الرئيسية / صوت الوطن / الثورة وأروقة المحاكم: المطالب الاجتماعيّة في مهبّ التّناقضات
الثورة وأروقة المحاكم: المطالب الاجتماعيّة في مهبّ التّناقضات

الثورة وأروقة المحاكم: المطالب الاجتماعيّة في مهبّ التّناقضات

“لم يستوعب النّظام أنّ هذا الواقع الظّالم وكلّ هذه السّنوات الّتي كانت الخيرات تخرج فيها من الشّمال الغربيّ دون رجعة ودون أدنى استثمار في البنى التّحتيّة والمؤسّسات الاقتصاديّة والمرافق الإداريّة لا يمكن أن تدوم دون أن تخلّف الرّماد”

عندما تجوب أروقة المحاكم في الكاف، بين المحكمة الابتدائيّة ومحكمة الاستئناف في محاولة لاستحثاث خطى القضاء أمام قضيّتي الجريصة وتاجروين، يصدمك تناقض صارخ بين طول تلك الأروقة الموحشة والباردة وركودها ونسق حركيّتها الّبطيئة من جهة وحرقة عائلات الموقوفين وهول معاناتهم اليوميّة واحتداد الاحتقان والغضب ومطالبتهم بالتّسريع في تحديد جلسة، هكذا تحوّل الواقع بعد 17 ديسمبر، أصبحنا نتفاوض من أجل مجرّد تحديد جلسة.Untitled-1

إلّا أنّك عندما تتعمّق في النّقاش مع المسؤولين على الإدارة القضائيّة، ولا أقول سلطة لأنّه لا يُراد لها ذلك، تكتشف أيضا هول التّناقض الكامن بين منظومة قضائيّة وفلسفة جزائيّة لم تعد تستجيب لمقتضيات الواقع وإكراهاته وتحوّلاته، تجد نفسك أمام قضاة يكادون يطلبون العون من المجتمع المدنيّ ويباركون “ضغوطاته” لأنّها رجع صدى لوجدانهم المكبوت. كم سعدت لما سمعته من القضاة من اعتراف بتخلّف المنظومة الجزائيّة التّونسيّة والتّناقض الذي تقوم عليه والتّناقضات الّتي تنتجها.

هناك أمل في القضاة الشّبّان الّذين يحملون عقيدة جديدة وفلسفة مغايرة للسّائد، وإن كانت تصطدم اليوم بصخرة البيروقراطيّة القضائيّة وسيف السّلطة التّنفيذيّة، فإنّ مصيرها المحتوم هو الثّورة على السّائد والتّحرّر من ربق التّكلّس والجمود. إيماني العميق هو أنّ طيفا كبيرا من القضاة يحملون مشروعا وتصوّرا للقضاء كسلطة لها إسهاماتها في إصلاح المجتمع لا إخضاعه والنّهوض بالإنسان لا الحطّ من كرامته. وسيقول لك أكثر من قاض، عن حقٍّ، أنّ البوليس هو صاحب اليد الطّولى في التّحقيق وأنّه لا صلاحيّات تذكر لقاضي تنفيذ العقوبات وأنّه لو كانت هناك شرطة قضائيّة تساعد في تسريع بعض الأعمال التّحقيقيّة بطريقة علميّة ومنهجيّة صارمة لتقلّصت مظاهر التّعذيب ومعها مدّة الإيقاف على ذمّة التّحقيق وأنّ جلّ العقوبات المدرجة في المجلّة الجزائيّة تحطّم الشّباب لأتفه الأسباب بدل أن تفتح المجال للقاضي لاستبدال بعض العقوبات بما هو أنفع للشّابّ وللمجتمع.

هذا هو التّناقض الأوّل الّذي يحكم السّلطة القضائيّة من الدّاخل، أنت إزاء قضاة جلّهم أكفّاء حاملين لفكر مستنير وإرادة تحرّر يصطدمون بواقع اجتماعيّ ومهنيّ لا يحميهم ولا يوفّر لهم الضّمانات المعنويّة والمادّيّة ويجعلهم تحت سيف السّلطة التّنفيذيّة الّذي لا تريد له أن يتحوّل إلى سلطة قائمة لأنّ الدّولة البوليسيّة لا تريد أن تخسر مواقعها وامتيازاتها.

التّناقض الثّاني هو في فلسفة النّظام، ولا أقول دولة لأنّ تونس يحكمها نظام مُتوارث يبرّر وجوده بشبه دولة. فلا هذا النّظام نجح في أن يكون ما يريد فعلا، أي أن يكون مركزيّي يعاقبيّا  (jacobin)، ولا هو مضى بجدّيّة في اللّامركزيّة الّتي كرّسها الدّستور في أبوابه المتعلّقة بالحكم المحلّيّ والجهويّ، ومن هنا نفهم رفضه لانعتاق القضاء. نحن إزاء سلطة سياسيّة تواصل العمل برجالات العهد القديم وقوانينه ومؤسّساته وقضائه الّتي تتوازى مع “الرّوح الجديدة” الّتي من المفترض أن تبثّها الثّورة والقوانين والمؤسّسات الجديدة أو المُعَطَّلة أو غير المُفَعَّلة بحسب الأهواء والمصالح… وهذا يخلق تضخّما قانونيّا وتضاربا يمسّ من وِحدة الدّولة (Atomicité)الّتي لا تتجزّأ، والدّول والحضارات الّتي تتشعّب فيها القوانين وتتعدّد وتتراكم وتتضارب تسقط كما سقطت الامبراطوريّة الرّومانيّة الّتي تعقّدت تشريعاتها وتعدّدت وصارت غير ملائمة لروح عصرها.

إنّ هذا التّخبّط الّذي يعيشه النّظام يجعله يسعى جاهدا إلى محاولة ترميم شرعيّته وتبرير وجوده. ولمّا كان دور الدّولة الأوّل هو ضمان الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمواطنين، فإنّ سطو فئة من الرّأسماليّين والكمبرادوريّين على مقدّرات الوطن والمجال السّياسيّ ودفعهم إلى تقليص مجالات تدخّل الدّولة في حدود الأمن العامّ ومقاومة “الشّغب” الّذي يضرّ بمصالحهم الاقتصاديّة وانسيابيّة سلعهم، كلّ ذلك جعل النّظام يجد في الإرهاب خشبة نجاة من مأزقه. وما قضايا الجريصة وتاجروين والرقاب والمكناسي إلا آيات من بين آيات ضمور البدائل والتّصوّرات العديدة، الّذي يتخبّط فيه النّظام.

من المهمّ فهم مأزق النّظام الّذي تجلّى أيضا في قضيّة جمنة وكيف أنّ البيروقراطيّة سعت جاهدا إلى إفشال تلك التّجربة الرّائدة الّتي أعادت طرح إشكاليّات إنتاج الثّروة وتوزيعها بعدا عن مركزيّة المخزن وعلاقات إنتاجه البالية والّتي هيمنت عليها طبقة أقلّيّة انتهازيّة استنزفت خيرات الجهة دون استثمار في الأرض والإنسان.

هنا لا مناص من ربط ما حدث في جمنة مع ما حدث في الجريصة وتاجروين. فجمنة كانت عنوان قطيعة في الانتظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ الّذي ثوّر العلاقة مع الأرض والثّروة والعمل كقيمة اجتماعيّة لا كبضاعة، جمنة كانت عنوان تهافت المقولة الإنتاجويّة لصالح اللّامركزيّة والتّوفيق بين النّجاعة الاقتصاديّة والجدوى الاجتماعيّة ومركزيّة الإنسان. هذه التّجربة لاقت القمع والمحاصرة والتّشويه من حرّاس معبد الدّولة المركزيّة البوليسيّة الّتي تغار على حوزة المتنفّذين والمتمعّشين، كان ذلك نموذجا في تخبّط الدّولة بين سياسة تخلّ وانسحاب عن كلّ دور اجتماعيّ مقابل رفض لكلّ مبادرة تأتي من الدّاخل العميق والمحلّيّ، إنّه تخبّط بين رغبة في السّيطرة والمحافظة على شبه “تحكّم” في مجرى الأحداث والانتظامات من جهة ونزعة محلّيّة للانعتاق والانتظام الاجتماعيّ العصريّ اللّامركزيّ القائم على المبادرة الجماعيّة حول مشترك اجتماعيّ وإنسانيّ من جهة أخرى.

في الجريصة وتاجروين، الصّورة مختلفة ولكنّ الخلفيّات واحدة، فالدّولة لم تنظر إلى تلك الجهات إلّا من منظور الطّمع في مخزونها المائيّ الّذي يتدفّق على الشّمال وحتّى الفنادق السّاحليّة أو في الموادّ الأوّليّة من إسمنت وجبس وحديد وفسفاط أو في مطامير المنتوجات الفلاحيّة المتنوّعة.

لم يستوعب النّظام أنّ هذا الواقع الظّالم وكلّ هذه السّنوات الّتي كانت الخيرات تخرج فيها من الشّمال الغربيّ دون رجعة ودون أدنى استثمار في البنى التّحتيّة والمؤسّسات الاقتصاديّة والمرافق الإداريّة لا يمكن أن تدوم دون أن تخلّف الرّماد. لم يستوعب النّظام أنّه كان بذلك يضع لبنات سقوطه المحتوم وأنّ مركزيّة النّظام وإرادة الهيمنة والسّيطرة والاستئثار بالثّروة وتحويل وجهتها لصالح أقلّيّات هي أشبه بالسّرطان ستصطدم حتما مع إرادة التّحرّر عند الشّعوب كحتميّة تاريخيّة وكنتيجة تناقض مع الحقوق الطّبيعيّة للبشر، ألم تكن قضيّة “سرقة الخشب” (1842 – 1843) زمن بروسيا من القضايا المركزيّة الّتي أثارت تساؤلات محوريّة عند ماركس وكانت مدخلا من مداخل نقد نظريّة الحقوق عند هيغل ونظرته المثاليّة للدّولة كتمثّل أسمى للقانون (أنظر مقال دانيال بن سعيد حول ماركس وقضيّة سرقة الخشب)؟ نحن أيضا إزاء نظام يريد سلب الشّعب من حقوقه الطّبيعيّة في التّمتّع بخيراته الطّبيعيّة محلّيّا وجهويّا وحتّى وطنيّا دون أن يكون له بديل وتصوّر في إنتاج الثّروة وتوزيعها، وتلك هي المعضلة.

أيّوب المسعودي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×