الرئيسية / صوت الوطن / إفتتاحية صوت الشعب// “استمـلاك الدولـة”
إفتتاحية صوت الشعب// “استمـلاك الدولـة”

إفتتاحية صوت الشعب// “استمـلاك الدولـة”

نستعير هذه العبارة للكاتب والباحث، الأستاذ الصّغير الصّالحي، للنّظر من خلالها إلى ما يجري أمام أعيننا اليوم من تطوّرات سياسيّة في إطار الهجوم الذي تشنّه قوى الثّورة المضادّة على المكاسب الدّيمقراطية التي حقّقها الشعب التونسي بنضاله وتضحياته. فمنذ سقوط الدّكتاتورية لم يتوقّف صراع القوى الثوريّة والتقدميّة من أجل تفكيك منظومة الاستبداد وإعادة بناء الدولة وتنظيمها على أسس جديدة، عصرية وديمقراطيّة، حتى تصبح في خدمة الشّعب وتكفّ عن أن تكون جهازا “يستملكه” الدّكتاتور وحاشيته والأقلّية الميسورة والفاسدة التي تحيط به لتحقيق سيطرتهم على المجتمع وإخضاعه.

لقد تمكّنت القوى الثّورية والتقدّمية، بعد صراع مرير، مع حكم التّرويكا، من فرض دستور ديمقراطي وتقدّمي يشرّع للحرّيات الأساسيّة ومنها حرّية التّعبير والإعلام، ولانتخاب المؤسّسات التمثيلية واستقلالية القضاء وحياد الإدارة وإكساء مؤسّستي الأمن والجيش طابعا جمهوريّا حتّى لا يُستخدما كما استُخدِما بالأمس لقمع الشعب وحماية مصالح الأقلّية الحاكمة الفاسدة. وكان من المفروض أن يُتبع إقرار الدّستور والمصادقة عليه بعمليّة تغيير تشمل مؤسّسات الدّولة لتطهيرها من رموز الاستبداد والفساد وإعادة تنظيمها وفقا لمبادئ الدّستور الجديد.

ولكنّ العمليّة تعطّلت. إنّ قوى الثورة المضادّة، وعلى رأسها حزب نداء تونس وحركة النهضة، التي كسبت انتخابات 2014 وأقامت تحالفا مدعوما من القوى الاستعمارية والرّجعية في الخارج لم تدّخر جهدا من أجل تخريب كلّ ما تحقّق وعرقلة تكريسه في أرض الواقع لإبقاء الدّولة بمختلف أجهزتها وأدواتها تحت قبضة الأقلّيات والمافيات. لقد عرقلت تلك القوى عمليّة إصلاح الإدارة والأمن والجيش، كما عرقلت إعادة تنظيم القضاء وسعت بكل الوسائل إلى السّيطرة على مفاصله. أمّا الهيئات الدستورية فإمّا أنها وُلِدت مشوّهة أو أنّها لم تُنجز إلى الآن. وإلى ذلك امتدّت يد الرّجعية، “النّدائية” خاصة، إلى الإعلام، بطرفيه العمومي والخاص، لتكميمه وإعادة السّيطرة عليه ووضعه في الخدمة.

وإلى جانب كلّ هذا، لم يغب الطّابع العائلي والفئوي عن المساعي المحمومة للقوى الرجعيّة للسّيطرة على الحكم والعودة بالبلاد إلى مربّع الاستبداد وإجهاض المسار الثّوري بالكامل. وهو ما يتّضح خاصة من خلال سلوكين متوازيين. الأوّل يمثّله الباجي قايد السبسي الذي يحنّ إلى حكم “البلْدِيّة”، وإلى توريث الحكم لابنه حافظ، وهو ما حدا به إلى تفكيك حزب نداء تونس وتقسيمه وتخريبه لتمكين حافظ من السّيطرة عليه. وبالتوازي مع ذلك يجري اليوم صراع خفيّ من أجل كبح جماح “الابن الضّال”، يوسف، الذي وُضع على رأس الحكومة لخدمة حافظ، فيأخذه الغرور لاستغلال الموقع لخدمة نفسه وللانقلاب حتّى على “الأب” الذي تدفعه العائلة والحاشية إلى إعادة الترشّح للرئاسة في عام 2019. لقد أصبح قصر قرطاج بلاطا بأتمّ معنى الكلمة لنسج المناورات وحياكة المؤامرات من أجل ضمان السّيطرة على الحكم.

أما السّلوك الثاني فتمثّله حركة النهضة التي وصلت إلى الحكم بعد الثورة، وتمكّنت في مرحلة أولى من قيادة التّحالف الحاكم أي التّرويكا، وفي مرحلة ثانية، أي بعد انتخابات 2014، من اقتسام النّفوذ مع “النداء”. إن ما يميّز هذا السّلوك الثاني، مقارنة بالأوّل الذي يطغى عليه الطابع العائلي والجهوي ـ المديني، هو أن حركة النهضة “الإخوانية” تريد إخضاع الدولة وأجهزتها و”تمليكها” للـ “فئة” (la confrérie) بحيث تمتدّ يد “الإخوة” إلى كامل مفاصل الدولة ليطوّعوها إلى خدمة مصالحهم ومصالح مريديهم بعقليّة رجعية، متخلّفة، تتعامل مع الدولة كغنيمة أو بالأحرى تتعامل مع الدّولة بمفهوم هو أقرب إلى مفهوم الطّائفة والعشيرة منه إلى مفهوم الدّولة الحديثة.

وبالطبع فإنّ كلّ ذلك يجري تحت مراقبة القوى الاستعمارية والرجعيّة التي تسند التّحالف الرجعي القائم والتي لا يهمّها إلّا الحفاظ على مصالحها. فـ”النداء” و”النهضة” يتسابقان، كلٌّ من موقعه، لإظهار أنّه الضامن لمصالح تلك القوى والضّامن لمصالح أدواتها من الكمبرادور والعملاء في الدّاخل. ومن البديهي أنّ الخاسر الأكبر في كلّ هذا هو الشعب وتونس اللّذان يفوّتان على نفسيهما فرصة القطع مع دولة الاستبداد الرّجعية والمتخلّفة وبناء دولة عصريّة، وطنية وديمقراطية وتقدّمية. ولكن لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال الاعتقاد في أن المعركة خسرت وحسمت لفائدة القوى الرجعيّة بشقّيها “الندائي التجمّعي” و”النهضوي”، بل على العكس من ذلك فالمعركة ما تزال مستمرّة، وقوى الثورة المضادّة تجد أكثر من صعوبة لتمرير مشاريعها.

إنّ الشعب التونسي له رغبة جامحة في التخلّص من الاستبداد وبناء دولة عصرية وديمقراطيّة، ولولا هذه الرّغبة لما ثار في وجه الدكتاتورية النوفمبريّة. وقد بيّنت الأحداث والوقائع أنّه كلما ظنّت القوى الرجعيّة أن الأمور استقرّت لفائدتها، إلّا وقام “المارد الجبّار” وسفّه أحلامها وأعاد خلط الأوراق من جديد. ولكن المسؤولية كلّها تُلقى على عاتق القوى الثوريّة والتقدّمية، وفي طليعتها الجبهة الشعبية، لاستثمار المزاج الثّوري للطبقات والفئات الشّعبية، الذي لم ينته، لتطوير معركة الديمقراطية والتقدّم، حول كل المحاور التي تهمّ إعادة بناء الدولة والقطع مع الاستبداد، مع قوى الثّورة المضادّة التي تنتمي إلى الماضي ولا يمكنها بأيّ شكل من الأشكال أن تنهض بالمجتمع وبالبلاد.

فلْنضاعف جهدنا، من أجل سدّ الطريق أمام هذه القوى ووضع حدّ للخراب الذي تحدثه لبلادنا والآلام والأوجاع التي تسبّبها لشعبنا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×