الرئيسية / الافتتاحية / غرّة ماي بطعم الحداد
غرّة ماي بطعم الحداد

غرّة ماي بطعم الحداد

لا يكاد يمرّ شهر واحد، بل وفي مواسم الجني أسبوع واحد، دون أن نُصدَم بأنباء موت عمَلَةِ الفلاحة رجالا وخاصّة نساء… ففي الفاجعة التي شهدتها معتمديّة سبّالة أولاد عسكر من ولاية سيدي بوزيد كان شهداء الخبزة موزّعين إلى خمسة رجال وسبع نساء، أمّا في صفوف الجرحى فينضاف عدد من الأطفال القُصّر والذين من المُفترض أن يكونوا على مقاعد الدّراسة(12و15سنة) وبصدد الاستعداد لإنهاء سنتهم الدّراسيّة…

تتالي الفواجع وتعاظم عدد الضّحايا تُقابله نفس ردود أفعال هذه الحكومة كسابقاتها وخضوعها لنفس المنوال: “الكلّ مسؤول، الحكومة تقوم بدورها على أحسن وجه، هناك أطراف تريد تسييس مآسي النّاس، افتعال مشاكل جانبيّة وأخيرا تحميل مسؤوليّة الجُرم لآخر حلقة في المنظومة (مثلا هنا سوّاق الشّاحنتين المصطدمتين)”، تليه لقاءات وحوارات لتبرئة ذمّة الدّولة نهائيًّا (حسب اعتقادهم لأنّهم لا يتّعظون بالتّاريخ) مأساة سبّالة أولاد عسكر هي وضعيّة دالّة على فشل الدّولة بمختلف أجهزتها واستهتار بحقوق المواطنات والمواطنين بل وتفان منقطع النّظير في خدمة أرباب العمل المارقين عن القوانين الشّغليّة. وبما أنّ العاملات في الوسط الرّيفي يُعتَبرن الحلقة الأضعف في منظومة الاستغلال فإنّ وضعيّتهنّ تختزل كلّ مقوّمات الحيف الطّبقي الرّازح تحت أغلال الاستعمار الاقتصادي.  فهن مضطهدات بسبب جنسهنّ (مجتمع أبوي ينكر عليهنّ حقوقهنّ كالمساواة في الميراث على سبيل المثال) ومضطهدات من قبل أرباب العمل، في الفلاحة وغيرها، ومضطهدات من أجهزة الدّولة التي هي أصلا في خدمة مصالح المُسْتَغِلِّين محليًّا وخارجيًّا. عدد العاملات في القطاع الفلاحي يناهز النّصف مليون عاملة وتُمثّلن قرابة 43% من النّاشطات بالوسط الرّيفي، فهنّ وبهذا الحجم قوّة عمل وإنتاج حيويّة للبلاد لكنّ هذا لم يشفع لهنّ لدى صنّاع القرار. فتحت ضغط الرّأي العام من جمعيّات نسويّة ومنظّمات وحركات اجتماعيّة وأحزاب معارضة وأصوات حرّة عموما وخاصّة بعد 14جانفي، وأمام تعدّد الحوادث المُميتة، أُجبرت الحكومة على طرح الموضوع وصدر ما يُسمّى “بروتوكول اتّفاق” مؤشّرٌ عليه من قبل كلّ من وزارة المرأة والأسرة والطّفولة وكبار السنّ والاتّحاد العام التّونسي للشّغل والاتّحاد التونسي للفلاحة والصّيد البحري واتّحاد الصّناعة والتّجارة والصّناعات التّقليديّة وكان ذلك يوم 14 أكتوبر 2016. هذا البروتوكول يتعلّق بنقل العملة والعاملات في القطاع الفلاحي والتزمت الحكومة مُمَثّلة في وزيرتها بتقديم مشروع كرّاس شروط لتنظيم القطاع في أجل لا يتعدّى الشّهر الواحد! نعم الشهر الواحد أي وبشيء من “التّسامح” أواخر العام 2014. وها نحن على مشارف انتصاف عام 2019 ولم يصدر أيّ شيء! وعند مُحاورة الوزيرة بعد كارثة سبّالة أولاد عسكر، قالت إنّ هناك أطراف عطّلت المشروع وتحت إلحاح الصّحفيّة نبست بصوت خافت “الأعراف عندهم بعض الاعتراضات”! من حيث لم تُرِد، أقرّت الوزيرة بعجزهم المتواطئ!

وزيرة المرأة تصرّ على القول أنّ هؤلاء الضّحايا من النّساء يعملن لأنّ أزواجهنّ لا يريدون العمل! نعم هكذا! وكأنّ العمل ليس حقًّا للنّساء والرّجال، وكأنّ السيّدة الوزيرة تلتقي في نقطة ما مع الطّرح الإخواني بخصوص مكان النّساء هو البيت، وكأنّ السيّدة الوزيرة تريد تحويل النّقاش في حقوقٍ شغليّة مهضومة إلى نزاع داخل العائلة بين زوج وزوجة! بالمناسبة، وزيرة المرأة لا تختلف في شيء عن بقيّة زملائها وزميلاتها من وزراء وحتّى نائبات الائتلاف الحاكم و”كوادرهم الشّابّة”، فقد تسابقوا إلى الخروج علينا بتصريحات تصبّ في التّلهية بالهوامش: نائبة نهضويّة استفزّها نقل عملة من الجنسين على نفس الشّاحنة واعتبرته أمرا مهينا، وزير صبّ جام غضبه على سوّاق الشّاحنات لأنّهم يدلقون الماء حتّى يبقى الركّاب وقوفا ويزداد عددهم في “الرّحلة” الواحدة وزميل له يُحمّل المسؤوليّة لسائق الشاحنة (المتوفّى أصلا) لعدم التزامه قواعد السّير، في حين تنطلق طاقة شابّة في حزب رئيس الحكومة بالقول إنّ وسائل النّقل البدائيّة هذه ضروريّة لأنّها بخسة الثّمن وتقلّل الكلفة… أي أنّ كلّهم يسارع للتّلهية ولفت النّظر عن المسؤولين الحقيقيّين في هذه المأساة كما في سابقاتها وللأسف في لاحقاتها: المنظومة، المنظومة بالتّمام والكمال، لا أحد يتناول مسؤوليّة أرباب العمل المخلّين بواجباتهم تجاه العملة والعاملات من أجر مُجزٍ وتغطية اجتماعيّة ونقل محترم! لا أحد يتحدّث عن دور الدّولة في التصدّي للمخالفين بدءً بشرطة وحرس المرور إلى وزارة التّشغيل ووصولا إلى وزارة الشّؤون الاجتماعيّة ووزارة التّربية… لا أحد من هذا الائتلاف يضع نصب عينيه مصالح شعبه والمسحوقين فيه، وعلى كلّ صاحبات وأصحاب المصلحة في مجتمع مبني على المساواة والعدل أن يكنسوا هذا الائتلاف بمنظومته.

 منيرة يعقوب

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×