الرئيسية / صوت الوطن / محاولات جديدة للغدر بمسار العدالة الانتقالية
محاولات جديدة للغدر بمسار العدالة الانتقالية

محاولات جديدة للغدر بمسار العدالة الانتقالية

لن تتوقف القوى المعادية للثورة في السعي قدما نحو استعادة مواقعها التي كانت من خلالها تستعبد الشعب التونسي وتستغله وتنهب خيراته. وهي في ذلك تنوّع أشكال تدخلها لتحقيق ذلك فتتدخل أحيانا بوجه سياسي برلماني وأحيانا بوجه اقتصادي وأحيانا أخرى بوجه إعلامي دعائي يجيّش الجماهير ضد المسار الثوري ومخرجات العدالة الانتقالية. وتلك لا تخفي من جهة وحدتها ووحدة مصالحها ومن جهة لا تخفي عداءها لكل نفس ما زال ينادي باستكمال المسار الثوري الذي شوهته مساعي المكونات السياسية بسعيها نحو المواقع على حساب المبادئ.

وتُمثّل اليوم كارثة الوباء العالمي لفيروس كورونا فرصة لهؤلاء كي يواصلوا سعيهم الدؤوب لضرب أدنى المكاسب التي تحققت للشعب رغم قلّتها. ففي ظل عجز الدولة عن توفير الإمكانيات المادية والمالية لمواجهة هذا الوباء، وأمام ارتباك الحكومة الحالية في إقرار إجراءات “حربية” لجمع الموارد اللازمة، إلا بمزيد استنزاف جيوب السواد الأعظم من الشعب الذي يعاني أصلا أزمة مادية أمام ارتفاع نسب البطالة وارتفاع مشطّ في الأسعار، يخرج إلينا اليوم سياسيون ورجال أعمال وإعلاميون في ثوب الواعظ المرشد الناصح للحكومة باتخاذ مزيد من الإجراءات المجحفة ضد الشعب وفئاته المفقرة.

ويكفي أن نذكّر فقط بما يسعى إلى إقراره مثلا وزير الإصلاح الإداري من إلغاء لقصاصات الأكل الخاصّة بموظّفي الدولة والتّلويح بإمكانية تخفيض الأجور في الأشهر القادمة… والتي تتماهى مع موقف رئيس منظمة الأعراف “كوناكت” الذي دعا إلى عدم سداد أجور الموظفين خلال فترة الحجر الصحي. أضِفْ إلى ذلك سياسة الحكومة المتواصلة لمزيد إثقال كاهل المواطن بمزيدٍ من الاقتراض الخارجي عبر قرض جديد بقيمة تفوق الـ700 مليار دولار والتي ستنْضاف للـ 1100 مليار المطالبين بسدادها للبنوك الدولية هذه السنة فقط. والأدهى من كلّ هذا اتّكاء الحكومة والسياسيين ورجال الأعمال في كل هذا على جوقة منظّمة من إعلاميّين للترويج لهذه الإجراءات وتلميعها وتبريرها لدى الرأي العام، مُهدِّدين فيها الشعب إمّا بفرض هذه الإجراءات أو رفع الحضر الصحّي وبلغة أوضح، إمّا أن نموت جوعًا بفقرنا أو أن نموت مرضًا بالكورونا.

لم يكتفِ وُعَّاضُنَا بذلك فقط، بل نسمع في الأيام الأخيرة وشْوشة سيعلو صوتها بكلّ ثقة بعد أن تسري كتعليمة un mot d’ordre تحت الطاولة تنادي بإلغاء صندوق الكرامة وتحويل أمواله المرصودة لدعم مجهود الدّولة العاجزة عن مجابهة الوباء. وهم في ذلك يضخّمون قيمة استحقاق الصندوق ليُعلِنوا أنه يستوجب 1100مليون دينار. بل ويروّجون كوْن موارده متأتّية من الاقتطاعات الخاصّة بالضمان الاجتماعي ليصنعوا بذلك رأْيًا عامّا غاضبا من المنتفعين به. ولن يتْعب أو يتلعثم أصحابنا في تبرير هذا المطلب والدفاع عنه بدْءً بعجز الدولة ووجوب دعمها بكل الموارد المتوفّرة وصولا لتلك التبريرات القديمة المستجدّة في التهجّم على قرار إحداث الصندوق بل والتهجّم على مسار العدالة الانتقالية ومُخرجاته.

يبرز جيّدا من أين تصدر هذه المقترحات الخبيثة سياسيّا. فلئن كان ظاهرها إنقاذ الحكومة من أزمتها، فإن باطنه يُخفي غايتين دنيئتيْن:

1 – أُولاَها التغطية على الفساد الكامن في الدولة وفي الشبكة الاقتصادية في البلاد والتغطية على من يستغلون حتى الأزمة لمزيد نهب مقدرات البلاد والشعب، وهؤلاء صنفان:



أ‌- من كان يمثل المنظومة القديمة: ويكفي أن نذكر أن أسماؤهم محصورة ومعلومة حتى قبل الثورة في قائمات يتداولها الناس على شبكات التواصل الاجتماعي ونقصد بهم أولئك الذين تمكنوا من قروض بلا وجه حق من البنوك الوطنية دون ضمان ودون وجه حق ونهبوها ورفضوا سداداها إلى اليوم. أو أولئك الذين تضمّنتهم القائمة التي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة بصفتها قائمة رسميّة صادرة عن هيئة دستورية مؤقّتة بعد التّحقيق والتتبّع.

ب‌- من استثرى بعد الثورة وعلى أكتافها: أو من يُسمِّيهم عامّة الشعب بـ”الطرابلسية الجدد”. وهم الذين صعّدت أغلبهم الانتخابات بعد الثورة فاستغلوا نفوذهم السياسي لابتزاز ومشاركة المُفْسدين القدامى في جزء من ثروتهم.

ولم يكتفِ هؤلاء بتوظيف السّياسيين والإعلاميّين لتأبيد فسادهم وتعميقه بل نزلوا ميدان السياسة بأنفسهم فنراهم اليوم ممثّلين في البرلمان وفي الوزارات يشرّعون نهبهم وينفّذون قرارات تخدم مصالحهم لا غير على حساب جوع الشّعب وفقره. إنّ المهرّبين والمتهرّبين من دفع ضرائبهم والفاسدين صاروا همْ ساسة البلاد وقادتها وواضعي استراتيجياتها الاقتصادية والاجتماعية. أليسوا هم من أقرّوا قانون تبييض المفسدين تحت مسمّى “قانون المصالحة”؟ أليسوا هم من رفعوا الحضْر عن بعض المصادَرَة أموالهم والمجمّدة أرصدتهم بالبنوك الأجنبية؟ أليسوا هم أنفسهم من عطلوا استرجاع الأموال المجمدة بالبنوك الأجنبية وقدّموا ملفات منقوصة بشكل مفضوح وساخِرٍ كي لا يتمّ استرجاعها؟ أليسوا هم أيضا من يصرّ على تجاهل دعوات المجتمع السياسي والمدني للمطالبة باسترجاع الأموال المنهوبة من البنوك قبل الثورة؟ أليسوا هم من نهبوا مليارات الهِبَات الخارجية وأصرّوا على عدم التحقيق في مصير تلك الأموال؟

إن هؤلاء ما كان لهم أن يدركوا منالهم لو لم يتواطأ معهم بعض أنصار الثورة والمدّعين بأنهم حُماتها والسّائرون في ركْبها، من أجل بلوغ المناصب السياسية تحت شعارات برّاقة مثل “المصلحة الوطنية” أو “التّضامن الحكومي”… وهم من صَمّوا آذاننا في كل حملة انتخابية بشعارات “التصدّي لعودة فُلول النظام البائد” وشعارات “التصدي للفساد والمفسدين”… حتى بات مجرّد منتصب فوضوي، يبيع بعض لُعب الأطفال لسدّ جوع أطفاله، أخطر على البلاد من مهرِّبٍ على الحدود يهدّد الاقتصاد والأمن. وبات مجرّد موظف، أقصى طموحاته أن يكفيه أجره ليغطّي مصاريف عائلته الشّهري دون الالتجاء إلى التداين، شاةٌ تسلخها الدولة بالأداءات والاقتطاعات التعسّفية من أجل تعبئة خزينة الدولة، في حين تتمتّع فيه كبار الشركات والمؤسسات الاقتصادية بالامتيازات المالية والإعفاءات الضّريبية… فلا يختلف إثنان في كون هؤلاء الثورجيّين، خطابهم وقلوبهم معنا، وسيوفهم لا تنزل إلّا علينا.

وبإيجاز، فإنّ التهجّم على صندوق الكرامة ما هو إلّا إحدى البدائل التي يسعى المتنفِّذون الفاسدون لتمريره مثل تهجّمهم على أجور الموظفين وامتيازاتهم الشّحيحة وذلك لإلهاء الرأي العام عن الحلول الجذريّة والمنطقية لتعبئة موارد الدولة في حربها ضدّ الوباء.

2- أما ثانيها فهو الإجهاز نهائيا على مخرجات العدالة الانتقالية من خلال غلق الصندوق وقبْرِه نهائيا. فلئن كانت الغاية الأولى غاية تكتيكيّة مرحلية، فإن هذه الغاية تتأكّد بصفتها من الغايات الإستراتيجية العميقة من مقترحهم هذا. ولسنا بحاجة للتّذكير بما رافق مسار العدالة الانتقالية من تهجّم على “هيئة الحقيقة والكرامة” وحاول عديد المرّات تعطيل عملها وشيطنة لرئيستها – رغم اختلافنا معها في عديد الملفّات – وصل حدّ محاولة نصب خيام الاعتصام أمام مقر الهيئة. لكن ما يجب أن نُذكِّر به هنا هو تلك الإجراءات والقرارات التي تصدر كل مرّة عن السلطة التشريعية مجسدة في مجلس النواب حينا، وعن السلطة التنفيذية مجسدة في الحكومات المتعاقبة أحيانا أخرى، والتي تسعى لتعطيل قانون “التحكيم والمصالحة” بإسم مصلحة الدولة، في حين أنها أساليب خسيسة لمزيد ابتزاز مَن قَبِل بالتحكيم ممّن صودرت أملاكه وحوكم بتهم الفساد والاستثراء غير المشروع… تعطيل يسعى إليه من سميناهم سابقا بـ”الطرابلسية الجدد” ضد “الطرابلسية القدامى” بغاية الابتزاز من جهة، وتعطيل يسعى إليه “الطرابلسية القدامى” ضد “الطرابلسية الجدد” حتى لا يتمّ تعميم التجربة والقرارات على مصالحهم من جهة أخرى. وهم في ذلك “اختلفا فاتّفقا”، اختلفا في صراعهم حول من يتزعّم عصابة المفسِدين واتّفقا في أنّ الغنيمة من نهب خيرات البلاد ومقدّرات وأموال الشعب.

لا يمكن أن نفهم ونبسّط هذا الغموض المتشابك ما لم نقم بتفكيك العلاقة بين السياسي والاقتصادي. فمن يريد إنهاء فكرة الصّندوق أو في أدنى الحالات توجيه موارده لغير مستحقّيها هو في الأصل يسعى لتصفية مسار سياسي كامل للعودة بنا إلى ما قبل الثورة مع

تغيير طفيفٍ في القوى السياسية والعائلات الاقتصادية القديمة دون المسّ ولو شكلا من المنوال الاقتصادي المُتُّبع منذ خروج المستعمر العسكري من التراب التونسي. فصندوق الكرامة ما هو إلّا تجسيد لمرحلة جبر الضّرر المادي لضحايا الاستبداد البورقيبيّ والبنعلينيّ. وجبر الضّرر ما هو إلا مرحلة في سلسلة مترابطة من المراحل تبدأ بالمساءلة والمحاسبة وجبر الضّرر ثم المصالحة وطيّ صفحة الماضي.

وهو ما يُطلِق عليه الحقوقيّون في تجارب العالم التي عانت من الاستبداد بـ”مسار العدالة الانتقالية”. فالأمر إذًا ليس بِدْعة تونسية، رغم وجود خصوصيّة لكل تجربة، إلا أن هنالك توافُقًا على ترابط هذه المراحل والتي بدونها مجتمعة لا يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقيّ مهما بدا وجه العملية السياسية في البلاد ديمقراطيا. ولعل تواصل واستشراء الفساد وتعمّقه وتوسّعه في تونس على المستوى الاقتصادي يرافقه باستمرار تفشّي للفساد السياسي حتى في العملية الانتخابية (مال سياسي فاسد، شراء الأصوات، تزوير نتائج مفضوح في بعض الدّوائر…) وهو كلّه موروث قديم لم نقتنع بعد بضرورة التّخلّص منه للارتقاء بالبلاد إلى مستوى العدالة الاجتماعية المنشودة بين المواطنين.

من كل هذا نتبيّن أن هنالك تحالفا مقدّسا متشعّبا بين القديم والجديد والمخضرم، وبين السياسي والاقتصادي والإعلامي ضد مسار العدالة الانتقالية، وتحديدا ضدّ صندوق الكرامة بما هو تتويج لمسار العدالة الانتقالية والتغيير الديمقراطي العميق من أجل تأبيد الفساد والاستغلال الفاحش للشعب. وهذا ما يستوجب من كلّ القوى الديمقراطية التقدمية وكل القوى التي اكْتَوت من نِيرِ الديكتاتورية أن تُعيد قراءة اللّحظة السياسية للوعي بما يُحاك ضدّ المسار الثوري ومن ورائه المسار الديمقراطي.

مكرم الحجري

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×