الرئيسية / الافتتاحية / قرار “الحجر الموجه”: بين صرامة الشّروط العلميّة وضغط الأعراف وتفريط الحكومة
قرار “الحجر الموجه”: بين صرامة الشّروط العلميّة وضغط الأعراف وتفريط الحكومة

قرار “الحجر الموجه”: بين صرامة الشّروط العلميّة وضغط الأعراف وتفريط الحكومة

زياد بن عبد الجليل

قرّر رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة التمديد في الحجر الصحي الشامل لغاية 3 ماي وتطبيق “الحجر الموجّه” بعد ذلك التاريخ. وسبق هذا القرار جدل حول تمديد الحجر من عدمه انكشف فيه تذبذب موقف الفريق الحكومي، حيث أطلق وزير الصحة تصريحات إذاعية مبهمة وحتى متناقضة حول آجال الحجر وشروط رفعه. إنّ المتتبّع لهذا الجدل يعثر بسهولة على بصمة اتحاد الصناعة والتجارة في فرضه وتناوله بطريقة مشوهة قبيل انتهاء كل فترة حجر مقررة، حيث بادر رئيس جامعة البناء والأشغال في اتحاد الأعراف بالدعوة إلى التخفيف من الإجراءات الصحية والسماح بالنشاط في بعض القطاعات الصناعية الصغرى والمتوسطة والحرف وذلك منذ 3 أفريل، أي قبيل نهاية فترة الحجر الأولى (22 مارس – 5 أفريل)، ليكرر المكتب التنفيذي لمنظمة الأعراف دعوته إلى العودة التدريجية للعمل في كل القطاعات في “بيانه الانقلابي” يوم 15 أفريل، أي قبيل انتهاء فترة الحجر الثانية (6 أفريل -20 أفريل).

لقد كان دور الأعراف حاسما منذ البداية في الجنوح بالنقاش حول الأزمة الصحية من سياق تحليل أسبابها العميقة وبيان دور مختلف السياسات الليبرالية فيها، إلى سياق التعويم والتعمية والدعوة إلى الوحدة الوطنية، ثم تحويله إلى أداة ضغط وهرسلة إعلامية لفرض قرارات مبهمة من قبيل “الحجر الموجه” (لاحظ الظهور الاستثنائي للأعراف في الإذاعات والتلفزات منذ بداية الحجر)، بما يضمن لهم تواصل الإنتاج وتحقيق هامش من الربح رغم ما يمثله من تهديد لصحة أغلبية شرائح الشعب.

إنّ قرار التمديد في الحجر الصحي أو تخفيفه أو رفعه هو قرار سياسي خطير، على الدولة أن تتخذه استنادا إلى الشروط العلمية وإلى مبدأ ضمان الصحة للجميع، بعيدا عن ضغوطات الأقلية البورجوازية العميلة في بلادنا.

لقد توصلت أغلب الدراسات العلمية المنشورة حديثا إلى أنه لا معنى لرفع كلي للحجر الصحي دون اكتشاف لقاح أو دواء للمرض وتعميمه، وأنّ أقصى ما يمكن القيام به حاليا هو تخفيف جزئي لإجراءات الحجر الصحي إذا توفّرت الشروط التالية:

• تواصل تباطؤ ظهور الحالات الجديدة،
• انخفاض عدد المرضى في أقسام الإنعاش إلى ما دون طاقتها القصوى،
• تحسين جاهزية أقسام الإنعاش والفرق الطبية عددا وعدة،
• توسيع نطاق التحاليل المخبرية المرجعية بغاية حصر العدد الحقيقي للمصابين،
• التقصي السريع والناجع لمخالطي الحالات المؤكدة والمشتبه بها،
• العزل السريع للحالات المصابة والحالات المشتبه بها في مراكز العزل،
• إلزام الأفراد والمؤسسات بتطبيق ضوابط التباعد الفردي وإجراءات الوقاية في الفضاءات العامة وأماكن العمل
إضافة إلى هذه الشروط تؤكّد الدّراسات على وجوب اتّخاذ التدابير التالية:
• تخفيف الحجر بشكل تدريجي،
• فرض الحجر الصحي الشامل مرة أخرى بمجرد تسارع وتيرة ظهور الحالات الجديدة (كما يحدث في بعض مناطق من الصين الآن).

هذا ووجب التوضيح أنّ الشروط والتدابير المذكورة أعلاه لا تؤلّف مقاربة محدّدة لرفع الحجر بقدر ما هي شروط ضرورية لتقرير مبدأ تخفيف الحجر لا غير. كما نشدّد هنا أنّ منظمة الصحة العالمية حذّرت مؤخرا من التسرع في تخفيف الحجر الصحي الشامل بما أنّ ذلك سيتسبّب حتما في تسارع تفشّي الوباء وبالتالي مزيد تعكير الوضع.

إنّ المتتبّع لحوار رئيس الحكومة ينتهي إلى أنّ تخفيف الحجر ابتداء من 4 ماي لم يقرّر بالنظر إلى تحسّن الوضع الوبائي واستجابته للشروط المذكورة أعلاه بقدر ما كان استجابة لحاجيات أخرى لا علاقة لها بصحة التونسيين، حيث صرّح رئيس الحكومة في لقائه التلفزي أنّ الشركات المصدّرة كليا (أي الرأسمال الأجنبي المستقر في تونس) ستكون لها الأولوية في معاودة العمل. وفسّر هذه الأولوية بحاجة هذه المؤسسات إلى مجاراة عودة الإنتاج الصناعي في العالم بما أنها توفّر مكونات أساسية لصناعات كبرى. واستشهد بمثال صناعة السيارات. إنّ هذا التصريح يشي بأنّ العامل الحاسم في تقرير تخفيف رفع الحجر لم يكن إلاّ الاستجابة لحاجة رأس المال الصناعي الأجنبي الملحة لعودة الإنتاج في كل حلقاته الموزعة في العالم ومنها تونس، وأن لا علاقة لهذا القرار الخطير على صحة التونسيين بتحسن الوضع الوبائي في بلادنا وإقليمنا وبتحسن جاهزية منظومتنا الصحية. وكيف يكون ذلك والحكومة لم تقدر على توفير إلاّ 200 سرير إنعاش للحالات الخطرة كما صرّح “الفخفاخ” بذلك وهو نفس العدد الذي صرّح به في حواره التلفزي منذ شهر، ممّا يعني أنّ حكومته لم تنجح إلى اليوم في الرفع من جاهزية أقسام الإنعاش مقارنة ببداية الوباء رغم المساحة الزمنية التي توفرت لها. إضافة إلى ذلك، فإنّ مسالك التعاطي مع مرضى كوفيد-19 لم يقع التحكم فيها بعد بما يسمح بالمصادقة على نجاعتها. كما نلاحظ تفريط المنظومة الصحية في متابعة المصابين بالأمراض المزمنة والسرطانية وحتى في متابعة النساء الحوامل خلال فترة الحجر وتركهم فريسة للقطاع الربحي الخاص، ويعود كل ذلك في الحقيقة إلى عجز الدولة عن تسخير مؤسسات القطاع الخاص لصالح مرضى كوفيد-19 وبقية المرضى ذوي الحالات الحرجة وتخاذلها في تعبئة الموارد المالية اللازمة للمواجهة الوباء والرفع من جاهزية منظومة الصحة بشكل عام. كما أنّ الحكومة ما تزال مصممة على مواصلة اتّباع المقاربة الفرنسية والإيطالية غير الناجعة في تقصي عدد المرضى وذلك بالاقتصار على عدد محدود من التحاليل المرجعية يوميا، وهو ما لا يتناسب مع سرعة انتشار العدوى ولا يسمح بالتتبع الفوري للإصابات الجديدة وتقدير العدد الكلي للإصابات. ولا ندري من أين لرئيس الحكومة كل هذا الانطباع في تحكم منظومتنا الصحية في منحى تطور عدد الإصابات الجديدة وهوما لا يصمد أمام تذبذب عدد الحالات الجديدة يوميا وبالنظر لقلة التحاليل ولعدم احترام الحجر الصحي في عديد المناطق والأحياء. ثم إنّ رئيس الحكومة لم يذكر إذا كانت الدولة تنوي الرفع من طاقة مراكز العزل أم أنها ستكتفي بطاقة 7500 سريرا، التي لن تكون كافية لاستيعاب الحالات المصابة غير الحاملة للأعراض إذا ما تسارعت وتيرة ظهورها في المستقبل بسبب تخفيف الحجر. كما أنّ رئيس الحكومة لم يبيّن كيف ستلزم الدولة المؤسسات التي ستعود إلى النشاط بتوفير مستلزمات الوقاية الصحية خلال الحجر الموجّه، ولم يبيّن كيف ستراقب الحكومة ضوابط التباعد الفردي في المؤسسات والفضاء العام، وهي التي لم تنجح في إدارة الحجر الصحي ولم تقم بمراقبة بعض المؤسسات الخاصة التي رخّصت لها وزارة الصناعة في النشاط خلال الفترة الأخيرة. ثم إنّ رئيس الحكومة ومحاوريه لم يتعرّضوا لما سترصده الدولة من مساعدات للشرائح الاجتماعية التي تنشط في مهن وقطاعات متعارضة مع ضوابط التباعد الفردي أو التي ستتأثر بانكماش الأنشطة المرتبطة بالنقل والتبادل الخارجي.

الواضح أن لا رغبة للفريق الحكومي في تناول مسألة رفع الحجر من زاوية علمية بقدر رغبتها في التعمية على الأسباب الحقيقية لتخفيف الحجر وذلك باستعراض أشباه الإنجازات من قبيل التعجل في صنع ملايين الكمامات (وما يرافقها من شبهات فساد) أو استيراد مئات الآلاف من التحاليل السريعة (مختلفة عن التحاليل المرجعية)، والتي لا قيمة لها تذكر في تطويق الوباء ما دامت معطيات الوضع الوبائي لم ترتق إلى الشروط المذكورة أعلاه. لقد كشف لنا رئيس الحكومة من حيث لم يدر أنّ المحدّد في تخفيف الحجر هو الضغط الذي مارسته البورجوازية العميلة على الدولة لفرض العودة إلى العمل حتى يلعبوا دورهم كحرس للرأسمال العالمي في الحلقة التونسية داخل دورة الإنتاج المعولمة. وهنا ينكشف لنا أنّ قبول الأعراف منذ أيام قليلة بدفع جزء من أجور العمال لشهر أفريل “كتسبقة” لم يكن إلاّ بضمان أنّ أجور شهر ماي لن تُدفع إلى العمال إلاّ وهم في مصانعهم.

إنّ مقاربات رفع الحجر متعددة ومتنوعة حسب الدراسات العلمية. وهي تتراوح بين الرفع التدريجي للحجر في كلّ البلاد بنفس الوتيرة، وتقسيم البلاد إلى أقسام جغرافية حسب وضعيتها الوبائية وعزل هذه الأقسام عن بعضها وتخفيف الحجر فيها بوتائر مختلفة، مرورا بتخفيف الحجر عن شرائح ديمغرافية معينة دون أخرى أو بالتداول الزمني في تخفيف الحجر بين “مجموعات من العمال والموظفين” لضمان تواصل حدّ أدنى من الإنتاج الاقتصادي دون التفريط في صحة المجتمع. إنّ تعدّد هذه المقاربات المقترحة يعود إلى تنوع السياقات والظروف التي جاءت فيها. فهل ضبطت الحكومة مقاربتها “للحجر الموجّه” استنادا إلى استقراء نتائج المحاكاة الرياضية لمختلف الفرضيات الممكن تطبيقها فعليا في بلادنا؟ وهل حرصت على إدماج كلّ المعطيات المتوفرة صحيا وديمغرافيا واجتماعيا واقتصاديا وإقليميا في هذه المحاكاة؟

إننا نشكك في ذلك لأننا لا نرى بعدُ أثرا لأيّ منشور علمي لفريق تونسي عمل على فرضيات “الحجر الموجّه”، ممّا يجعلنا نشك في أنّ التعاطى مع مقاربة تخفيف الحجر سيكون بمنطق التقليد الأعمى وبهاجس تسريع سرعة الإنتاج وليس بالإستناد إلى مقاربة علمية وواقعية غايتها التحكم في وتيرة ظهور الحالات الجديدة.

وفي الخلاصة وبالنظر إلى عدم استقرار الوضع الوبائي وقلة المعطيات حوله، وإلى ضعف جاهزية المنظومة الصحية في تونس، وإلى ضبابية مقاربة الحجر الموجّه المذكورة، فإننا نعتبر أنّ تخفيف الحجر ابتداء من 4 ماي لا يستند إلى حجج علمية صلبة. بل يمثّل تفريطا في صحّة العمّال وعموم التونسيين لصالح الرغبة المحمومة للرأس مال الأجنبي وللبورجوازية العميلة في العودة إلى الإنتاج سريعا واستغلال هشاشة الوضع لتحقيق أقصى هامش من الربح، ممّا سيكون له نتائج وخيمة على الوضع الوبائي في تونس.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×