الرئيسية / منظمات / منظمات أخرى / مداخلة حمه الهمامي في ندوة لوموند ديبلوماتيك حول اليسار
مداخلة حمه الهمامي  في ندوة لوموند ديبلوماتيك حول اليسار

مداخلة حمه الهمامي في ندوة لوموند ديبلوماتيك حول اليسار

طلب مني الرفيق رياض بن فضل، المساهمة بمداخلة موجزة في هذا اليوم الأخير من هذه الندوة، حول تجربة الجبهة الشعبية في تونس، باعتبارها إحدى أهم تجارب الحركة اليسارية في بلادنا خلال العقود الأخيرة بل إحدى أهم التجارب التي ساهم اليسار الثوري التونسي في بنائها وإنجاحها مع رفاقنا في الأحزاب القومية. وكي لا أطيل عليكم فقد ارتأيت أن أركّز على بعض أبعاد هذه التجربة، التي يمكن لرفيقاتنا ورفاقنا في بلدان عربية أخرى الاستفادة منها. وأوّل هذه الأبعاد وأهمّها هو أنّ الأحزاب والقوى اليسارية في تونس، المنخرطة في الجبهة الشعبية، كسبت بعد حوالي الثلاث سنوات ونصف من العمل المشترك، رهان الوحدة الذي كان يبدو صعبا في الانطلاق بحكم الإرث الانعزالي الضارب في تاريخ الحركة اليسارية في تونس بشكل خاص، والحركة السياسية بشكل عام.

Untitled-1

 العمل السّياسي المشترك جزء من هويّتنا

 لقد كنا في الماضي فرقا وشيعا تتناحر باستمرار، إلى حدّ أنّها تقيس نجاحاتها أحيانا، لا بما تفعله إزاء العدو الرئيسي للشعب والوطن، بل بما تفعله إزاء بعضها بعضا. واليوم أصبح العمل السياسي المشترك جزء من “هويتنا”، فحين نفكر، أصبحنا نفكر جماعيا، نفكر بما يمكن أن نفعله بعضنا مع بعض، لا ضدّ بعضنا البعض. أصبحنا نقيس نجاحاتنا وإخفاقاتنا بما نحقّقه أو لا نحقّقه في النضال ضدّ العدو المشترك. وإذا تساءلنا عن العوامل التي حسمت مسألة العمل المشترك في بلادنا فلا يمكن إرجاعها فقط إلى العامل الموضوعي، إلى ضغط الواقع وتحديدا إلى الفشل المشترك الذي منينا به في انتخابات 2011 وفي غيرها من المحطات السياسية والذي دفع بأنصارنا ونصيراتنا، إلى المطالبة بإلحاح شديد بالوحدة، كشرط لضمان استمرار الحركة اليسارية وتطوّرها في بلادنا في وجه الغول اليميني الزّاحف بطرفيه الإخواني، وبقايا النظام القديم.

 لقد كان للعامل الذاتي، دور كبير في توحيد الحركة اليسارية وبناء الجبهة الشعبية. وأعني بالعامل الذاتي، وجود قيادات في أحزاب اليسار، من أبرزها الرمزين الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، مدركة أهمية الوحدة، حاملة نظرة تتجاوز المصالح الضيّقة للأحزاب والمجموعات التي تنتمي إليها. نظرة تتّسع لتستوعب مصالح كل الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة في أبعادها الوطنية والاجتماعية والسياسية وتترجمها في أرضية سياسية مناسبة للوضع، بعيدا عن القوالب الايديولوجية والجمل الثورية الفارغة. قيادات تبحث عن تجاوز الفشل المشترك وتعويضه بالنجاح المشترك الذي يعود بالفائدة على هذه الطبقات والفئات وعلى الوطن بشكل عام.

وقد كان على هذه القيادات أن تصارع النزعات الانعزالية الطفولية في أحزابها وتنظيماتها وأن تظل في الأوقات الحرجة، مثل انتخابات 2014، متمسّكة بروح الوحدة، عاملة على ترسيخها وتطويرها، مستندة إلى النتائج الإيجابية التي يثمرها العمل المشترك في إطار الجبهة الشعبية وإلى النتائج السلبية التي تنتجها الصراعات الفئوية، في كل مرة سقطنا فيها. لذلك فإنّ ما نراه من تأخّر في العمل المشترك في باقي الأقطار العربية، بدءا بفلسطين ووصولا إلى منطقتنا المغاربية، لا يعود إلى قلة المشاكل التي تدعو إلى تكوين جبهات العمل المشترك، بقدر ما يعود إلى ضعف الوعي، إن لم نقل انعدامه أحيانا، بأهمية وحدة القوى الثورية والتقدمية كشرط وضمان لتحقيق وحدة الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة. وهو ما ينبغي العمل على تجاوزه، خاصة في هذا الظرف الذي تختلّ فيه موازين القوى لفائدة القوى الرجعية، محليا وإقليميا ودوليا.

لكن هل يمكن القول إننا في تونس كسبنا رهان الوحدة، ولم يعد لنا ما نفعله لتعزيز هذه الوحدة وتطويرها؟

 كسب رهان الوحدة

 كلّا! نحن نعتقد أنّنا لم نقطع سوى الخطوة الأولى نحو الوحدة وما تزال أمامنا خطوات أخرى حاسمة ينبغي قطعها. سواء كان ذلك داخل الجبهة أو خارجها. ففي داخل الجبهة الشعبية ما تزال الوحدة فوقية إلى حد كبير، أي أنها ما تزال في مستوى القيادات ولم تتغلغل بما فيه الكفاية في داخل قواعد مكونات الجبهة الشعبية لتنعكس في سلوكها ونشاطها وتثمر نتائج أفضل من النتائج الحاصلة إلى حدّ الآن، وهي نتائج على أهميتها ما تزال محدودة وغير ثابتة، أي بلغة أخرى نتائج قابلة للتراجع والتلاشي إذا لم تتدعّم باستمرار.

ولعلّ أكبر دليل على ما نقول هو التشتّت المتواصل في صفوف شباب الجبهة الشعبية، ونسائها ونقابيّيها ومبدعيها، إذ أنه إلى حدّ الآن لم تتوفّق الجبهة الشعبية في بناء الأطر الموحّدة لاستيعاب كافة طاقاتها وتوحيد جهودها. إنّ الجبهة الشعبية يُطرح عليها اليوم رهان لا بدّ من كسبه في أسرع الآجال يتمثّل في: – أوّلا: توحيد الصف النقابي الجبهوي لمواجهة الهجوم على قوت الشغالين وعلى الحركة النقابية ولمواجهة الاستحقاقات النقابية القادمة.

– ثانيا: بعث جبهة شبابية، لمواجهة المخاطر الكثيرة والمتنوعة التي تتهدد الشباب ومن بينها الإرهاب والمخدرات والكحولية والحرقة، وتوجيه طاقاته نحو النضال والتغيير.

– ثالثا: بعث جبهة نسائية للحفاظ على المكاسب وتثويرها وتطويرها لما تمثله النساء من خزان لا ينضب في مواجهة القوى الرجعية والظلامية.

– رابعا: بعث جبهة ثقافية للمّ شتات مثقفينا ومبدعينا في المعركة ضدّ الظلام الزاحف.

وما من شك في أنّ إعادة هيكلة الجبهة اليوم جهويا وقطاعيا سيسرع بتجاوز هذا التشتت الكبير. وثمة مسألة أخرى وقع تناولها في ذكرى تأسيس حزب الوطد الموحد، وهي التقدم نحو توحيد قوى اليسار الثوري، الماركسي، اللّينيني. ونحن نتعاطى مع هذه المسألة بتأنّ لا ببطء حتى ننجح فيها، فلا نتسرّع فتكون النتيجة الفشل.

أمّا خارج الجبهة الشعبية، فما يزال أمامنا عمل كبير، فالجبهة حتى وإن انخرطت فيها أهم الأحزاب فإنها لا تمثّل ولا تستوعب كل فصائل اليسار والقوى الديمقراطية والتقدمية في تونس، وهو ما يطرح عملا وجهدا إضافيّين خاصة في الظرف الحالي الذي يشهد تسارعا في الالتفاف على مسار الثورة، وعودة تدريجية، إلى الاستبداد في إطار حلف مقدس بين النهضة وبقايا النظام القديم. وأمامنا اليوم فرص مهمة، فالنضال الاجتماعي والشعبي لا يتوقف، والبلاد مقبلة على أزمة شاملة وعميقة، قد تؤدي إلى إنفجارات اجتماعية كبرى. وهو ما يمثّل أرضية لتعميق الالتحام وتوسيعه لإفشال مشاريع الائتلاف اليميني الرجعي.

 كما أنه أمامنا فرصة أخرى مهمة وهي الانتخابات البلدية والجهوية والمحلية، وهذه الانتخابات ستكون امتحانا جديدا للجبهة. فإمّا أنها ستثبت مكاسبها وترسّخ قدمها في المشهد السياسي وإمّا أنّ هذه المكاسب ستتلاشى. ويبقى الجواب عن هذا السؤال مشروطا بمدى استعداد الجبهة الشعبية للانفتاح على القوى الديمقراطية والتقدمية خارجها وعلى كل الطاقات الحية في مجتمعنا وفي مقدمتها الشباب الذي تتكاثر “ذنوبنا” تجاهه وهو ينعزل، ويبتعد عن الشأن العام، ولا يجد القوة التي تشده إليها (وما الحضور الباهت للشباب في هذه الندوة إلاّ دليل على ما نقول).

لقد طرحت الجبهة الشعبية في ندوتها الوطنية الثالثة التي انعقدت في موفّى أفريل ومطلع ماي، مبادرة جديدة أسمتها “مبادرة للإنقاذ، والبناء”، وهي قادرة اليوم، إذا عرفنا كيف ننشرها ونفعّلها، على تجميع أوسع القوى الديمقراطية والتقدمية والاجتماعية حول محاور عمل من شأنها توفير فرصة لتعديل موازين القوى لفائدة الشعب وعرقلة مسار الالتفاف على الثورة في انتظار إفشاله وخلق الظروف المناسبة لبلورة طور جديد من الثورة التونسية يحقق أهدافها بالكامل.

 العمل المشترك مهمّة قوميّة وأمميّة

 وقد انطلقت النقاشات مع عدد من الأحزاب التقدميّة، وثمة اليوم مؤشرات مشجّعة، توحي بأنّ الاقتناع بالعمل الموحّد يتطور بخطى ثابتة على حساب النزعات الانعزاليّة، القاتلة، وما علينا إلاّ أن نمسك بهذا الخيط ولا ندعه يسقط أو ينقطع، ونمدّه في اتجاهات أخرى، في اتجاه المجتمع المدني والنقابات، والفعاليات الشبابية والنسائية والثقافية، فلا مجال اليوم للتردد وإضاعة الوقت.

وما من شكّ في أنّ العمل المشترك لا يمكن أن يتوقف عند حدود تونس، فأوضاعنا مرتبطة بألف طريقة وطريقة بالأوضاع في المنطقة وفي الوطن العربي والعالم، وما يلحق شعبنا من أذى هو نفس الأذى الذي يلحق الشعوب العربية، وشعوب العالم، ومصدره واحد، ولا يمكن لأحدنا أن يطوّر شروط النضال عنده ويتوفق في تحرير شعبه بمعزل عن الآخر وهو ما يجعل من العمل المشترك مهمة قومية وأممية.

لقد سبق لنا أن بيّنّا في أكثر من مناسبة أنّ الجبهة، سواء كانت “وطنية”، أو “شعبية” أو “موحدة”، أو “معادية للامبريالية” هي اليوم شأن قومي وأممي يفرضه واقع الأزمة العامة التي يتخبط فيها النظام الرأسمالي العالمي منذ عام 2008 والتي هي تنعكس على العمال والشعوب والأمم الصغيرة والضعيفة بأخطر الأشكال، بدءا من الهجوم على الحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ووصولا إلى الحروب والاعتداءات العسكرية وأعمال تدمير البيئة التي يعيش فيها الإنسان.

ولئن عبّرنا في أكثر من مناسبة عن استعدادنا للعمل المشترك في النطاقين القومي والأممي، فإننا أكّدنا دائما أنّ هذا العمل لا ينبغي أن يبقى كلاما فحسب، بل لا بد من ربط النقاش والقرارات بالعمل، بالنشاط لتكون فيه جدوى وتأثير في مجرى الأحداث.

فلنحزم أمرنا ولنتجاوز أخطاءنا ونقائصنا. فاليسار لن يموت أبدا طالما أنه ثمة رأسمال وعمل، وطالما أنه ثمة بورجوازية، وطبقة عاملة، لأنّ وجود اليسار من عدمه تحدّده عوامل موضوعية. ولكنّ اليسار مطالب اليوم بقفزة كبيرة ليردم الهوة بين تخلّف العامل الذاتي عن العامل الموضوعي. ونحن واثقون بأنّ الفرصة متوفّرة لتحقيق هذه القفزة فلنستغلّها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×