الرئيسية / منظمات / أخبار / الباحث في علم الاجتماع الدكتور فؤاد غربالي لـ”صوت الشعب”: الكورونا حدث سياسي، عرّت تهافت كلّ الخيارات الاقتصادية والسياسية و ستترك جراحا وآثارا نفسية واجتماعية
الباحث في علم الاجتماع الدكتور فؤاد غربالي لـ”صوت الشعب”: الكورونا حدث سياسي، عرّت تهافت كلّ الخيارات الاقتصادية والسياسية و ستترك جراحا وآثارا نفسية واجتماعية

الباحث في علم الاجتماع الدكتور فؤاد غربالي لـ”صوت الشعب”: الكورونا حدث سياسي، عرّت تهافت كلّ الخيارات الاقتصادية والسياسية و ستترك جراحا وآثارا نفسية واجتماعية

كورونا، هذا الشّبح الذي خيّم على كلّ الدول والأمم. هذا العدوّ اللاّمرئي الذي يرتفع حجم ضحاياه باستمرار، بينما تُحبس الأنفاس في انتظار ما ستتفتّق عليه عقول العلماء والباحثين وما ستفرزه مخابر البحث في عديد الدّول للتوصّل للقاح ناجع، يوقف مدّ هذا الفيروس وينهي المعاناة والمخاوف.

هذا الوباء/ الجائحة، هو أيضا لحظة مفصلية في تاريخ الشعوب والمجتمعات، لما لها من انعكاسات على الاقتصاديّات والعلاقات الجيوسياسيّة والبنى الأخلاقية والفلسفيّة والقيميّة.

 “صوت الشعب” سلّطت الضوء على الانعكاسات والإفرازات الاجتماعية العميقة لهذا الوباء، على الفرد والمجتمع، وأجرت حوارا مع الباحث في علم الاجتماع بجامعة تونس الدكتور فؤاد غربالي.

حاوره: الشريف الخرايفي

– بداية، هل نحن في الطريق السّليم في مواجهة وباء “الكورونا”؟

لا أحد يستطيع أن يثبت أننّا في الطريق الصحيح أم لا. نحن نعيش في حالة من اللاّيقين والشكّ المعمّم. والاستقصاء المعمّم للوباء لا يحدث بشكل مكثف، وهذا يحول دون معرفة الأعداد الحقيقية للمصابين. في خضمّ هذا، يحاول الخطاب الحكومي أن يقدّم تطمينات عبر بعض الإجراءات الاجتماعية التي اتُّخذت. إلاّ أنّ الفجوة بين ما تقوله الحكومة وبين ما يحدث على أرض الواقع كبيرة. تتحدّث الحكومة عن ضرورة الالتزام بالحجر الصحي من أجل التقليص في نسب العدوى. لكن يبدو -رغم ما يقال عن الاتصال الجيد- أنها غير قادرة على تمكين عدد كبير من الفقراء والجوعى من المساعدات والمنح بطريقة سلسة تتماشى ومقتضيات الوقاية من العدوى. هذا خلق حالة من التزاحم الكبير أمام مكاتب البريد من الممكن أن يسهّل العدوى ويجعل الناس الأكثر هشاشة والأكثر فقرا عرضة لخطر مضاعف، خطر العدوى وخطر عدم الولوج إلى الخدمات الصحية. والتزويد بالسميد أدّى إلى نفس الوضع. كلّ هذا يعمّق المخاطر ويجعل الحجر الصحي لا معنى له في ظلّ غياب مقاربة اجتماعية تأخذ في الاعتبار واقع البلاد الحقيقي. تقول الحكومة إنها تستند إلى لجنة علمية في قراراتها. هذا جيد، لكنّ “كورونا” ليست مسألة طبّيّة فقط إنها مسألة اجتماعية. لهذا لا بدّ من الاستعانة بخبرات وباحثين في العلوم الاجتماعية (أحد أعضاء المجلس العلمي في فرنسا عالم اجتماع وعالمة أنثربولوجيا). إذا بقينا في المقاربة الطبية وتعاملنا مع المسألة الاجتماعية وفق إجراءات بيروقراطية فالنتائج لن تكون جيّدة. فالناس لا تعنيهم كثيرا التطبيقات الإعلامية، رغم أهميتها، ما يعنيهم أساسا كيف يضمنون الاستمرار في العيش وأن لا يفقدوا وظائفهم. لا تنس نحن لا ندير أزمة في إطار اقتصاد مهيكل خاضع لرقابة الدولة المالية والاجتماعية. نحن إزاء منظومة اقتصادية تعتمد في أكثر من النصف على القطاع غير المهيكل والمهن الهامشية. هذا يعني أنّ الكثير هم خارج المنظومة وسيكونون هم الأكثر تضرّرا من هذا الوباء صحّيّا -في صورة لم يقع الالتزام بالحجر الصحي – واقتصاديا أيضا. إذا أن نكون في الاتجاه الصحيح هو أن نخلق معادلة بين العزل الصحي وإدارة المسألة الاجتماعية. هذا كما قلت يحتاج إلى طرق عمل جديدة.

“كورونا” ليست مسألة طبّيّة فقط إنها مسألة اجتماعية 

– من بين إجراءات الوقاية المنصوح بها هو اعتبار كل واحد فينا مصابا بالفيروس. ألا يؤدّي ذلك إلى نشوء “الوسواس القهري” وغيرها من سلوكات الرّيبة المفرطة؟ وكيف نواجه مثل هذه الإفرازات؟

طبعا ما حدث ليس بالأمر الهيّن. هناك صدمة وهزّة نفسية قد حدثت للتونسيين لم يتعوّدوها، أو هكذا يبدو على الأقل، وهذا الأمر سيكون له طبعا تأثيرات على سلوك الأفراد ورؤيتهم لأنفسهم وللآخر. هذا قد يتجسّد خلال ما بعد كورونا. سيجد الناس صعوبة في التأقلم مع واقع جديد يصبح فيه الرهان أكثر على منظومات الوقاية الصحية. الرقابة لن تكون على الهويات والسجل العدلي بل ستمتد أيضا نحو قياس درجة حرارة الجسد. “كورونا” ستجعل كل حميميتنا أكثر انكشافا. السعال في مكان عام قد يسبّب لك مشكلة أمنية. الدولة ستلعب أكثر من أيّ وقت مضى دور البوليس الصحي. سنكون أكثر عراء مثلما يتوقع الفيلسوف الإيطالي جورج أغمبايين. هناك قيم جديد ستبرز. والناس سيعيدون ترتيب علاقاتهم ببعضهم البعض بطريقة أو بأخرى. العزل سيترك جراحا وآثارا نفسية واجتماعيّة أيضا، ومن تضرّروا سيقولون قد وقع تركنا لحسابنا. السؤال هنا، كيف نعيد ترميم ما سوف يدمَّر نفسيا واجتماعيا. هذا يحتاج إلى طرح أسئلة كبرى تتعلق بخياراتنا التربوية والاقتصادية والقيميّة. المهمة ستكون جسيمة وهي مهمّة سياسية أساسا. فـ”الكورونا” هي حدث سياسي بامتياز. 

– فيروس “كوفيد 19” خلق أيضا مناخا من الرّيبة والخوف من المستقبل. ما هي ملامح هذا المستقبل؟

أعتقد أنّ ما فعلته “كورونا” هو أنها عمّقت الإحساس بالرّيبة والخوف وأظهرته في شكل أكثر صفاقة لأنّ الإحساس بالخوف كان موجودا من قبل. لا تنس نحن لدينا أكثر من مليون عاطل عن العمل، وأكثر من ثمانين ألف خريج جامعي كل سنة غير قادرين على تحديد ملامح مستقبلهم بشكل واضح.

ثلاثون سنة من اقتصاد السوق كانت كفيلة بضرب كلّ منظومات الحماية الاجتماعية ومزّقت شبكات الأمان الاجتماعي.

نحن نعيش منذ بداية التسعينيات، في تونس على الأقل، ضمن ما يسمّيه علماء الاجتماع بصعود اللاّيقين. حيث تبدو المسارات الفردية متقطعة وغير خطية والأفراد لا يعرفون أين يسيرون وقدرتهم على توقّع مستقبلهم ضعيفة. عالم العمل الرسمي تشظّى. والناس يعيشون عبر عقود قصيرة الأمد، علاوة عن العمل الهش، والدولة تخلّت عن التزاماتها الاجتماعية وتحوّلت إلى مجرد متصرف في البؤس. كلّ هذا خلق حالة من اللاّمعيارية والخوف من المستقبل. لا يجب أن نفكر بمنطق أنّ “كورونا” هي سبب كل شيء. هذا ما تريده القوى المهيمنة. ما فعلته “كورونا” هي أنها عرّت تهافت كلّ الخيارات الاقتصادية والسياسية. فليست “كورونا” هي المسؤولة عن تردّي المستشفيات. إنها سياسة التقشف هي المسؤولة. “كورونا” ليست هي المسؤولة عن عدد المهمّشين الكبير والذي يعيشون تحت وطأة العمل الهش. إنها سياسة الدفع بتخلي الدولة عن كلّ شيء لصالح قطاع خاص مهووس بالربح فقط ودون أيّ مسؤولية اجتماعية. لهذا كي نقرأ ملامح المستقبل جيّدا يجب أن نقرأه على ضوء تشخيص جيّد لخياراتنا. القوى المالية المتنفذة والمستفيدة من السياسات القديمة ستقاوم التغيير، والتغيير الحقيقي مشروط بقدرة القرار السياسي على لجم هؤلاء بمعنى إعادة ترتيب قواعد اللعبة على نحو تتحقق فيه الدولة المقتدرة والعادلة. إنّ للقوى الاجتماعية المدنية دورا في الضغط في هذا الاتجاه. لكن إن بقيت مشرذمة ودون برنامج سياسي لِمَا بعد “كورونا” وإن لم تقرأ هذه اللحظة بوصفها لحظة سياسية – ليس بالمعنى الحزبي وإنما بالمعنى الاستشرافي – سيكون مصيرها مثل ما حدث بعد الثورة مزيدا من الهزائم والخيبات.

– ما هي السّلوكات الاجتماعيّة التي “أنتجها” الوباء، صلب العائلة والمجتمع عموما (عادات اجتماعيّة، الروابط الأسريّة…)؟

فرض الوباء حالة من العزل الصحي، وهو تجربة اجتماعية غير مسبوقة لم يعرفها التونسيون في تاريخهم الحديث. وهي تجربة لا يعيشها الجميع بشكل متساوٍ. هناك من تتوفّر لهم ظروف جيدة كي يعيشوا هذه التجربة الوقائية، في حين يكابد الآخرون في بيئات قاسية تُحيل مع ما يمكن أن يعيشه متساكنو الأحياء الشعبية الفقيرة المحيطة بالمدن، أين نسبة البطالة المرتفعة والمساكن الضيّقة. سيضطرّ المراهقون هناك إلى البقاء في أنهج الشوارع، وهذا أمر قد يساعد على العدوى. طبعا التأثيرات الأوّلّية والتي يمكن ملاحظتها هو أنّ نسق استهلاك ما هو كمالي قد يتقلص. وصار الناس يفكّرون في كل ما هو أساسي. في بداية الوباء كان هناك هجمة استهلاكية كبيرة يحرّكها الذعر، حتى أنّ البعض كان يشتري بكثافة مناديل المراحيض اعتقادا أنّ كلّ ما قد يشتريه قد يحقّق له الحماية. وبالنسبة إلى الروابط الأسرية فقد عاد الكثيرون إلى قُراهم في المناطق الداخلية وهذا يحدث في أوروبا أيضا. الكل يعود إلى المناطق الريفية خوفا من الفيروس. لكن ما لا نعرفه بالضبط – وهذا ما يجب أن تقوله المؤسسات الرسمية – هل تزايد العنف المنزلي خاصة الموّجه ضد النساء، عدد الحوادث المنزلية، أيضا العنف الموجّه ضدّ الأطفال.

فالفئات الأكثر عطوبة (les populations vulnérables) ربما هي الآن مهدّدة بالعدوى وبالعنف أيضا. المجتمع المدني ومؤسسات الدولة يجب أن تنتبه إلى هذا أيضا. من ناحية أخرى يبدو أنّ “كورونا” قد أعادت الاعتبار إلى ما يسمّى بالتضامن الأفقي، أي التضامن على مستوى محلي، تضامن الناس فيما بينهم. ويجب على المجتمع المدني أن يلعب دورا في هذا. لكن تحت راية الالتزام المواطني وليس تحت راية حزبية أو إيديولوجية.

– هل نحن أمام وعي مجتمعي عام جديد؟ وكيف سيكون نمط الحياة ما بعد الفيروس؟

يجب ألاّ نتسرّع كثيرا في هذا الاتجاه. إذا كنت تقصد بوعي مجتمعي جديد انبثاق مواطن يعتقد في قيم الحرية والعدالة والحق في الاختلاف والوعي بحقوقه فهذا أمر لا تصنعه الأوبئة. الأوبئة قد تصنع العكس تماما خاصة في البيئات الفقيرة. أعتقد أنّ هذا الأمر مسؤولية مؤسسات المجتمع (المدرسة، الجامعة، الدولة، المجتمع المدني) التي يجب أن يقع ترميمها بالمعنى المادي والرمزي على قاعدة مشروع مجتمعي يُعلي من قيم العدالة والحرية. المشكلة أننا في تونس لا نملك مشروعا مجتمعيّا، وحتى الديمقراطية بقيت ديمقراطية إجرائية يستفيد منها من لَهُم المال ولم نستطع حتى الآن تحويلها إلى آلية لخلق ذهنيات جديدة. الكلّ يتحدث عن الديمقراطية. لكن لا أحد يتحدث عن الثقافة الديمقراطية، وبالتالي من المبكّر أن نتحدث عمّا أسميته أنت بوعي مجتمعي جديد. وبخصوص نمط الحياة بعد الفيروس، أعتقد أنه على المدى القصير أُفُق ما بعد “الكورونا” ليس أفقا مشرقا. بل سنشهد مزيدا من الفقراء الجدد ومزيدا من جغرافيات الغضب، والشعبوية ستزدهر أكثر فهذا هو مناخها المميز، مناخ الأزمات. على مستوى طرق الحياة إذن لن تتغير أشياء كثيرة. فالناس سيكابدون أكثر من أجل الاستمرار في العيش.

– هل يمكن القول إنّ الدولة عادت لتكون اللاّعب الأساسي في إدارة الأزمة؟

طبعا هذا ما يحدث ليس في تونس فقط بل في معاقل الرأسمالية. لكن هذه الدولة التي عادت منهكة ورثّة يتمسك الفقراء بتلابيبها وهي تكابد من أجل تلبية ما يطلبون. الدولة عادت بمرافق صحية شبه مدمّرة وأطباء دون حماية وعدد كبير منهم غادر البلاد. الحرب في زمن “الكورونا” باتت حرب كمّامات، أي حربا من أجل الوقاية كقيمة صحية، بعد أن كانت لعقود طويلة حربا من أجل امتلاك أسلحة نووية وسيطرة على العالم.  “كورونا” كحدث سياسي تُثبت أنّ عتاة الإيديولوجيا  النيوليبرالية الاقتصادية كانوا على خطأ وخطأ شنيع حين دافعو عن أطروحة استقلالية السوق في كلّ مناحي الحياة الاجتماعية وأنّ السوق يستطيع أن يعدّل ذاته بذاته. هذا هو الوهم إن لم يكن “يوطوبيا” فالاقتصاد لا يمكن فصله عن المجتمع. إنّ الاقتصاد هو في قلب الاجتماعي ودور الدولة هنا يغدو أساسيا. اُنظر ما يحدث في فرنسا وأمريكا. فالدولة هي من بقيت في ساحة الوغى، إذا ما اعتبرنا أنّ ما يحدث فعلا هو حرب (شخصيا لا أحبذ استعمال مصطلح الحرب ضد “الكورونا”).

وفي تونس الأمر نفسه. فقد دافع الاقتصاديون الليبراليون بشكل مستميت عن الخوصصة وتخلي الدولة اعتقادا منهم أنّ ذلك قد ينشّط الاستثمار ويخلق موارد شغل. اُنظر النتيجة جيش من العاطلين عن العمل ومرفق عمومي مريض. فإيديولوجيا النمو هي التي سيطرت في الثلاثة عقود الفارطة وتواصلت هذه الإيديولوجيا بعد الثورة. المشكلة الأساسية هو كيف نجعل من النمو تنمية ونقطع مع خيار النمو دون تنمية. وعندما أقول تنمية أقصد بنية تحتية جيدة في النقل، في الصحة، وفي التعليم. وتكون مبنيّة على قاعدة الحقوق الإنسانية، أي أن يكون للجميع الحق في الولوج إلى الصحة والتعليم والنقل والترفيه والتكنولوجيا دون أيّ وجه من أوجه التمييز.

ما حدث في تونس على مدى ثلاثة عقود هو تصاعد اللاّمساواة الاجتماعية والمجالية.

ومع ذلك يُطلب بكلّ صفاقة من التونسيين عبر بعض وسائل الإعلام الخاصة أن ينسوا قصة أنّ هنالك أقلية راكمت الثروات عبر التهرب الضريبي والاستفادة من الحوافز والتقرب من السلطة التي وفّرتها لها الدولة، وأنّ هنالك أغلبيّة تضرّرت من سياسات التقشّف. أين هي الطبقة المتوسطة مفخرة دولة الاستقلال؟ لقد اندثرت تقريبا. الدولة اليوم تعود لكن عودتها لا يجب أن تكون مؤقتة. بل في اتجاه استعادة دورها الاجتماعي. فالدولة كما يقول هيغل هي زهرة التاريخ البشري وهي أفضل ما أبدعت البشرية كي تُدير صراعاتها في إطار مدني يجب أن تكون وسيلة للتضامن وصناعة السعادة وليس أداة في يد أوليغارشية مالية.

– هل حان الوقت لمراجعة الخيارات والتوجهات في اتجاه منوال تنموي اجتماعي، تكون فيه الدولة المؤسسة الأولى في الرعاية الاجتماعية؟

طبعا وهذا ما يريده التونسيون وكلّ الأحرار في العالم. عندما ثار التونسيون ذات ديسمبر كانوا يطالبون بمزيد من الدولة، أي الدولة الاجتماعية لأنّ الدولة تحوّلت تحت وطأة توصيات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إلى دولة الحد الأدنى الذي يدير الفقر والبؤس ويعيد إنتاج الهشاشة. كان هذا يتمّ في ظلّ نظام ديكتاتوري ودون مؤسسات رقابة قوية، ممّا جعلنا نخوض تجربة ليبرالية منتجة للفساد. وهذه المزاوجة هي التي صنعت منذ منتصف التسعينيات القوى المالية المتنفذة حاليا. المشكلة التي نعيشها أننا لا نمتلك برجوازية بالمعنى الذي تبلور في الغرب الصناعي، أي كطبقة فاعلة في التاريخ ولها مشروع مجتمعي ونموذج ثقافي. نعم مراجعة النموذج التنموي ضرورة فضعف قدرتنا على مواجهة “الكورونا” هي متعلقة في جزء منها بالنموذج التنموي. هذه المراجعة يجب أن تقودها الدولة ليس على قاعدة توزيع الريع. فلا يجب أن نسقط في فخّ الدولة الريعية. نعم لدولة راعية وليس لدولة ريعية. عندما أقول دولة راعية بمعنى دولة الحماية التي تضمن للأفراد الأمان الاجتماعي وتخوّل للأفراد أوّلا الصعود في السّلّم الاجتماعي وأن يكونوا في أمان من كلّ المخاطر الصحية (الأمراض، الاقتصادية الطارئة (البطالة، فقدان الشغل). فبسبب النموذج التنموي المتّبع يعيش العديد من الأفراد حالة من عدم الأمان الاجتماعي، وجعل الطبقة المتوسطة تتدحرج في السلم الاجتماعي. وإذا استعادت الدولة دورها فيجب أن يكون على هذه القاعدة، أي قاعدة الحماية الاجتماعية.

  – حسب رأيكم، هل تعتقدون أنه من “مزايا” هذه الجائحة هو ردّ الاعتبار للعلماء والباحثين والصعود الكبير لمكانة الأطباء فى المجتمع ولدوائر البحث العلمى؟

صحيح، هذا يحدث على مستوى عالمي أيضا. فالإنسانية تقف في كلّ مرة أمام حقيقة أن لا خلاص لها من المحن ومن التهديدات التي تواجهها سوى بالعلم، أي بالعقل. ولكن في المقابل يجب أن يتخلّص العلماء من براثن منطق السوق والربح.

يجب أن تُعاد للعلم إنسانيته لأنّ اقتصاد السوق جرّده من ذلك وأخضعه لمنطقه.

سأعطيك مثالا، منظمة الصحة العالمية أصدرت تقريرا مهمّا سنة2018 ، حذّرت فيه من حدوث وباء قد تكون له آثار سيئة على الاقتصاد العالمي. طبعا هذا التقرير كلّ الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية لها علم به. لكن جلّها تجاهلته بدفع من شركات صناعة الأدوية التي تريد الاستثمار في أدوية التوقّي والاستعداد للأزمات الصحية الكبرى. فما يعنيها هو الاستثمار في العقاقير العلاجية المربحة وفق منطق العرض والطلب. علاوة على أنّ هذا البحث العلمي أُخضع لمنطق الشركات الكبرى وهو ما يضطرّ الباحثون والجامعات إنتاج بحوث حسب الطلب ووفق ما يقتضيه منطق المردودية والنجاعة وكل ما هو خارج عن هذا المنطق لا فائدة منه. كذلك فإنّ جلّ الدول الرأسمالية خفّضت من ميزانيات البحث العلمي في إطار سياسات التقشف. وهو ما جعل المشتغلون في حقول البحث العلمي في وضعية هشاشة مهينة (في فرنسا مثلا جلّ الباحثين يشتغلون بعقود محدودة المدة). في تونس الأمر أسوأ. فعلاوة على غياب بنية تحتية جيدة فإنّ التمويل يكاد يكون ضعيفا جدّا. وبعض المخابر في الجامعات ميزانياتها لا تتجاوز ثلاثين ألف دينار. والأمر لا يتعلق بقط بالعلوم الصحيحة بل بالعلوم الاجتماعية كذلك. ليس هنالك سياسة للبحث العلمي، ما يدفع بالباحثين إلى الهجرة أو العمل كخبراء مع شركات ومنظمات أجنبية من أجل مرتّب أفضل. وهذا يكون على حساب البحث العلمي وإنتاج المعرفة دون أن ننسى طبعا بطالة الدكاترة.

لكم كلمة الختام

أعتقد أنّ محنة “الكورونا” ليست المحنة الأولى التي تهدّد الوجود البشري. لكنّ المستجدّ هو كونها تحدث في عالم معولم، هي نتاجه في النهاية. عالم مترابط إزاء مجتمع شبكي. لهذا فالحلول لا يجب أن تكون فقط على مستوى محلي. بل تقتضي تضامنا عالميّا. فالعولمة الحالية ركّزت على التبادل الاقتصادي وفكّكت التبادل على أساس التضامن. لهذا أعتقد أنّ إعادة الاعتبار المطالبة بإعادة البعد الاجتماعي للاقتصاد يجب أن يقابله أيضا إعادة الاعتبار للتضامن العالمي لمجابهة هذه الكارثة. الإنسانية ليس لها من خيار سوى التخلي عن أنانيّتها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×