الرئيسية / أقلام / مداخلة حمّه الهمامي في الذكرى الثالثة لاغتيال الشهيد البراهمي: “أزمة الحكم في تونس، هل الحل في مبادرة “حكومة الوحدة الوطنية”؟
مداخلة حمّه الهمامي في الذكرى الثالثة لاغتيال الشهيد البراهمي: “أزمة الحكم في تونس، هل الحل في مبادرة “حكومة الوحدة الوطنية”؟

مداخلة حمّه الهمامي في الذكرى الثالثة لاغتيال الشهيد البراهمي: “أزمة الحكم في تونس، هل الحل في مبادرة “حكومة الوحدة الوطنية”؟

حمه والمبادرة 2إن أزمة الحكم الشاملة التي تعيشها بلادنا، وخاصة في جانبها الاقتصادي والاجتماعي، ما انفكت تتفاقم يوما بعد يوم. وإن مبادرة رئيس الدولة التي أريد بها، حسب الدعاية الرسمية، حلّ هذه الأزمة، قد زادتها، في الواقع، حدة وعمّقت حيرة التونسيات والتونسيين بخصوص مستقبلهم ومستقبل بلادهم. فقد مرَّ على إعلان المبادرة المذكورة حوالي الشهرين وعلى صدور ما سمّي بـ”اتفاق قرطاج” حوالي الأسبوعين، ومع ذلك فإن الأمور ما يزال يكتنفها الغموض خاصة بعد أن رفض رئيس الحكومة تقديم استقالته وقرّر اللجوء إلى البرلمان ليطلب منه تجديد الثقة، مما فرض على رئيس الدولة، الذي استسهل الأمور وأراد القفز على الدستور وتصرّف بعقلية عهد آخر لا تستوعب التحولات التي جرت بالبلاد، إعادة حساباته في انتظار جلسة يوم 30جويلية القادم التي تتجه فيها النية إلى التصويت في كل الحالات على رحيل الحبيب الصّيد. وفي الأثناء تشتد الصراعات داخل الائتلاف الحاكم بين أنصار قطبي السلطة التنفيذية وتحتدم المزايدات والضربات الهابطة والسافلة بين الذئاب المتنافسة على الكراسي داخل حزب “النداء” وخارجه، كل ذلك على حساب وطنٍ وشعبٍ يئِنّان تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتهديدات الإرهابية.

نتائج سلبية:

 وفي الحقيقة فإن كل هذا ليس بالأمر المفاجئ. فلقد نبّهت الجبهة الشعبية منذ قيام الائتلاف اليميني الحاكم إلى أنه سيسير بالبلاد إلى مزيد التأزم وإلى أنه سيعمل بكل الوسائل على الالتفاف على المسار الثوري وإجهاضه بشكل نهائي وإعادة بسط نفوذ القوى الرجعية في المجتمع. وقد جاءت الوقائع لتؤكد ما كانت حذّرت منه الجبهة. فبعد عام ونصف من حكم هذا الائتلاف، تبدو الصورة قاتمة من كل الجوانب: اقتصاد في حالة ركود، ونسبة نمو قريبة من السلبية (0,8 بالمائة مع العلم أن “النداء” و”النهضة” وعدا على حدّ السواء، بـ5 بالمائة نسبة نموّ للسنة الحالية)، ومديونية تقارب الـ55 بالمائة من الناتج الداخلي الخام أي بزيادة 7 نقاط تقريبا، وعجز ميزان تجاري بحوالي 30 بالمائة وتدهور غير مسبوق للدينار واقتصاد مواز يتجاوز حجمه الـ54 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وتهرّب جبائي يكلف الدولة سنويا خسارة بآلاف الملايين من الدينارات، وفساد مستشر يكلّفها خسارة ما بين نقطتين أو ثلاث نقاط من نسبة النمو ولوبيات مافيوزية تتلاعب بمصالح البلاد وتتحكم شيئا فشيئا في مفاصل المجتمع وتؤثر في دوائر القرار، وتفريط في سيادة البلاد ومقدراتها، بحثا عن حلول وهمية.  إن القوانين التي صادقت عليها الأغلبية بمجلس نواب الشعب تكاد تقتصر على خدمة رأس المال المحلي والأجنبي، وتوفير أكبر الفرص له لنهب ثروات البلاد وخيراتها، ولا يوجد من بينها قانون واحد لفائدة الكادحين والفقراء.

وقد أدّى تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية: نسبة بطالة رسمية تقارب الـ16 بالمائة أكثرها من الشباب ومن أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل خاصة، وتفاقم للفقر والتهميش وتعمق الفوارق بين الطبقات والفئات الاجتماعية وبين الجهات، وتدهور مستمرّ للمقدرة الشرائية، وتردّ للخدمات العامة من صحة وتعليم ونقل وسكن وماء صالح للشراب وبيئة، وانتشار لمظاهر العنف والجريمة واستهلاك المخدرات والكحولية، وقد صاحب كل ذلك تدهور فظيع للأخلاق العامة، إذ انتشر الكذب والنفاق والروح الفردانية على حساب المصلحة العامة والرشوة والارتشاء وشراء الذمم وعقلية تدبير الرأس والإثراء غير المشروع والنهب وانتهاك الأعراض وزرع الفتنة  بين أبناء وبنات الوطن الواحد، كما انتشرت ظاهرة “الحرقة” والانتحار بين شبابنا إلى درجة غير مسبوقة. ومن ناحية أخرى فقد تفاقم العنف ضد النساء وتشيئتهنّ والاتجار بهن في سوق البغاء. كل ذلك في ظل حكم “حراس الأخلاق” الذين لم تعرف الأخلاق تدهورا كما عرفته في عهدهم.

ومن جهة أخرى فقد شهد المسار الدستوري تباطئا كبيرا ينم عن عدم رغبة في بناء المؤسسات الجديدة للدولة وفي إصلاح القضاء والأمن والجيش والإدارة وفي مراجعة المنظومة التشريعية القديمة لملاءمتها لنص الدستور وروحه، بل إن الملاحظ هو السعي المحموم لقطبي السلطة للسيطرة على مؤسسات الدولة وأجهزتها واقتسامها بعقلية الغنيمة كما كان الأمر في عهدي الدكتاتورية والترويكا، لتوظيفها في خدمة المصالح الخاصة والفئوية، في تعارض تام مع “مبدأ الكفاءة أولا”، واستخدامها ضد الشعب من أجل إخضاعه وتطويعه كما حصل في أكثر من مناسبة. وفي هذا السياق ما انفك الائتلاف الرباعي الحاكم يسعى إلى الالتفاف على مسار العدالة الانتقالية وإلى التصالح مع رموز النظام القديم من أجل رسكلتهم وإعادتهم للخدمة والاستفادة من تجربتهم في الفساد والاستبداد، بعنوان “المصالحة الوطنية” على حساب كل ضحايا الاضطهاد الدكتاتوري وخاصة منهم شهداء الثورة وجرحاها الذين أوصلوا الحكام الحاليين إلى السلطة.

كما يسعى الائتلاف الحاكم إلى طي ملف الاغتيالات السياسية وعلى رأسها اغتيال شهيدي الجبهة والوطن، شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، وقد وصل الاستفزاز في هذا المجال إلى حد ترقية حاكم التحقيق الذي تمّ استعماله أداة لطمس الحقيقة في اغتيال الشهيد الرمز شكري بلعيد. أما في الملف الأمني فإذا كانت قوات الأمن والجيش قد سجلت بعض النقاط في مقاومة الإرهاب فإن الائتلاف الحاكم ظلّ يرفض عقد مؤتمر وطني لمقاومة الإرهاب حتى لا تثار العديد من الحقائق التي تزعج في المقام الأول حركة النهضة وتكشف مسئوليتها في تطور الظاهرة الإرهابية ببلادنا وفي تسفير شبابنا إلى سوريا والعراق وغيرهما من بؤر التوتر، حتى أن بلادنا احتلت المرتبة الأولى في تصدير الإرهابيين.

وفي مجال السياسة الخارجية فإن أهم ما ابتليت به بلادنا، عدا الاضطراب وعدم الاستقرار في المواقف،هو اصطفافها وراء الٌمحور السعودي القطري التركي في نزاعات لا طائل لبلادنا من ورائها، كما تمّ عقد اتفاقات مريبة مع الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان “الشراكة الاستراتيجية” التي كان من نتائجها في المدة الأخيرة إعلان الأمين العام لمنظمة الحلف الأطلسي تكوين مركز استخباراتي استراتيجي بالجنوب التونسي بما يعنيه ذلك من دوس للسيادة الوطنية وتهديد لأمن كامل المنطقة.

ولا يمكن أن نتغافل عن الارتداد الفكري والثقافي الخطير الذي تشهده بلادنا، فحركة النهضة وحزب التحرير والجماعات السلفية بمختلف أصنافها، لا تتوانى، كل من موقعه وفي مجاله، من داخل الحكم أو من خارجه، بشكل رسمي أو غير رسمي، وبألف وسيلة ووسيلة، مساجد ومدارس موازية، وجمعيات، وقنوات تلفزية وإذاعات وصحف وكتب ومكتبات وشبكات التّواصل الاجتماعي، عن شن حرب لا هوادة فيها ضدّ مكتسبات مجتمعنا الحداثية والدفع نحو الانقلاب عليها والعودة إلى تقاليد وممارسات وتشريعات وأفكار موغلة في التطرف والرجعية. كل ذلك يجري اليوم على العموم بشكل “ناعم” وخبيث بعد أن فشلت الطرق والوسائل العنيفة والقسرية.

“اتفاق قرطاج”: إعلان نوايا والهدف هدف آخر

هذا ما آلت إليه أوضاعنا اليوم مع حكم الائتلاف اليميني بقيادة الثنائي “النداء – النهضة” والذي تمثل حكومة الحبيب الصيد أداته التنفيذية الرئيسية: أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة ومخاطر أمنية كبيرة، وتعطل للمسار الدستوري وسياسة خارجية بلا بوصلة. ومن الواضح أن هذه الأوضاع إذا ما استمرت فإنها ستعرض بلادنا إلى مخاطر كبيرة. ولكن السؤال هل أن الائتلاف الحاكم استوعب حقا الدرس من تجربة العام ونصف العام ومن الفشل الذي مني به خلالها؟ وهل أصبحت تحركه رغبة جدية في معالجة الأزمة؟ وبعبارة أخرى هل أن مبادرة رئيس الدولة المذكورة تندرج في سياق جدي يهدف إلى تصحيح المسار وإنقاذ البلاد وإخراجها من الأزمة ووضعها على سكة نهوض حقيقي مناسب يستجيب لطموح الشعب التونسي ومطالبه التي رفعها في ثورته؟ لا نعتقد ذلك. فما جاء في “اتفاق قرطاج” حول ما سمّي “أولويات حكومة الوحدة الوطنية” الصادر بتاريخ 13 جويلية الجاري والذي أمضاه الائتلاف الحاكم بمعية بعض أحزاب المعارضة والمنظمات الوطنية الثلاث الكبرى يؤكد كل ما نبهت إليه الجبهة الشعبية من أن مبادرة قصر قرطاج، بما اتّسمت به من تسرّع في التمشّي وما حفّ بها من مناورات “سياسوية” ومزايدات وبيع وشراء، لن تأتي بجديد ولن تفتح أفقا حقيقيا لحل الأزمة التي تتخبط فيها تونس.

إن الوثيقة ليست إلا إعلان نوايا ومبادئ وشعارات عامة تذكر بما جاء في الحملة الانتخابية للنهضة والنداء، وبما جاء في بيان حكومة الصيد في شهر مارس 2015 فلا أرقام ولا مؤشرات ولا التزامات ملموسة ومحددة زمنيا، كما هو مطلوب من كل حكم يريد إنقاذ البلاد وليس بيع الوهم والشعارات فليس المطلوب اليوم الحديث عن مقاومة الفساد والتهريب والتهرب الجبائي والتشغيل والتنمية الجهوية التي لم يخل منها خطاب سياسي لأي حزب من الأحزاب أو حكومة من الحكومات المتعاقبة منذ سقوط بن علي، والتي كررها “اتفاق قرطاج”، بل المطلوب هو ضبط القرارات والإجراءات والآليات الملموسة لتحقيق كل ذلك.

 لقد علق رئيس الحكومة الحبيب الصيد عن الوثيقة التأليفية بالقول “بعد اطّلاعي على وثيقة أولويات حكومة الوحدة الوطنية أجد الكثير من نقاط الالتقاء مع برنامج الحكومة الحالية وتوجهاتها إن لم يكن بأكملها” بمعنى اخر أراد رئيس الحكومة القول إن الوثيقة لم تأت بجديد، وهي تكرّر ما كان صرح به هو سابقا وما يعتبر فشلا فإن كان كذلك فأيّ فائدة في تكراره. ومثل هذا التقييم للوثيقة نجده حتّى عند بعض الإعلامييّن، مثل رئيس تحرير جريدة المغرب الذي لا يمكن اتهامه بالانحياز أو بمعارضة مبادرة رئيس الدولة والحال أنه رأى فيها عند إطلاقها عملية إيجابية قد تقلب بعض المعطيات. لقد علّق زياد كريشان على الوثيقة بالقول “ما نلاحظه إلى حد الآن هو أن وثيقة الأولويات قد تجنبت كل الملفات الساخنة والخلافية دافعة بها إلى الحكومة القادمة تماما كما فعلنا-بصيغة مختلفة-مع حكومة الحبيب الصيد-حيث اكتفت الأحزاب المشكلة لها بالوعود وتركت الحكومة تتخبط في الصعاب دون رسم أفق سياسي إصلاحي لعملها… فكانت النتيجة التي نعرف”، ثم أضاف في مكان أخر:” كون وثيقة الأولويات … صمتت(..) على تحديد السياسات العملية وكذلك الأهداف الملموسة”. (جريدة المغرب 9 جويلية 2016)

إن نفس هذا الانطباع نجده في جريدة “الصحافة” بنفس التاريخ. فقد كتب الهاشمي نويرة (المدير رئيس التحرير) إن الوثيقة “تضمنت في مجملها إعلان مبادئ وشعارات لا ترقى بالطبع إلى برنامج حكومة قابل للتطبيق” لأنها لم تجابه المشاكل الحقيقية وقفزت عليها وأوهمت بتقديم حلول لا نعتقد أنها قاربت حتى المسكنات ” مضيفا أن هذه المبادرة “مفتقدة لأهداف واضحة المعالم ومفتقرة لأبسط الحلول ويطغى عليها الطابع “التوفيقي” الذي يصل حد إفراغها من محتواها الجدي والعملي”. ومن هذا المنطلق اعتبر الهاشمي نويرة أنّ كل ذلك “يدفعنا إلى اليقين بأن المطلوب ليس برنامج حكم أو تغيير  حكومة معطلة وإنما الأمر يتعلق بتغيير شخص رئيس الحكومة الحبيب الصيد…”، بل إنه خلص إلى أن الوثيقة “مجرد وسيلة للتورية عن الفشل ورغبة مشبوهة لطمس عمل حكومة تشتغل تحت القصف وبلا سند سياسي”.

إن هذا الكلام لم يكتبه قيادي بالجبهة الشعبية وإنما كتبه إعلاميان، يعرف القاصي والداني ألاّ علاقة لهما بالجبهة الشعبية. ولكنهما وقفا عند بعض الحقائق التي لا يمكن ألاّ يستخلصها أي إعلامي أو متابع موضوعي للشـأن العام. فما الفائدة إذن من مبادرة لا تطرح حلولا جدية لأزمة الحكم المستفحلة والتي يدفع فاتورتها الشعب ويمثل استمرارها خطرا كبيرا على البلاد؟ وهنا نأتي للُبّ المشكل. إنّ مبادرة رئيس الدولة لم تحركها في الواقع رغبة جدية في مواجهة الأزمة التي تعيشها البلاد، بقدر  ما حركتها عوامل “سياسية” أخرى أولها الأزمة التي يعيشها نداء تونس، وتأثير هذه الأزمة في موازين القوى داخل الائتلاف الحاكم، إذ أن المنتفع الرئيسي منها هو حركة النهضة بالطبع، التي اتعظت من تجربتها السابقة في الحكم، (حكم الترويكا) وفهمت أن التسرع في الاستيلاء عليه، خاصة في مثل هذا الظرف الإقليمي والدولي الراهن  غير المناسب للإسلام السياسي، لا يخدم استراتيجيا أهدافها، بل قد يقضي عليها لذلك فرغم انفجار نداء تونس وتراجع تأثيره بل وفقدانه للمرتبة الأولى التي حصل عليها في انتخابات 2014، فإنها لم تطالب بإعادة توزيع الأدوار داخل الائتلاف  ولم تعمل على تشكيل تحالف جديد، أو على الدعوة إلى انتخابات مبكرة، بل ظلت “مهادنة”، “طيعة” تتظاهر بالحرص على السير الحسن لدواليب الدولة، وبعدم الرغبة في استغلال الظروف الصعبة التي يمر بها “الحليف” ولكنها في الواقع تعبئ الصفوف وتتوسع، وتعمل على تجميل الصورة في الخارج، عند الدول الغربية خاصة، وتترك الوقت لكي تتعفن الأزمة داخل النداء أكثر ما يمكن وتبدي في الخفاء الولاء لابن الرئيس حتى يمضي إلى الأمام في تمزيق صف “حزب والده”.

إعادة ترتيب البيت والإعداد لتنفيذ توصيات المؤسسات المالية

إن رئيس الدولة يريد إعادة ترتيب البيت الداخلي للنداء نهائيا لصالح ابنه من خلال إبعاد الحبيب الصيد الذي ابتعد عنه بعض المسافة ولم يعد يسمع كلامه وماح قليلا إلى حركة النهضة بل لم يعد ذلك الإداري الطيع وأصبحت له حساباته السياسية، وصار لا بدّ من تعويضه بشخص “أكثر وفاء”. وهوما يفتح الباب لتغيير الوزراء والمسئولين الخارجين عن الطوع واستبدالهم بآخرين طيعين وفي مثل هذه الحال فإن “الطمع” والانتهازية سيدفعان بالمترددين في نداء تونس إلى الاصطفاف مجددا لضمان مستقبلهم، بما أن القصر هو الذي سيوزع الحقائب والغنائم، وفي نفس الوقت، فإن استعادة زمام الأمور في “النداء” وفي الحكومة سيسمح بالحد من مخاطر زحف “حركة النهضة” التي ستخضع لمراقبة أشد عبر المسئولين الموالين للرئيس ولنداء تونس بما يحد من إمكانيّة استغلالها للانتخابات البلدية لإعادة قلب موازين القوى لصالحها فتطالب وقتها بانتخابات تشريعية مبكرة لتكريس علاقة القوى الجديدة. هذا هو السياق الحقيقي الذي تندرج فيه “مبادرة الرئيس”. ولكن كان لا بد من إخراج لهذه المبادرة، من أجل إبعاد الصيد، وإعادة تشكيل الحكومة التي ستكون مهمتها تنفيذ البرنامج الجاهز، الذي وضعته المؤسسات المالية الدولية لبلادنا. وهو برنامج موجه رأسا ضد الشعب، ضدّ الطبقات والفئات المتوسطة من المستثمرين التي يراد تحميلها فاتورة أزمة ليس لهم مسؤولية فيها.

لذلك لم يكن ثمة أفضل من سيناريو حكومة الوحدة الوطنية، لضرب عصفورين بحجر واحد: تشكيل ائتلاف سياسي اجتماعي واسع للإطاحة بالصيد أولا ولتنفيذ “برنامج” صندوق النقد الدولي وفرضه بالقوة على الشعب ثانيا. إن الأزمة ما هي إلا ذريعة في هذا السياق، لأن حلّها، في الواقع، ليس عند الأحزاب أو المنظمات المشاركة في المشاورات وإنما عند صندوق النقد الدولي، أما هذه الأحزاب والمنظمات فالحاجة إليها سياسية أولا وقبل كل شيء للمساعدة على الإطاحة بالصيد وتشريع تشكيل الحكومة الجديدة. ولهذا السبب اتسمت مشاورات السبسي بالتسرع. فهو يريد الوصول إلى إقالة الحبيب الصيد في أسرع وقت. وحتى أولويات الحكومة الجديدة، فقد أرادها سريعة أيضا، لا تتجاوز حدود المبادئ والشعارات العامة والفضفاضة، رافضا نقاش الأسباب وتحديد المسؤوليات، والخوض في القرارات والإجراءات الملموسة وفي جدولتها الزمنية بدعوى أن ذلك ليس من مهامها وسيوكل إلى الحكومة الجديدة ذاتها. لقد أراد القصر إيهام الأطراف المشاركة في المشاورات، من أحزاب ومنظمات، أن الرئيس “يستمع” إلى مشاغلها ويولي “أهمية” إلى رأيها، وهو في الواقع لا غاية له من تلك المشاورات سوى كسب تأييد المشاركين فيها في إبعاد الحبيب الصيد وتعويضه بشخص آخر.

 أما الإجراءات والقرارات الملموسة التي ستطبق في الواقع فهي تلك المُملاة من المؤسسات المالية الدولية التي تتهم حكومة الحبيب بعدم الجرأة وعدم التسريع في تطبيقها. وهذه الإجراءات وردت في رسالة وزير المالية ومحافظ البنك المركزي لصندوق الدولي، كما وردت في القوانين التي مررتها الأغلبية الحاكمة في البرلمان والتي ما زالت تنوي تمريرها مثل “اتفاقية التبادل الحر الشامل والعميق” وفي الميزانية التي أقرتها في بداية هذا العام. وهي كلها إجراءات تضرب السيادة الوطنية في العمق وتخرب ما تبقى من النسيج الصناعي والفلاحي والخدماتي وتحكم على العديد من أصحاب وصاحبات المؤسسات الصغرى والمتوسطة بالإفلاس، وتوسع دائرة البطالة والتهميش وتدفع أغلبية الموظفين والأجراء إلى دائرة الفقر بسبب تدهور مقدرتهم الشرائية جراء غلاء الأسعار وتجميد الأجور وتزايد الضغط الجبائي وانخفاض قيمة الدينار وحرمانهم من الخدمات الأساسية. وهو ما يجعل من الحكومة القادمة، إن لم تجد المقاومة الضرورية، في البرلمان وخارجه، حكومة أخطر من الحكومة الحالية لما سيعهد لها تطبيقه من التزامات وإجراءات معادية للشعب والوطن، وهو ما رفضته وترفضه الجبهة الشعبية، حين لم تشارك في المشاورات، حتى لا تكسب هذه المهزلة مصداقية ولا توهم الرأي العام بأنها تشارك في مناقشات جدية لإيجاد مخرج حقيقي للأزمة التي تعاني منها البلاد ويتحمل تبعاتها الأجراء والكادحون وحتى الفئات الوسطى من المجتمع.

البلاد والشعب في حاجة إلى حلول حقيقية وجدية

إن الجبهة الشعبية كانت عارضت منذ البداية حكومة الحبيب الصيد واعتبرتها حكومة لتمرير اختيارات رجعية معادية للشعب والوطن، حكومة للالتفاف على الثورة، وتنبأت مسبقا كما قلنا أعلاه بفشلها وبإغراقها البلاد في المشاكل والأزمات. وقد أطلق، في ذلك الوقت، أتباع الائتلاف الحاكم حملة ضد الجبهة الشعبية متهمين إياها بـ”السلبية” وبـ”تفضيل المعارضة الدائمة والمريحة على المساهمة الإيجابية في الحكم”. وقد بينت الوقائع مرة أخرى صحة مواقف الجبهة الشعبية التي رفضت المشاركة في حكومة اختياراتها معادية للشعب والوطن ومحكوم عليها مسبقا بالفشل، فهذه الحكومة لم تحل مشاكل البلاد ولم توفر للشعب المقومات الدنيا للعيش الكريم التي ثار من أجلها بل أغرقته في الأزمات. وإذا بأولئك الذين كانوا يسبّون الجبهة ويشتمونها ويشوهونها لأنها عارضت حكومة الصيد، أصبحوا هم أنفسهم يشهّرون به ويصفونه بأقذع الصفات ويهدّدونه، حسب ما صرّح به هو نفسه، ويدفعونه نحو الاستقالة، ويطالبون الجبهة الشعبية بمساندتهم.

ولكن الجبهة الشعبية ردّت عليهم بأنه لا يكفي اليوم الإقرار بوجود الأزمة وقد أصبحت واقعا يفقأ الأعين، بل الأهم من ذلك هو الوقوف عند أسباب هذه الأزمة والاعتراف بكونها أزمة اختيارات وسياسات أساسا وتحديد المسئول عنها، وهو الائتلاف الحاكم برمّته وليس شخص رئيس الحكومة وحده، ومن ثمّة اتخاذ القرارات والإجراءات الكفيلة بمواجهتها وبإنقاذ البلاد. وهو ما لا يريده الائتلاف الحاكم الذي يسعى إلى تغطية تلك الأسباب وتوزيع فشله هو على الجميع، حكما ومعارضة وحصر المسئولية في شخص الحبيب الصيد، واستغلال الأزمة لتحقيق مصالح حزبية ضيقة، من جهة، وفرض إجراءات مملاة من الخارج على الشعب تحت غطاء “حكومة الوحدة الوطنية”، من جهة ثانية، وهو ما ترفضه الجبهة الشعبية التي استهدفتها كالمعتاد الدعاية الرجعية بهدف عزلها وتشويهها.

 إن الجبهة الشعبية لا تريد تعويض حكومة فاشلة بأخرى لا تختلف عنها وربما هي أخطر منها كما ذكرنا.

إن بلادنا في حاجة إلى حلول حقيقية وجدية للأزمة التي تنخرها منذ سنوات والتي يمثل الجانب الاقتصادي فيها الجانب المحوري. فحين ثار الشعب التونسي فمن أجل تغيير أوضاعه وتحسينها جذريا، وليس من أجل تعميق آلامه وأوجاعه، من بطالة وتهميش وتدهور مقدرة شرائية وتردّ للخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم ونقل وسكن وتدهور للمحيط وتفاقم للجريمة وانتشار للمخدرات والكحولية وانعدام للأمن وتفاقم للإرهاب وانتهاك لسيادة الوطن، وإغراق للبلاد في الديون إلى غير ذلك من الظواهر المرعبة.

وإذا كانت أوضاع الشعب والبلاد قد ساءت، فليس لأن الثورة فشلت في حل مشاكل البلاد والشعب وعمقتها وفاقمتها، كما يدعي “الأزلام” الذين مازالوا يحنون إلى الدكتاتورية، ويحاولون العودة بالبلاد إلى الوراء، بل لأن الحكومات المتعاقبة منذ سقوط بن علي هي التي فشلت لأنها حافظت على نفس الاختيارات القديمة ولم تفعل شيئا من أجل تغيير الأوضاع ولم تتخذ القرارات والإجراءات الضرورية من أجل إعادة توزيع الثروة في البلاد ومقاومة الفساد والتهريب والتهرب الجبائي وإيجاد الحلول اللازمة لإعادة تنظيم الاقتصاد على أسس ديمقراطية وعصرية وعقلانية وناجعة حتى يتم تطوير إنتاج الثروة وإيجاد حلول للبطالة والفقر والبؤس والتهميش ولتخلف قطاعات الصحة والتعليم والنقل والسكن والماء الخ…

وإذا كانت هذه الحكومات لم تفعل شيئا فليس لأن الحلول غير موجودة أو لأن المشاكل تراكمت إلى درجة يصعب على أي فريق حاكم، مهما كانت توجهاته، معالجتها، كما يحلو لبعض التافهين وضيقي الأفق، ترديده، لتبرير عجزهم وفشلهم ولإيهام أبناء وبنات الشعب بأنه لا حل لهم غير الخضوع والاستكانة والقبول بسياسات التقشف والتفقير المدمرة. إن أي عاقل، إن أي شخص جاد، يكفيه أن يفكر قليلا حتى يقتنع بأن الوسائل ليست معدومة في بلادنا لمقاومة الأزمة وبأن الإجراءات التي تسمح بذلك واضحة، وبسيطة وممكنة وقابلة للتحقيق وفي متناول التونسيات والتونسيين. ولكن المشكل كلّه يتمثل في أن هذه الحكومات المتعاقبة لم تجرأ على اتخاذ الإجراءات الضرورية لمجابهة الأزمة لأن ذلك يمسّ مصالح رموز الفساد والتهرب الجبائي والتهريب والنهب. كما يمس مصالح المؤسسات المالية والشركات والدول الأجنبية التي تنهب بلادنا وتعيق نهوضها.

وإذا كانت الحكومات المتعاقبة لم تفعل شيئا لمجابهة الأزمة أيضا فليس لأن تونس تنقصها الإمكانات البشرية والمادية فالكفاءات كثيرة والثروات متوفرة بما يكفي لتطوير البلاد وتوفير مقومات العيش الكريم لأبنائها وبناتها، ولكن المشكل كلّه يتمثل في أن تلك الحكومات المتعاقبة لا تريد وضع مخططات عقلانية وناجعة لاستثمار الإمكانات المتوفرة على أحسن وجه لأنها، بحكم طبيعتها وطبيعة اختياراتها، لا تريد المساس بالأرباح التي تجنيها “الحيتان الكبيرة المتنفّذة” التي تضع أيديها على أهم ثروات البلاد، وتسيء التصرف فيها بل وتعيث فيها فسادا، وتستغل القوى العاملة للمجتمع أفظع استغلال لتكديس الأرباح على حسابها في أسرع وقت وبأيسر الطرق دون اعتبار لمصلحة الوطن، ولأنها أيضا، أي الحكومات، لا تريد مراجعة العلاقات بالمؤسسات المالية الدولية ولا تريد أن تقطع مع التبعية لبلدان الاتحاد الأوروبي وتمتنع، من باب التبعية أيضا، عن تنويع العلاقات الاقتصادية لتونس بما يخدم مصالحنا الوطنية.

إن المشكلة لا تكمن إذن في استحالة مواجهة الأزمة، بدعوى أنها مستعصية على كل حل، أو لأن الإجراءات لحلها معدومة والإمكانات غير متوفرة، بل إن المشكلة كلها تتعلق بمن يحكم البلاد ويقودها؟ ولمصلحة من يقوم بذلك؟ ألِفائدة الشعب أم لفائدة الأقليات المستغلة والنهابة؟ وبالتالي فإنه من السّذاجة أن يتساءل البعض، إذا كانت بالفعل ثمة حلول وإمكانات لمواجهة الأزمة، كما تقول الجبهة الشعبية، فلماذا لا يريد الائتلاف الحاكم تبنيها لإخراج تونس من الأزمة؟ إن ما يجهله أو يتجاهله البعض هو أن هذا لائتلاف يدافع عن مصالح الأقليات الثرية المحلية والأجنبية وهو ما يجعله لا يفكّر في مخرج للأزمة إلا من زاوية إنقاذ مصالح هذه الأقليات عبر إجراءات على حساب الطبقات والفئات الكادحة والشعبية. فالمسألة إذن ليست مسألة “حسن نوايا” أو “مشاعل نبيلة” مجرّدة، بل مسألة مصالح لأن الحكومات تتشكل للدفاع عن مصالح، بل لإخضاع طرف لمصالح طرف آخر، وفي قضية الحال، إخضاع غالبية الشعب لمصالح أقلية من المستغلين، الكمبرادور، الجشعين والفاسدين وليس العكس.

ديمقراطية فاسدة

ومن هذا المنطلق ينبغي النظر إلى الديمقراطية القائمة حاليا في بلادنا، في هذه اللحظة من المسار الثوري المتعثّر والمهدّد بالإجهاض. إن الشعب التونسي طمح، حينما أسقط الدكتاتورية، إلى أن تكون الديمقراطية وسيلته لتكريس مشاركته في النهوض بوطنه وتغيير أوضاعه وإعادة بنائه على أسس صلبة، ومقاومة كل الأمراض التي تنخره واختيار من يحكمه ومن يسير مؤسسات الدولة مع تكريس المراقبة والمحاسبة وسحب الثقة ممن يحيد عن الطريق. ولكن الواقع اليوم، واقع ديمقراطيتنا الناشئة هو غير ذلك، هو لا يساعد الشعب والقوى الحية فيه على تحقيق هذه الأهداف. إن ديمقراطيتنا تشتمّ منها، مع الأسف، رائحة العفونة. فبما أن الحكومات المتعاقبة بعد سقوط بن علي، ارتبطت عضويا بمصالح رأس المال الفاسد، ولم تحارب الاستغلال الفاحش والفساد والتهرب الجبائي والتهريب ولم تتخذ أي إجراء جدي ضد “الحيتان الكبيرة”، فقد تأقلم رموز الفساد مع “النظام الديمقراطي الجديد” ووجدوا فيه المناخ الذي لا يسمح لها بالحفاظ على مصالحهم فحسب بل وبتطويرها وتطوير نفوذهم أيضا وهو ما لم يحلموا به مطلقا يوم سقوط بن علي حين أصابهم الذعر وظنوا أنهم سيخسرون مصالحهم وامتيازاتهم.

 وبالتالي فبما أنه لا وجود لمقاومة جدّية وحازمة للفساد والتهريب والتهرّب الجبائي فإن المافيات التي تقف وراء هذه الظواهر استعملت “الحرية والديمقراطية” لكي تضع أيديها “ديمقراطيا” على وسائل الإعلام وتكوّن الأحزاب والجمعيات والمنظمات والنوادي وتخترق الأخرى القائمة وفي مقدّمتها أحزاب الائتلاف الحاكم وخاصة حزب نداء تونس الذي انقسم إلى شظايا وحتى حركة النهضة، وتشتري النواب في البرلمان وتوظّفهم لخدمة مصالحها وتخلق لنفسها لوبيات في أجهزة الأمن والديوانة والقضاء والإدارة الخ…وهو ما جعل السيّد شوقي الطبيب، رئيس الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد، يصرخ منبّها إلى أن الدولة مهدّدة بالتحوّل إلى دولة مافيات. وبطبيعة الحال فإن الدولة التي ينخرها فيروس الفساد وتسيطر عليها المافيات لا يمكنها أن تصلح أوضاع البلاد بل تجد نفسها عاجزة عن مقاومة الأمراض التي تنخرها وتنخر المجتمع ومهددة هي ذاتها بالتفكك مما يجعلها فريسة سهلة للمتآمرين من الداخل والخارج وخاصة الجماعات الإرهابية وأداة طيعة بيد القوى الخارجية التي تستغل ضعفها للتحكم في مصائر البلاد.

إن إرساء أسس صلبة للديمقراطية في بلادنا، حتى تكون في خدمة الشعب والوطن، يتطلب تغييرات جوهرية اقتصادية واجتماعية كما يتطلب مقاومة لا هوادة فيها للفساد والمافيات وتشريعات واضحة تسد الباب أمام سيطرة لوبيات الفساد على الإعلام والحياة العامة.

تصحيح المسار

إن البلاد إذن إذا كانت في حاجة إلى تصحيح مسار للخروج من الأزمة فلا يمكن أن يكون بأية حال عن طريق مبادرة ما يسمى “حكومة الوحدة الوطنية” لأنها ليست كذلك بل هي لا تعدو أن تكون توسيعا للائتلاف الحاكم، المسئول ذاته عما تعانيه البلاد من تدهور في مختلف المجالات، من أجل إعادة انتشار للقوى وترتيب البيت بما يسمح بتنفيذ “الإجراءات المؤلمة” للشعب والوطن وهو ما يرجح أن تكون حكومة كواسر، شديدة الارتباط بالمؤسسات المالية الدولية والرأسمال الأجنبي، أكثر منها حكومة ستحافظ على الحريات وعلى المسار الديمقراطي. وبالطبع فلا يمكن إلا التكهّن مرة أخرى بأن هذه الحكومة ستفشل مثل سابقتها وتغرق البلاد في مزيد المشاكل. وهو ما سيؤدي إلى توسيع دائرة الغضب والاحتقان الاجتماعيين ليشمل فئات جديدة من المجتمع سيطولها الإفلاس والفقر.

إن حل الأزمة لا بد أن يتم من زاوية أخرى، على قاعدة مبادئ وأسس وأهداف غير تلك التي يتبعها الائتلاف الحاكم. وهو ما كانت الجبهة الشعبية نبهت إليه منذ البداية وقدمت في أكثر من مناسبة مقترحات ملموسة وواقعية وقابلة للتحقيق وفي متناول الشعب التونسي. لحل الأزمة. ولكن الائتلاف الحاكم، مثله مثل الائتلاف الذي سبقه، أغمض عينيه وصمّ أذنيه على ما قدمته الجبهة الشعبية، وظلّت أبواق الدعاية المرتبطة به تردد أن الجبهة “لا تعرف إلا المعارضة” و”أنها لا تقدم مقترحات ملموسة” و”ليس لها برامج” وأنها “غير واقعية” و”لا تعترف بمجهودات الحكومة”، هذا إضافة إلى كونه لا يتحرج في تحميل الجبهة الشعبية مسئولية كل تحرك احتجاجي يحصل في البلاد أو أعمال عنف أو تخريب ترتكبها أطراف لا صلة لها بالجبهة أيضا لتغطية فشل سياساته واختياراته. ولكن الواقع تكفل دائما بإرجاع الأمور إلى نصابها، مبينا خور الطريق الذي ينتهجه الائتلاف الحاكم وخطورته على الوطن والشعب، ومؤكدا سلامة المقترحات التي تقدمها الجبهة الشعبية وإلحاحيّتها، لتحقيق أهداف الثورة وإخراج البلاد من الأزمة.

وها إن الجبهة الشعبية اليوم كما بالأمس، تدلّ على الطريق الصحيحة لإنقاذ تونس وإخراجها من المأزق الذي تتردّى فيه ووضعها على سكة إعادة البناء. وفي هذا السياق لا بد من تأكيد أن الأولوية في معالجة الأزمة التي تعيشها بلادنا اليوم ينبغي أن تعطى للبعد الاقتصادي لما له من تأثير خطير ومباشر على كافة أوجه حياة شعبنا الاجتماعية والسياسية والأمنية والثقافية، وكذلك على حاضر وطننا ومستقبله. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن معالجة هذا البعد ذي الأولوية، تقتضي أمرين اثنين، أولهما الإسراع باتخاذ إجراءات إنقاذ لإيقاف حالة التدهور الاقتصادي لبلادنا، وثانيهما، الانطلاق، حال، تنفيذ هذه الإجراءات، في وضع الأسس لإعادة بناء اقتصاد بلادنا بما يحقق تطوره المستقل وتعصيره وبما يمكّن من تلبية الحاجات الأساسية لشعبنا ويضمن النهوض الحضاري لوطننا العزيز.

ولكن لا بد من توضيح أن أية إجراءات استعجاليه لإنقاذ اقتصاد بلادنا ينبغي أن تنطلق من رؤية واضحة، وهنا تكمن نقطة الخلاف الجوهرية بين الجبهة الشعبية من جهة ومكونات الائتلاف الحاكم من جهة ثانية. إن الإنقاذ الذي تتحدث عنه الجبهة هو إنقاذ تونس وشعبها، وليس إنقاذ الأقلية الرأسمالية المحلية الطفيلية والفاسدة والجشعة وحماتها الاستعماريين الجدد المتسببين في الأزمة. وعلى هذا الأساس فإن الإجراءات التي يتحتم اتخاذها، يجب أن تكون لفائدة الغالبية من السكان التي تتشكل منها الطبقات الكادحة والفقيرة، كما تتشكل منها الفئات الوسطى المتضرّرة أيّما ضرر من سياسات الائتلاف الحاكم التي تخرب الاقتصاد التونسي. وبعبارة أخرى فإن إجراءات الإنقاذ ينبغي أن يدفع فاتورتها بالأساس الفاسدون والنهابون والمهربون والمتهربون من دفع الجباية ومن لفّ لفّهم.

 وإلى ذلك فإن أية إجراءات إنقاذ ينبغي الاعتماد في تحقيقها، على قوانا الذاتية أولا أي على مواردنا ومقدراتنا قبل التفكير في الاقتراض من الخارج. كما ينبغي علينا أن نضع نصب أعيننا صيانة سيادتنا الوطنية فلا نفرط فيها للأجنبي بأي شكل من الأشكال وبأي ذريعة من الذرائع. وأخيرا فإن الجبهة الشعبية تعتبر أن الدولة يجب أن تقوم بدورها، في مثل هذا الظرف الدقيق، كمحرك أساسي للتنمية الاقتصادية ولا تفرط في هذا الدور للمؤسسات الخاصة المحلية والأجنبية التي لا تبحث إلا عن الربح وهو ما تعمل على تحقيقه المؤسسات المالية العالمية، والدول الرأسمالية الغربية وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي، التي تستغل الأزمة لتفكيك المؤسسات العمومية لبلادنا والاستيلاء عليها عبر خوصصتها، لإحكام السيطرة على مفاصل الاقتصاد التونسي وتعميق تبعيته. إن المؤسسات الخاصة هي التي يجب أن ينصهر نشاطها صلب الإستراتيجية العامة للتنمية التي تضبطها الدولة لإخراج البلاد من الأزمة الخانقة التي تمرّ بها وليس العكس.

إجراءات عاجلة

بعد توضيح هذه المنطلقات نأتي لجملة الإجراءات الاستعجالية التي تقترحها الجبهة الشعبية لإنقاذ اقتصاد بلادنا من الانهيار أوّلا. إن الهدف المباشر والأساسي من هذه الإجراءات هو توفير موارد للدولة كي تواجه مشاكل التنمية الملحّة وتعيد شيئا من التوازن للمالية العمومية، ومن ثمة تبدأ في معالجة المشاكل الاجتماعية العاجلة والحارقة.

 إن الذريعة التي نسمعها باستمرار من الائتلاف الحاكم لتبرير التجائه إلى الاقتراض الخارجي ورفض تلبية المطالب الملحة للمعطلين عن العمل والفقراء وأصحاب الدخل الضعيف كما الأجراء، هي شحّ الموارد المالية للدولة. وهذه مغالطة واضحة، فالمشكل ليس في شح الموارد، إذ أن الموارد موجودة، ولكن المشكل هو في أن الدولة لا تريد أن تأخذ الأموال من حيث يجب أن تأخذها، لأنها لا تريد المساس، كما بيّنّا، بمصالح “الحيتان الكبيرة”، وتفضل مزيد إثقال كاهل الأجراء والكادحين والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالضرائب والأداءات كما تفضّل تجميد أجور العمال والأجراء، ورفع الدعم عن المواد الأساسية وتحرير الأسعار، وخوصصة الخدمات العمومية الرئيسية وطرد الموظفين والعمال، علاوة على إثقال كاهل البلاد بالديون.

وإلى ذلك فإن الدولة لا تريد أن تواجه المؤسسات المالية الدولية وتفرض عليها تدقيقا للمديونية وإلغاء كل قرض لم يستعمل للصالح العام بل إنها لا تريد حتى تعليق هذه المديونية لمدة من الزمن، حتى استنادا إلى ما تسمح لها به القوانين والأعراف الدولية، لإعادة دفع عجلة النمو من جديد.

إن الإجراءات الاستعجالية لتوفير الموارد الضرورية للدولة في هذا الظرف الصعب عديدة ومتنوعة ولكن سنقدم الأساسي منها في ما يلي:

تعليق تسديد المديونية:

وهو تعليق أصلا وفائدة، لمدة ثلاث سنوات على الأقل اعتمادا على العديد من الحجج الواردة في القانون الدولي وخاصة في قرارات لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة والتي تم الاستناد إليها في حالات مثل الأرجنتين والأكوادور وإيزلاندا وغيرها… وتعليق المديونية هذا من شأنه أن يوفر معدل 5.5 مليار دينار سنويا (أي ما يزيد عن الـ16 مليار دينار للثلاث سنوات) ينبغي أن ترصد لميزانية التنمية التي يمكن أن تتجاوز سنويا الـ10 مليار دينار أي ثلث الميزانية الحالية.

مراجعة فورية لمنظومة الجباية:

وهذا أمر ممكن لو توفرت الإرادة السياسية ونفس الحرص الذي أبدته الأغلبية الحاكمة في استعجال قانون البنك المركزي وقانون البنوك مثلا.

ـ استخلاص عائدات التهرب الجبائي أي ما بين 5 و7 مليار دينار سنويا من القطاعين المنظّم وغير المنظّم، وهو ما يتطلب اتخاذ إجراءات هيكلية وإدارية وقانونية مباشرة، تمّ ذكرها وعرضها في أدبيات الجبهة.

ـ سن ضريبة استثنائية بـ 2 في المائة على الثروات الكبرى التي تساوي حوالي نصف الناتج الداخلي الخام (48 في المائة من مجموع 95 مليار دينار) وهو ما من شأنه أن يوفر حوالي مليار دينار يرصد وجوبا في التنمية الجهوية وتحديدا في الجهات الـ6 الأكثر تهميشا تكريسا للتمييز الإيجابي الوارد في الدستور.

محاربة الفساد:

 إن هذا السرطان المستشري يكلف الدولة ما بين 2 و3 نقاط تنمية أي ما بين 1.8 و2.7 مليار دينار. ورغم أن الجميع يتحدث عن الفساد فإنه ما انفك ينتشر ويتفاقم لغياب إرادة سياسية لمحاربته بسبب الارتباط العضوي بين الأحزاب الحاكمة وأقطاب الفساد في البلاد. وعليه فإنه من الضروري:

ـ التسريع بسن التشريعات الضرورية للكشف عن الفاسدين ومعاقبتهم وسد الثغرات التي يستغلونها للقيام بأعمالهم الإجرامية.

ـ تدعيم الهيئة المستقلة لمقاومة الفساد.

ـ تمكين الهيئات القضائية والرقابية من الوسائل الضرورية لمساءلة كل من أثرى بطرق غير مشروعة.

ـ إصلاح الإدارة بالتخلص من البيروقراطية المجحفة والتعقيدات الإدارية المعطلة للنجاعة الاقتصادية وللمواطنين وتمكين الإدارة من التشريعات التي تسمح باستقطاب الكفاءات العليا…

محاربة التهريب:

 بالإضافة إلى الجوانب المتعلقة بتعزيز التشريعات وتوفير الآليات والإمكانات، يطرح بإلحاح تغيير العملة وإصدار أوراق نقدية جديدة عوض الأوراق المتداولة حاليا ومنح أجل قصير (6 أشهر مثلا) لإجراء عملية الاستبدال تصبح بعده الأوراق القديمة ملغاة تماما في نهاية المدة. وتتم عملية الاستبدال عن طريق حساب بنكي أو بريدي وجوبا وتوظف عليها ضريبة ما بين 5 إلى 10 بالمائة يحصل بعدها المعني على شهادة إبراء.

ويمكن القيام بعفو على التحويلات بالعملة الصعبة وفق شروط محددة وعبر حسابات بنكية خاضعة لمراقبة السلطة.

الإسراع بتصفية الأملاك المصادرة:

 ففي سنة 2012 قدرت قيمة الأملاك المصادرة بحوالي 20 مليار دينار أي ما يقارب ميزانية الدولة لنفس السنة إلا أن التباطؤ في حسم هذا الملف وغياب الشفافية وشبهات الفساد في التعاطي معه أدى إلى تراجع قيمة هذه الأملاك التي لم تتجاوز الموارد المتأتية منها الـ10 في المائة من القيمة الجمليّة.

وعليه: تثبيت المرسوم الخاص بالأملاك المصادرة وتحويله إلى قانون وتفعيل الفرع الثاني منه والإسراع بتصفية الأملاك المصادرة في أجل زمني محدد وتحويل مداخيله إلى صندوق خاص بتنمية الجهات الداخلية.

إن هذه الإجراءات وحدها قادرة على توفير مبالغ هامة للدولة توجهها إلى الاستثمار وتغنيها عن الاقتراض حاليا. ولسائل أن يسأل ما مصير، الالتزامات التي عقدها الائتلاف الحالي مع صندوق النقد الدولي والقوانين الني سنها (قانون البنك المركزي، قانون البنوك الخ….)؟ نعتقد أنه من حق تونس أن تراجعها لإلغاء كل ما يمس من سيادتها وكل ما يفتح الباب للتلاعب بمقدراتها الاقتصادية واستقلاليتها النقدية والمالية. كما أنه من واجبها التوقف عن السير في اتفاقية

 ويمكن إضافة جملة من الإجراءات الأخرى التي من شأنها مساعدة الاقتصاد على استعادة حيويته. ومن هذه الإجراءات:

ـ التحكم في الواردات والتخلي عن استيراد العديد من المواد وتحديد الكميات الموردة بالنسبة إلى مواد أخرى والترفيع في المعاليم الديوانية على المواد المستوردة والتي يوجد لها نظير في تونس واتخاذ إجراءات لحماية الصناعات المحلية استنادا إلى ما توفره الاتفاقيات الدولية من إمكانات للغرض.

ـ التوزيع المباشر لجزء من الأراضي الدولية على الشباب المعطل عن العمل لبعث مشاريع ذات مردودية وقدرة تشغيلية مع التأطير التام حتى بداية الإنتاج، ويمكن حتّى بعثها في شكل تعاونيّات لتيسير مكْننتِها بصورة مشتركة وبأكثر نجاعة ومردوديّة.

ـ الاتفاق مع أهالي منطقة الحوض المنجمي على تمكين الجهة من نسبة من مداخيل الفسفاط لعدد من السنوات في إطار صندوق للتنمية خاص لتدارك نسبة التهميش الذي لحق الجهة.

ـ البدء مباشرة في تنفيذ برنامج الإصلاح العقاري ووضع خطة مباشرة لتحلية المياه وبناء سدود جديدة وبعث مناطق سقوية حولها.

إن هذه الإجراءات الاقتصادية ينبغي أن ترفق بإجراءات اجتماعية لتحسين عيش الفئات الضعيفة من السكان ومن هذه الإجراءات:

  •  تفعيل برنامج تشغيل عاطل صاحب شهادة عن كلّ عائلة في غضون مدّة لا تتجاوز شهر سبتمبر 2016
  •  تسوية الوضعية المهنية لعمال الحظائر الظرفية بالانتداب.
  • إعفاء الفلاحين الصغار من تسديد الدّيون إلى حدود خمسة آلاف دينار أصلا.
  • اتّخاذ الإجراءات الإدارية اللازمة لتجميد أسعار مواد الاستهلاك الأساسية والخدمات (تعريفات الماء والكهرباء والنقل العمومي والنقل المدرسي والجامعي ومعاليم الترسيم في التعليم)
  • وضع أجندة لتنفيذ برنامج السكن الاجتماعي وفق طلبات الجهات (على مدى سنتين مثلا).

إن هذه الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية ينبغي أن ترفق بإجراءات في المجال السياسي والأمني:

* التعجيل بوضع القوانين الملائمة للدستور وتنقيح المنظومة القانونية القديمة وإعادة تنظيم مؤسسات الدولة تكريسا لطابعها الجمهوري.

* عقد مؤتمر وطني لمكافحة الإرهاب. وضبط إستراتيجية وطنية لمقاومة الإرهاب

* كشف الحقيقة في ملف الاغتيالات السياسية.

* تفعيل العدالة الانتقالية.

* تكريس ما جاء في الدستور من حقوق للمرأة في تشريعات جديدة.

* حماية الحريات والحقوق المكتسبة وتطويرها.

في السياسة الخارجية:

مراجعة السياسة الحالية في اتجاه صيانة استقلالية القرار الوطني وعدم الزج بتونس في محاور إقليمية ودولية لا تخدم مصالحها ومصالح شعوب المنطقة وتنويع علاقات تونس الاقتصادية بما يمكنها من إيجاد فرص جدية لتنمية اقتصادها.

خاتمة

هذه أيتها الرفيقات والرفاق أفكار أساسية لمواجهة الأزمة التي تعيشها بلادنا بشكل مباشر. وهي غير كافية لضمان مستقبل بلادنا، ولكنها ضرورية وملحة لإنقاذها، ولتوفير الظروف المناسبة للمرور إلى المرحلة الموالية في أسرع وقت ممكن وهي مرحلة التغييرات الكبرى في نمط الإنتاج الاقتصادي مما يطرح مراجعة الاختيارات الاقتصادية الجوهرية في كافة المستويات بهدف تحرير اقتصادنا من الهيمنة الاستعمارية الجديدة وخلق التوازن بين مختلف فروعه مع إعطاء الأولوية لإنتاج الخيرات المادية وتعصير أدوات الإنتاج وطرقه وإعادة التوزيع الاجتماعي للثروة ووسائل الإنتاج  على أسس عادلة تضع حدا لسيطرة الكمبرادور على مجتمعنا وتفتح آفاقا جديدة لتونس.

وبطبيعة الحال فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل أن الجبهة الشعبية وهي تطرح هذا التصور لمواجهة الأزمة مقتنعة بأن الائتلاف الحاكم سيأخذ به ويتخلى عن خياراته؟ نحن لا وهم لنا حول هذا الائتلاف الحاكم. ولكننا نقدم خياراتنا هذه إلى الشعب التونسي أولا لنبين له أن الخروج من الأزمة ممكن دون إجراءات مؤلمة للطبقات والفئات الكادحة والفقيرة ودون تفريط في السيادة الوطنية. وثانيا: لندعوه إلى الالتفاف حولها وتغيير موازين القوى لصالح هذه الخيارات كي تجد الطريق إلى التنفيذ. وهو ما يتطلب منا جهدا كبيرا، نحن الجبهويات والجبهويين، لنكون في مستوى المسئولية الملقاة على عاتقنا ونفتح الطريق لبديل آخر ينقذ بلنا وشعبنا ويحقق أهداف ثورتنا. إن الفرصة متوفرة للعمل والنجاح فعلينا أن لا نفرّط فيها وأن لا نفسح المجال لقوى الالتفاف على الثورة كي تناور من جديد وتعيد بسط هيمنتها على مجتمعنا وتؤجل خلاص شعبنا.

انتهى

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

6 + تسعة =

إلى الأعلى
×