق أهدافها بالوكالة وبالنيابة دون حاجة لتدخل خارجي. ان المواجهة مع هذه العصابات ليست فقط سياسية وأمنية، بل هي مواجهة شاملة يلعب فيها الاقتصاد والفكر والثقافة والتعليم والإعلام … دورا أساسيا، فباتساع نطاق الفقر والحرمان وفي غياب الفكر النقدي وبحالة التعليم والثقافة في بلداننا تنتشر قيم التجهيل والتخلف والاستلاب التي تشكل إطارا خالقا محفّزا للرجعية والظلامية. إن هدف هذه التيارات هو تدمير المجتمع وتحريف وعيه بدعاوي ماضوية باسم عودة وهمية للأخلاق والأصالة، لكن الاخلاق والأصالة التي يقصدونها هي اخلاق وأصالة الثقافة الأكثر سوادا وظلمة و حلكة في تاريخنا قديمه وحديثه.

إن معالجة هذه المشكلة العويصة والمعقدة تقتضي في رأينا معالجة مباشرة وأخرى استراتيجية تتم على مدى طويل.

أما المعالجة المباشرة والتي كثرت بصددها المقترحات فنحن نعتقد أنه لن يكتب لها النجاح ما لم تتحول مقاومة الإرهاب إلى معركة شعبية بالمعنى الحقيقي للكلمة، والمقصود بذلك ليس تقديم المعلومات حول تحركات الإرهابيين لأجهزة الأمن، بل المقصود أن لا تقتصر المعالجة على الجانب الأمني والعسكري على أهميته، فهذه الأخيرة تبقى حكرا على الأجهزة الرسمية للدولة فيما يجب اليوم تحويل الصراع مع الارهاب إلى عموم فئات الشعب. يجب أن ينخرط الشعب في مصارعة الإرهاب باعتباره عدوا، ومع الإرهابيين باعتبارهم أعداء، وهذا يقتضي ضرورة انخراط كل الفعاليات السياسية والمدنية والاجتماعية والإعلامية في هذه المعركة التي ستخلق استقطابا واضحا وجليا داخل المجتمع: من ضد الإرهاب ومن معه بالإسناد أو بالتواطئ أو بأي شكل آخر.

يمكن أن يكون هذا من خلال تفعيل مقترح المؤتمر الوطني لمجابهة الارهاب الذي تدعو إليه الجبهة الشعبية واقتنعت به مؤخرا عديد الفعاليات الأخرى، مؤتمر ليس لخلط الأوراق وتمرير فكرة وهمية أن الجميع ضد الإرهاب بمن فيهم من تلاحقه شبهة أو تهمة التعالق والتعاون مع العصابات التكفيرية، بل إطار لضبط استراتيجية وطنية واضحة تُسمّي الأشياء بمسمياتها وتخوض المعركة في إطار شعبي واسع، حينها يكون للنجاحات الأمنية والعسكرية معنى، لأنها ستعزّز وتتعزّز بعمل شامل وعميق تُستنفر فيه كل القوى والإمكانيات، حينها سيفهم الإرهاب أن لا مكان له في بلادنا رغم الضربات الموجعة التي وجهها ولازال وسيظل يوجهها لنا، لكن شمولية المعركة والانخراط الواعي والواسع فيها سيقلص حجم التأثير والخسائر والزمن المفترض لهذا الصراع الضاري الذي يستهدف طاعونا إقليميا ودوليا له تمويلات وإمكانيات ضخمة، وهو مرتبط بأهداف استخباراتية وسياسية واقتصادية تستهدف منطقتنا ومحيطنا الاقليمي. لهذا يجب أن تُسخّر للمعركة إمكانيات هائلة ومن شأن المشاركة الشعبية الواسعة أن تذلّل عديد الصعاب.

من مقتضيات المعركة المباشرة مع الإرهاب ضرب أسبابه الأساسية وهي الفقر والحرمان والتهميش الذي تشعر به فئات متنامية من الشعب في الأحياء الشعبية والجهات المحرومة، وفي الأساس مجمل الطبقات المفقرة، بما يعني ضرورة اتخاذ إجراءات اقتصادية واجتماعية عاجلة  لصالح الجيوب العميقة لصناعة الإرهاب في بلادنا، ولابد في هذا الإطار من سياسة حازمة لضرب مسالك التهريب الذي يعتبر حاضنة وحليف تقليدي للإرهاب وهذا مثبت في كل البلدان التي عاشت هذه الظاهرة (أفغانستان، الصومال، بوكو حرام…) وتتورط فيه اليوم مصالح متداخلة من إرهابيين ومهّربين بمن فيهم رجال أعمال ورجال دولة.

 يتزامن مع ذلك إعلان المعركة الثقافية الكبرى ضد الإرهاب، التي تتطلب فتح الباب أمام المجتمع المدني والأحزاب الديمقراطية والنقابات والجمعيات الثقافية كي تقوم بدورها الأساسي والحاسم في مقارعة الإرهاب بالثقافة النيرة، وهذا لا معنى له دون مراجعة ميزانيات وزارة الثقافة والتربية والتعليم العالي والمرأة والشباب كي تضطلع بمهمة أساسية في بناء عقل نقدي حي ونشيط ونابذ للإرهاب، فالفئة الأولى المستهدفة هي الفئة الشابة من تلاميذ وطلبة وخريجين وعاطلين، لذلك لابد من عمل ثقافي واسع يستهدف هذه الفئات لمواجهة مصادر الدمغجة وغسل الدماغ التي يعتبر الفراغ الثقافي والروحي  أحد أهم أسبابها، لابد من نوادي ثقافية في كل مدرسة ومعهد وكلية وحي وريف، في كلمة لتكن ثورة ثقافية شعبية واسعة تحارب التفكير الرجعي والظلامي وتخلق مكانه فكرا جديدا هو فكر الانسان الحر والنير والتقدمي، وفي جانب من المعركة الثقافية آن الاوان في بلادنا وربوعنا كي تنطلق من جديد حركة الإصلاح الديني التي حاولت أن تنبت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكن تم إحباطها داخليا وخارجيا لحرمان بلداننا من أحد أسباب ومظاهر التقدم.

إن التكلس والتحجر الديني هو رافد محوري للنوازع الإرهابية لذلك لابد من مشاركة لأهل الرأي من المتنورين في هذه المعركة. إن الارهابيين  بصدد استغلال المساجد  ومنابرها لبث سمومهم ومغالطة البسطاء من الناس وتمرير فكرة أنهم حملة لواء الدين “الحقّ” وما سواهم كفر وبهتان، وقد تحولت عديد المساجد والجوامع إلى فضاءات تجييش ضد المجتمع وقيمه ومكاسبه من قبل رموز الفكر الظلامي التونسيين والخليجيين، والمعركة مع هؤلاء يجب أن تخاض في المساجد ذاتها وفي المنابر العامة بالدفاع عن القيم المتنورة وعن الاتجاهات العقلية وغير التكفيرية في الفقه والاجتهاد والتصدي للنزعات الوهابية الموغلة في التحجر والتخلف.

إن مجمل مستويات وفصول المعركة يجب أن تُخاض في فضاء عام يحتكم إلى الحرية ولا يصادرها. إن أخطر انحراف يمكن أن يوجد اليوم هو في هذه الدعاوي للتضييق على الحريات العامة والفردية بما فيها محاولة تشريع الانتهاكات التي يمكن أن تطال إرهابيين أو متهمين بالإرهاب. إن أحد أهم أهداف العصابات الإرهابية هو ضرب المكاسب الديمقراطية لشعبنا وإعادة أساليب الحكم الاستبدادية التي ستكون مرّة أخرى سببا لاتساع نطاق النزعات الرجعية ولن تكون في كل الحالات إطارا لتوسع القوى التقدمية.

إن الحرية هي الفضاء الأمثل لمصارعة الإرهاب وليست الدكتاتورية. علما وأن هذه الأخيرة تتسرب تدريجيا وفي غفلة من الجميع باسم التصدي للإرهاب والتطرف، وحين تتمكّن تسحب قمعها على الجميع، لذلك على مناضلي الحرية اليقظة والتصدي المبكّر لأي نزوع استبدادي سواء في التشريعات (قانون مكافحة الإرهاب، قانون حماية الأمنيين….) أو في الممارسة العامة لأجهزة الدولة، فالإرهاب غالبا ما يكون شمّاعة لعودة النوازع الفاشية في الحكم.

أما المعالجة الاستراتيجة، ففي اعتقادنا لا يمكن القضاء على الارهاب دون القضاء على أسبابه  العميقة وهي التقسيم الطبقي للمجتمع واحتكار السلطة والثروة من قبل أقلية طفيلية، والمهانة الوطنية والقومية التي تعيشها شعوبنا بحكم السيطرة الامبريالية والصهيونية على المنطقة. انّ الارهاب ظاهرة مسّت وتمسّ كل المجتمعات دون استثناء، لكن حجمها وحجم تأثيراتها هو المختلف، ففي العالم العربي والإسلامي يتسع نطاق الأعمال الإرهابية بحكم الاسباب التي ذكرناها، لذلك لابد من جهد كبير تقوم به هذه الشعوب من أجل تحررها وانعتاقها ومن ثمة خلق شروط القضاء على الإرهاب، وقبل ذلك سيظل كابوس الإرهاب  يلاحقنا وهو الذي تحوّل اليوم الى استرزاق للدول وللمجموعات والأفراد في إطار مخططات تقسيم المنطقة والتحكم في ثرواتها ومقدرتها وبالتالي حاضرها ومستقبلها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقال ورد بمجلّة “الفكريّة -العدد 20 / أفريل 2015)

علي جلّولي : عضو لجنة مركزية بحزب العمّال

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×