الرئيسية / صوت العالم / الثورة السودانيّة بين عمامة الشيوخ  وقلادات الضباط 
الثورة السودانيّة بين عمامة الشيوخ  وقلادات الضباط 

الثورة السودانيّة بين عمامة الشيوخ  وقلادات الضباط 

الناصر بن رمضان

  انطلقت شرارة الثورة السودانيّة على خلفيّة تدهور الأوضاع المعيشيّة في البلاد وغياب الحريات العامة والفردية واستشراء الفساد والبطالة وتعمّق الفقر والعمالة وتمزيق وحدة البلاد. وواجه  الطاغيّة عمر البشير الذي حكم السودان  لثلاثين سنة  ثورة 19 ديسمبر 2018  بالحديد والنار، فقتل العشرات من المواطنين واعتقل وعذّب المئات وأعلن حالة الطوارئ لكن الشعب السوداني واجهه باندفاع ثوري جماهيري نادر فكسر جدار الخوف منذ البداية وشلّ “ماكينة” القمع الوحشي وقاوم مقاومة بطوليّة وأصرّ عدم مغادرة السّاحات قبل تحقيق مطالب “الحرية والسلام والعدالة” وبادر بطرح أجهزة السّلطة البديلة وهو ما جذب فئات  شعبيّة جديدة  من صغار الضّباط والجنود والشرطة  الذين انحازوا إلى الشعب وحموا الثوار.

وبإطاحتها لعمر البشير، اصبحت الثورة  تحت قيادة  “تحالف قوى الحرية والتغيير” التي تشكّلت من القوى النقابية مُمثّلة بتجمّع المهنيين  وقوى الاجماع الوطني وجبهة نداء السّودان والتجمّع الاتحادي المعارض … وقد تمّ تشكيل هذا الائتلاف الجبهوي  بمبادرة من  الأحزاب  المعارضة الرئيسيّة وأهمّها الحزب الشيوعي السوداني الذي لعب دورا بارزا في الحراك وبمشاركة حزب الأمّة القومي بقيادة الصادق المهدي وحزب المؤتمر الشعبي إضافة الى الحركة الشعبية لتحرير السودان وبعض الاحزاب اليسارية الاخرى التي طالبت بمجلس تأسيسي ورحيل نظام العسكر وتشكيل حكومة انتقاليّة من كفاءات وطنيّة تعمل على إرساء حكم مدني ديمقراطي يكرّس فصل السّلطات وسيادة القانون وتفكيك دولة الاستبداد وبقايا النظام الإسلاموي الفاسد وإلغاء القوانين السّالبة  للحريات، وتتبّع جرائم التّعذيب والاغتيال السياسي،  وحلّ المليشيات ، ومحاكمة  رموز النظام الفاسد واستعادة أموال الشعب المنهوبة.

دولتين في دولة:

بعد حوالىْ خمسة أشهر من الصّمود والمُـقاومة وجدت الثورة نفسها تواجه جملة من العراقيل الداخلية والخارجية  ليس أقلّها مواجهة نظام ذو  رأسين إسلاموي وعسكري، خلق داخل الدولة “دولتين ” متطرّفتين: دولة الإخوان ودولة المليشيات العسكرية. فدولة الجبهة الإسلامية العميقة التي جاء بها انقلاب حسن الترابي وحكمت عبر حزب المؤتمر الوطني ما زالت لحدّ الآن  تُحكم قبضتها على كل مؤسسات الدولة والمجتمع، من الجيش إلى وسائل الإعلام مروراً بالقضاء وهياكل الاقتصاد وخيرات البلاد بما فيها النفط والذهب.
أمّا ” الدولة” الثانية  فجاءت هي بدورها عبر انقلاب عمر البشير  1989 وهي  دولة المليشيّات القبليّة الموازية للأجهزة النظامية، دولة مليشيات “الجنجويد” المرتكبة لجرائم الإبادة الجماعية التي نشرها في معظم أنحاء البلاد ثم حَوَّلها إلى قوات مرتزقة في حرب اليمن ولضمان ولائها له واستقلالها عن أجهزة الدولة مَلَّكَها النظام الأراضي والمشاريع الاستثمارية والشركات بما فيها شركة تعدين الذهب.

مناورات المجلس العسكري:

وبسقوط  الطّاغية وجد الثّوار أنفسهم وجها لوجه مع مجلس عسكري غير شرعي يترأسه الجنرال عبد الفتاح البرهان وجلّ قياداته أيديهم ملطّخة بدماء الحروب العنصرية التي شنّها النظام ضدّ المواطنين المنحدرين من أصول غير عربيّة، والتي أودت بحياة مليوني شخص في جنوب السودان وما يقارب نصف مليون في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. لقد بدا ككلّ الأيّام الأولى للثورات أنّ قوى الحرية والتغيير لم تكن مستعدّة لسيناريو ما بعد خلع الديكتاتور فسرى الارتباك والتردّد بسبب عدم القدرة على الإشراف على تطبيق برنامج الإعلان الثوري. واعتبارا أن قوى الحرية والتّغيير كانت خليطا من اليمين واليسار فقد قبلت دعوة المجلس الذي نجح في المناورة باستجابته لجلّ المطالب  شريطة أن يتولّى رئاسة مجلس السيادة طيلة الفترة الانتقالية وهو ما أضفى عليه شرعيّة مفقودة واعترافاً إقليمياً ودولياً وإن كان محدوداً. قبلت قوى الثورة هذه الشّراكة مع الجناة وهي تعلم أنّ العسكر شكّل في تاريخ السودان أكبر عائق في طريق الديمقراطية وأنّه يستحيل تحقيق شعار ثورة “الحرية والسّلام والعدالة” بالتّوافق مع قوى الثّورة المضادّة التي تتشبّث بالسلطة لإطالة الحروب والإفلات من العدالة وتحرص على الابقاء علي الاتفاقيات السّالبة للسّيادة الوطنية وغير ذلك من القرارات التي اتّخذها مجلس الانقلاب، فضلا عن الابقاء علي سياسات ومؤسسات النّظام الفاسد كما هي عليه. حصل ذلك نتيجة تباطؤ المجلس في تسليم السلطة للمدنيّين ممّا مكّن من تنامي قوى الثورة المضادّة التي أصبحت تتحرّك بحرية واستفادت من قرارات وقف المدّ الجماهيري و قرار تجميد النّقابات وتكوين لجان التسيير.

مرّة أخرى باسم الشريعة… !!!

الأدهى والأمرّ من ذلك هو أن المجلس العسكرى أصبح  يصرّ  على أنْ تكون الشريعة الإسلامية هى مصدر التشريع وهنا مربط الفرس لأن مصادر التشريع مكانها الدستور، فضلا عن أن الشعب  السوداني اكتوى بمآسي استغلال الشريعة لمدّة 30 عاما وكانت الحصيلة الفساد والنهب والقمع والحروب وفصل الجنوب عن باقي السودان باسم الدين. ومن هنا نعود  لنقطة الخلاف الأساسية بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكرى التي تكمن وراءها موازين القوى ونسبة التمثيل فى المجلس السيادي، إذ بينما يتشبّث الثوار فى الميادين على أنْ يكون للضبّاط تمثيل محدود يعترض هؤلاء على إخضاع القوات المسلّحة  للسلطة السياسية، بما يعني أنْ تكون لهم السيادة المطلقة ويعود السودان إلى مربع حكم البشير من جديد، وهكذا تتأكــّـد الحقيقة الدامغة التى طبعتْ كل أنظمة الاستبداد وهى التّلازم بين عمامة الشيوخ و قلادات الضباط.

إن الجيش الذي تقمّص دور المنقذ من الإخوان المسلمين في مصر وفشل فشلا مزدوجا هو الجيش الذي تحالف معهم في السودان للتخلّص من ديكتاتور استوفى خراطيشه ولتثبيت ديكتاتور جديد محلّه يأتمر بقوى إقليميّة ودوليّة تغدق عليه المال والسلاح للهروب بالثورة السودانية التي تواجه أكبر المخاطر ليس أقلها خطر التراجع على الحكم المدني والاستسلام لضغوط ممالك النفط ومشائخه الكارثية. ومن هنا لا تقلّ معركة نزع عمامة الشيوخ والكهنة عن معركة قلادات الضباط.

إنّ الصّراع الدّائر في السودان الثورة هو صراع بين مشروعين سياسيين: مشروع “الهبوط النّاعم” الذي تتبنّاه قوى الثورة المضادّة وتدعمه القوى الاستعمارية والرّجعيات الإقليميّة الخليجيّة والمصرية تحديدا، والرّامي الى القبول بتسويات وإجراءات إصلاحية على شكل السلطة بمشاركة بعض قوى المعارضة “اللّطيفة” المنسجمة مع الحكم من أجل توسيع قاعدة النّظام الطبقيّة مع المحافظة على نفس منوال التنميّة والمصالح العامة للإمبريالية العالمية، ومشروع القوى الثورية بقيادة قوى الحرية والتغيير والرامي إلى إسقاط النظام وتصفيّته وتفكيكه واستعادة وحدة الوطن عبر حكومة انتقاليّة تنفّذ برنامج البديل الثّوري وتؤسّس – عبر صياغة دستور ديمقراطي – لدولة مدنيّة ديمقراطية  تنهي الحروب وتوقف التردّي العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

إن الشعب السوداني وهو يحشد لإعلان العصيان المدني ومليونيّة الإضراب العام لمواجهة المجلس العسكري وحلفائه، ليس له من خلاص غير وحدته وتماسكه والتفافه حول قوى الحرية والتغيير التي يتحتّم عليها تنقيّة مكوّناتها من الوصوليين والمرتعشة أيديهم ، كما ليس للثورة  – حتى وإن ارتبكت في البداية بحكم عدّة عوامل – من خيار سوى أن تستمر، وهي تعرف جيّدا من خلال النسخة التونسية أن التوقّف في منتصف الطريق هو انتحار وهزيمة نكراء.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×