الرئيسية / صوت المرأة / إلى اللّاتي أرضعننا حبّ الوطن والانسان، كلّ عيد وأنتنّ نبراسنا المُلْهِم
إلى اللّاتي أرضعننا حبّ الوطن والانسان، كلّ عيد وأنتنّ نبراسنا المُلْهِم

إلى اللّاتي أرضعننا حبّ الوطن والانسان، كلّ عيد وأنتنّ نبراسنا المُلْهِم

مديحة جمال

في عيد الأمّهات اتّصلت بصديقة تعدّ قوالب كعك لذيذة، وطلبت منها ان تعدّ قالب كعك أنيق تكتب فوقه “أمّي يا ملاكي” بينما قلبي كان يواصل نشيده “يا حبّي الباقي إلى الأبد”… فكرة ما جعلت من قالب الحلوى هديّة مناسبة في هذه السّنة، شيء ما جعله يبدو لي أجمل من شالٍ أو فستان أو حتّى آلة من آلات المطبخ، ريشة ما رسمت أمامي عينا أمّي وابتسامتها الدّافئة بينما تدخل عليها أختي بقالب الحلوى الذي أرسلته لها رغم بعد المسافة و”معتقلات الكورونا”، سمعت قلبها مرّات ينطُّ فرحا وكانت هذه الخيالات تكفي لأنتظر يوم الأحد بكلّ شغف.

إلّا أنّ ذلك الشّغف خفت اليوم، يوم واحد يفصلنا عن عيد الأمّهات، أتذكّر أمّي وهي تستفيق كل يوم قبل الفجر تجهّز فطور أبي ثمّ توقظنا لنجتمع على طاولة فطور الصّباح طاولة مليئة بالحبّ والخيرات والبدايات الحَنونة ليوم سعيد كنّا نلتهم الفطائر السّاخنة، الكرواسون الطّازج، نشرب الحليب أو القهوة بينما تتنقّل بيننا باذِخة العطاء والحنان تستجيب لطلباتنا كملاكٍ جميل.

سنوات مرّت كبرت فيها وفهمت أن بداية اليوم السّعيد التي تحرص أمّي على كتابتها بأجمل خطّ في الدّنيا ليست سوى بداية يوم آخر من الأشغال التي لا تنتهي بالنّسبة لها وبينما أكتب هذا النّصّ بكلّ عاطفة كدت أن أكذب عليكم وأخبركم إنّني بدأت أتقاسم معها ذلك العبء في الحقيقة كنت أشفق عليها فأعينها على غسل الملابس أو تنظيف الصّحون أو طبخ الغداء في ذلك الزّمن كنت أشعر أنّني أقوم بعمل بطولي، أمّا اليوم فأنا أستحي من كل تقصير تجاهها في يوم ما. وأتساءل من أين جاءتْها كلّ تلك القوّة وذلك الصّبر العظيم حتّى تضع حياتها جانبا وتسخّر كلّ وقتها لنا بلا مقابل مادّي ولا انتظار شكر أو ثناء، تُسْعِدها تفاصيلنا الصّغيرة كازدياد طول شعرنا ونعومته، تفوّقنا في الدّراسة، امتلاء قلبنا بالحبّ بينما كان يقتلها حزننا أو ألمنا مهما كان صغيرا، تسهر اللّيل تحرسنا من قرصات الناموس إلى أن يعييها إبعاده عنّا بشالها الذي يرفرف فوق أحلامنا كراية وطن قويّ حصين منيع؟

وبينما تتالى ذكرياتي المتعلّقة بأمّي تتالت ذكريات أخرى وجوه أمّهات أخريات حفرن بالقلب مكانا وبالذّاكرة أسبابا أخرى قويّة للنّضال ضدّ كلّ السياسات اللاّوطنيّة: أتذكّر الآن وجه زعرة السّلطاني “خنساء جبل مغيلة” أمّ الشهيدين مبروك وخليفة السّلطاني، زعرة الملاك المقطوع الجناحين. زعرة التي احتفظت برأس ابنها مبروك السّلطاني المذبوح من طرف مجموعة إرهابية في ثلّاجة البيت لتفجع بعد عامين في إبنها الثاني خليفة السّلطاني الذي اختطفته أربع عناصر إرهابية بينما كان يرعى أغنامه لتنتهي هذه العمليّة الغادرة بذبحه أيضا وبين الذّبح الأوّل والذّبح الثاني لم تحصل زعرة سوى على وعود زائفة من حكومات متعاقبة لم تغيٍّر شيئا في دوّار السّلاطْنِيّة بجبل المغيلة إلى اليوم سوى مزيدٍ من التّهميش ومزيد من التّفقير.

أتذكّر أيضا أمّ التّلميذة مهى القضقاضي التي جرفتها مياه أحد الأودية بمنطقة البطّاح فرنانة من ولاية جندوبة تلك القمم الشّامخة من جبال خمير أراها كلّ يوم تعبر طريق إبنتها إلى المدرسة تضع خطوتها فوق خطوة فلذة كبدها وتصرخ بصوت يردّده صدى موجع “ليسقط طريق الموت”.

أراها تمسك بين يديها لمبة محروقة زيّنتها إبنتها بالألوان المائية وعلّقتها في كوخهم المنسيّ قبل أن تُنسى من حكومات تتالت بوعودٍ زائفة ولم تعبّد فرسخا واحدا من تلك الطريق، رامية بكل التلاميذ الآخرين في نفس “طريق الموت” تاركة إيّاهم في غفلة عن مياه جارفة أخرى ولوحشيّة التّفقير والتّهميش.

أتذكّر أمّ جريح الثّورة خالد بن نجمة تتحدّث في هيئة الحقيقة والكرامة عن معاناتها بعد إصابة إبنها العامل اليومي أصيل مدينة “راس الجبل” الذي أصيب بالرّصاص يوم 13 جانفي 2011 والذي لم تتحمّل الدّولة أي مسؤوليّة فعليّة من أجل معالجته ولا أيّة مسؤوليّة حقيقيّة من أجل مساعدتها على الاعتناء بإبنها الجريح وزوجها المريض بالسّرطان والذي سيتوفّى لاحقا قهرًا على إبنه الذي فقد القدرة على المشْيِ، أمّ خالد بن نجمة التي تتنقّل كلّ يوم طيلة ستة أشهر من “راس الجبل” إلى بنزرت ثّم إلى تونس العاصمة، فباب عليوة ومن ثمّ إلى زغوان إلى جبل الوسط، حتّى تتابع حالة إبنها بواسطة وسائل نقل عمومية. وكلّنا يعرف وضعيّة النقل العمومي في البلاد، إذ لو كانت الحكومة آنذاك حكومة وطنيّة حقا لوفّرت لها وسيلة نقل تقلّها بكلّ كرامة هي أهلٌ لها.. أتذكّر بكاءها وهي تطلب من التونسيّين سماع قصّة إبنها، خالد بن نجمة الذي بعد أن وعدوه بإرساله إلى ألمانيا للعلاج أرسلوه إلى “عناية أمير قطريٍّ” لم يمنّ عليه هو والجرحى الآخرين سوى بالأكل والشّرب في متاجرة رخيصة بآلام جرحى الثورة واستحقاقاتهم، أتذكّر حديثها الحارق عن خذلان الحكومة الثاني حين رفضوا إرسال خالد إلى فرنسا للعلاج بعد إتمام كلّ الإجراءات المتعلّقة بذلك وارساله بدل ذلك إلى المنستير ليكون، حسب شهادته، “فأر تجاربٍ” تجرَّب عليه عمليّة صعبة هي الأولى من نوعها في تونس، عمليّة كُلِّلت بالفشل وبآلام أخرى مضاعفة في استهتارٍ واضح بسلامة جرحى الثورة ومعاناتهم وتعب مضاعف ووجع عميق لأمّ الجريح.

أتذكّر سنية أمّ نذير القطاري صامدة بظهرٍ تتالت عليه الطّعنات من أخبار قتل إبنها المفقود وعينان أذبلتهما الدّموع وأرهقتهما مشاهدة فيديوهات يحتمل أن يكون إبنها إحدى ضحاياها.. ومن منّا لا يذكر تصريحها الموجع بإحدى القنوات التّلفزيّة حين قالت معقّبة على اتّصال وزارة الخارجيّة بها لإعلامها بتصفية كلّ من إبنها نذير القطاري ورفيقه سفيان الشّورابي “وِلْدي حيْ ما ماتشْ …نعرِفْ وجه ولْدي… نعرف بْدنْ ولدي.. نعرْفو بالعظمْ ونعرفو بالصّانْتي ونعرفو بالصّبُعْ ونعرْفو بالظّفرْ وبكلْ شيء، ولدي انّجّم نطلْعو ..ولدي فيه سبعة شْهاوي..”

سنية التي حملت كفن إبنها في يدها مطالبة الدّولة بجثّة إبنها إن قُتِل حتّى تدفنه بيديها متحدّية بذلك حكومات تتهرّب من ملف الصّحفيَّيْن المفقودين وتحاول في كلّ مرّة غلقه بإعلان مقتلهما دون دليل واضح.
إنّ قصّة سنية أم نذير القطاري هي قصّة مئات النّساء التّونسيّات الثّكالى الملتاعات من فقدان أبنائهن خاصّة في عرض البحر المتوسّط: أبناء ترى فيهم الحكومات المتعاقبة مجرّد أرقام ضمن مئات المفقودين، بينما تكتوي أفْئدة الأمّهات انتظارا ورجاءً بلقاءٍ قريب بفلذات أكبادهنّ أو حتّى بدفن جثثهم في قبر يزُرْنه قد يخفّف من ألمهنّ وحرقتهنّ وعذابهنّ.

وإنّ معاناة والدة جريح الثورة خالد بن نجمة هي معاناة كلّ أمّهات جرحى الثّورة الذين لم تلتفت إليهم الحكومات المتعاقبة ولم تنصفهم، ومعاناة أمّهات شهداء الثّورة اللاّتي “حْفِت ساقيهِمْ” بين أروقة المحاكم طلبا للعدالة وحقيقة “القنّاصة”.

وإنّ معاناة أمّ مها القضقاضي هي معاناة آلاف النساء الأمّهات الكادحات في المصنع والأرض والمحجر من أجل غد أفضل لأبنائهنّ ضحايا الإقصاء والتّهميش وسياسات تنمويّة لفائدة جهات بعينها دون أخرى.

وإنّ زعرة السّلطاني هي قصّة أمّهات فقدن أيضا أبنائهنّ وبناتهنّ على يد الإرهاب الغادر أو في شبكات التّسفير إلى سوريا وباقي بؤر التّوتّر.

أمّي .. أمّهات كلّ الشّهداء… أمّهات كلّ ضحايا التّفقير والتّهميش …أمّهات كلّ جرحى الثّورة …أمّهات كلّ المفقودين… في عيد الأمّهات هذا، تقبّلوا منّي ومن كلّ التّونسيين الأحرار قُبلة على جبينكنّ الشّامخ، وإنّا نقول لكنّ: كلّ عيد وكلّ يوم وأنتنّ أمّهات الوطن وأسباب قويّة للنّضال من أجله والذّوْد عنه سواء ضدّ الإرهاب الغادر أو إزاء كلّ السياسات والخيارات اللاوطنية واللاشعبيّة للحكومات المتعاقبة.

أختم وأقول: إنّ اكرام الأمّهات في عيدهنّ هو إتمام المسار الثّوري وتحقيق مطالب الثّورة: إلى الثّورة…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

5 × 5 =

إلى الأعلى
×