الرئيسية / صوت الوطن / الحرب على الفساد تمخّض الجبل… فهدأت الزّوبعة
الحرب على الفساد  تمخّض الجبل… فهدأت الزّوبعة

الحرب على الفساد تمخّض الجبل… فهدأت الزّوبعة

جيلاني الهمامي

 أدلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد يوم الأحد الماضي بحديث صحفي لجريدتي الصباح و”لابريس” تعرّض فيه إلى عدد من القضايا السياسيّة المتّصلة بالوضع العام الراهن في Sans titre-1تونس. وخصّص جانبا مهما من حديثه لكلا الصحيفتين لما بات يُعرف بـحملة “الحرب على الفساد”. وهو التصريح الرسمي الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لفهم تفاصيل موقف الحكومة من هذه الحملة وأسبابها ومراميها وحدودها وبالتالي للحكم عليها ما إذا كانت فعلا هي حملة حقيقية على الفساد أم شيء آخر. وبطبيعة الحال لا بدّ من وضع هذه الحملة في إطارها السياسي العام وفي أقلّ الأحوال في علاقة بأوضاع الحكومة وعلاقتها بالحركة الاجتماعية وفي علاقة بالأوضاع الداخلية للائتلاف الحاكم والصراعات التي تشقّ حزب النداء.

 إنّ المطّلع على هذا الحديث الصحفي ليجد ولأول مرة، إذا تركنا جانبا التعاليق والإشاعات وأخبار الكواليس الرائجة هنا وهناك، مادة ثرية للتّعمّق في تحليل هذه المبادرة ودوافعها ومراميها وغاياتها والمآلات التي ستؤول إليها. كما يعثر على مادة مهمّة للردّ على أبواق الدعاية التي لا فقط لم تتريث واندفعت إلى التطبيل لهذه الحملة – سواء عن سوء تقدير أو جريا على سنة القوادة المألوفة لدى البعض – بل وتجنّدت لتشويه موقف المعارضة منها وراحت تكيل لها الاتهامات والشتائم خاصة للجبهة الشعبية وبصورة أخصّ لحزب العمال وجريدته “صوت الشعب”.

 دواعي الحملة: روايات متضاربة  

 لنفترض جدلا أنّ السارق يمكن أن يحارب السرقة وأنّ الحاكم المستبد يمكن أن يكون نصيرا للحرية والديمقراطية وأنّ الفاسد يمكن أن يحارب الفساد. نفترض ذلك حتى لا نُتّهم بأنّ موقفنا من هذه الحملة مبني على أحكام مسبقة. ولكن الوقائع والحقائق سرعان ما تدعونا إلى التساؤل عن دواعي تضارب الروايات المقدّمة لتفسير أسباب الحملة على الفساد، هذا التضارب الذي يبعث على الرّيبة في مصداقية. لننطلق من منطوق تصريحات رئيس الحكومة حول هذه الحملة إذ صرح لجريدتي الصباح و”لابريس” بما يلي “سيحال الموقوفون على القضاء العدلي وقد أوقفهم وزير الداخلية لاقتناعه أنهم يشكلون خطرا على الأمن القومي…” وهو ما يتناقض مع ما سبق أن قاله ذات ليلة على القناة الوطنية الأولى “الفساد أو الدولة، الفساد أو الشعب أنا اخترت الدولة واخترت الشعب”.

 وما يثير مزيدا من الأسئلة حول أسباب هذه الحملة التي انطلقت “لمحاربة الفساد” هو أنها سرعان ما تحوّلت إلى قضية أمن دولة تتعلّق بالتآمر على أمن النظام العام و”وضع النفس على ذمة 249-8جيش أجنبي وقت السلم”. ومن جهة ثالثة بعد أن ذهب في ظنّ الجميع أنّ رئيس الحكومة هو بطل هذه الحرب اتّضح وأنه مجرد منفّذ لخطّة نسج رئيس الدولة خيوطها وهو الذي أصر على ان يبرز في تصريحاته للوفود التي استقبلها أنّ كلّ شيء تمّ “بعلمه وبمشورته”. وذهب البعض إلى الحديث عن “انقلاب ناعم على حرب ناعمة” وعن “انقلاب الباجي على حرب يوسف الشاهد” (جريدة الشارع المغاربي ليوم الاثنين 5 جوان الجاري) في إشارة إلى المجهود الذي يبذله الباجي لكي تؤول ثمار هذه الحملة إليه هو دون سواه وحتى لا يحتكرها يوسف الشاهد لخاصة نفسه بعد أن أصبحت بعض الأبواق تتحدث عن “ميلاد زعيم وطني جديد”. ومعلوم أنّ مثل هذا الصعود لشخص الشاهد من شأنه أن يخدش كبرياء الباجي وزعامته.

ومن مظاهر ارتباك أصحاب المبادرة، سواء كان رئيس الحكومة أو قصر قرطاج، هو المسوّغات القانونية المستعملة لتشريع عملية إيقاف جراية ومن تلاه من الموقوفين، تارة بالاعتماد على قانون الطوارئ وطورا بالإحالة على المحكمة العسكرية. ولا شك في أنّ لقاء الباجي بوفد عن المجلس الأعلى للقضاء جاء ضمن خطّته لاحتواء جهاز القضاء وطمس تأثيرات تهميش دور القضاء عند انطلاق الحملة.

” الحرب على الفساد ” كذبة كبرى

 كلّ الدّلائل تشير كلّ يوم بمزيد من الوضوح إلى أنّ ما يسمى بـ”الحرب على الفساد” ليست غير عملية انتقائية مسّت صنفين من المستهدفين، أوّلا شفيق جراية على خلفية حسابات سياسية ولحسم خلافات داخلية في نداء تونس تمهيدا لتعبيد الطريق للتناوب على مركز رئاسة الجمهورية داخل الفريق العائلي الماسك الآن بقصر قرطاج. والصنف الثاني مجموعة من المهرّبين الذين لا تجد منظومة الحكم حرجا في تقديمهم كبش فداء في حملتها الحالية. وتوحي تصريحات يوسف الشاهد إلى أنّ هذه الضّربات لن تتّسع إلى غيرهم.

 وتتأكّد هذه الحقيقة بعد أن تمّ التخلي تماما تقريبا عن المساس ببعض النواب من كتلة نداء تونس أو بعض الأسماء الأخرى التي وردت في تقارير كثيرة أهمّها تقارير هيئة مكافحة الفساد التي يرأسها شوقي الطبيب. ورغم أنّ الشاهد اعترف أنّ الفساد “منظومة كاملة ومتكاملة” فقد شدّد في تصريحه الأخير على “أننا لا نشتغل على إدخال الناس للسجون ولا أتمنى السجن لأحد” وأنّ “الحرب ستتواصل ولكن ليس معنى ذلك أننا سنوقف كل يوم أشخاصا…”. وفي ردّه على تصريحات السيد شوقي الطبيب أنّ أعضاء من الحكومة، وزراء وكتاب دولة، تحوم حولهم شبهات فساد قال:”بالمناسبة أقول أنه يبلغني ما يتردّد عن بعض الوزراء وأقول هنا أنّ من له أدلّة عليه أن يتّجه إلى القضاء ويبتعد عن التشهير وعن اعتبار كلّ الناس فاسدة”. ومعلوم أنّ مقاومة الفساد تعني في المقام الأوّل التّوجّه أوّلا وقبل أيّ كان آخر إلى من هم في السلطة ويستعملون أجهزة الدولة للإثراء وسوء التصرف في المال العام والاستحواذ عليه وتحقيق منافع خاصة بالدّوس على القانون. وليس أولى من وزراء يأتي ذكرهم في تقارير هيئة شوقي الطبيب بالمحاسبة والتتبّع. ولو كان رئيس الحكومة جادّا في حربه على الفساد ما كان يردّ “من له أدلّة عليه أن يتّجه إلى القضاء”.

 حملة سياسيّة بامتياز

 سبق أن قلنا – رغم أنّ الصورة لم تكتمل آنذاك كما هي عليه الآن – أنّ هذه الحملة إنما هي خطّة سياسية تظافرت لها جملة من العوامل وتوافقت فيها جملة من الأغراض لا تتّصل في الأساس بمسألة مكافحة الفساد بقدر ما توفّر فرصة لتصفية حسابات وحسم صراعات ما كان من الممكن القيام بها في ظروف سابقة. فلا أحد يُنكر حدّة الصراعات التي تشقّ حزب نداء تونس والوزن الذي يحظى به شفيق جراية في هذا الصراع والقدرات التي كان يستعملها لاستجلاب عناصر وقيادات ونواب من هذا الحزب لجانبه ضدّ خصومه وخاصّة خصمه الكبير نجل الرئيس حافظ قائد السبسي.

 لقد أصبح جراية عنصر إزعاج لا تستقيم معه أدوات الصراع المألوفة والطرق السياسية، لذا بات من اللاّزم التخلّص منه دفعة واحدة وبشكل يضع حدّا للصداع الذي سبّبه ويسبّبه لشق العائلة في الحزب والدولة، رئاسة وحكومة. وكان شعار محاربة الفساد والفاسدين أفضل السيناريوهات حتى وإن استدعى هذا السيناريو “ذبح بعض الرؤوس التي لا ضير في التضحية بها”. وكانت الظروف الصعبة التي تمرّ بها الحكومة نتيجة القلاقل الاجتماعية في تطاوين وغيرها من الجهات مناسبة لإعلان الهجوم. وجاءت شهادة عماد الطرابلسي كهدية من السماء لوضع مسألة الفساد في صدارة الأولويات وهكذا تظافرت الظروف للبدء توّا بالحرب التي في ذات الوقت ضربت عصافير كثيرة في وقت واحد: توظيف حساسية الناس ضد ظاهرة الفساد وحرف الاهتمامات عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وإخماد الحركة الاحتجاجية والتغطية على جريمة قتل مروان السكرافي في تطاوين وقطع حبل الاحتجاجات وإرسال رسائل للخارج وفك العزلة عن الحكومة وتأجيل مطلب الإطاحة بها، وفي نفس الوقت قطع الطريق أمام مطلب الانتخابات المبكّرة التي بدأت تلقى طريقها إلى اهتمامات الشعب.

 وفعلا نجحت الحملة في تغيير جدول أعمال حديث الشارع وخُيّل للحكومة أنها انتقلت من الدفاع إلى الهجوم خصوصا وأنّ جوقة الإعلام والدعاية نشطت لتضخيم حجم حملة “الحرب على الفساد”. غير أنّ هذه “المنافع” لم تدم كثيرا وسرعان ما كشفت عن هشاشة الخطة الموضوعة وبدأت ملامح صراعات جديدة ترتسم في الأفق لعلّ أهمها الصراع مرة أخرى داخل نداء تونس بين حافظ ونوابه وجماعته بمن في ذلك فريق القصر (من وراء الستائر) من جهة وبين الشاهد ونوّابه وأنصاره من جهة ثانية. وهي حلقة أخرى في مسلسل أزمة الحكم التي ولئن ستخفّف ظروف رمضان والحرارة والعطلة الصفية من وطأتها فإنها آيلة لا محالة لتفجرات قادمة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

4 + 14 =

إلى الأعلى
×