الرئيسية / صوت الوطن / أي أفق للحراكات الشعبية والقطاعية؟
أي أفق للحراكات الشعبية والقطاعية؟

أي أفق للحراكات الشعبية والقطاعية؟

علي البعزاوي

كل القطاعات والفئات الشعبية تتذمّر من غلاء المعيشة والبطالة وتردّي الخدمات الصحية والتربويّة والبلدية وغيرها.أاوضاع البلاد تردّت كما لم يحصل من قبل. فما إن تخطّينا، من حسن حظّنا، خطر الجائحة وخطر حصول ما حصل في عديد الدول من خسائر بشرية كبيرة، حتى وجدنا أنفسنا أمام واقع جديد أكثر سوء وأشدّ وطأة من الوضع السابق.

العشرات من المؤسسات أغلقت أبوابها وسرّحت عمالها، والنُّزل تنتظر سيّاحا قد لا يأتون رغم المسارعة بفتح الحدود أمام حركة المسافرين تحت ضغط لوبيات الاقتصاد والسياحة، وقطاع فلاحيّ مهمّش من طرف الدولة، ومؤسّسات صغرى ومتوسطة تستغيث، وفساد هنا وهناك، والحكومة تتوعّد بخفض الأجور والزيادة في الأسعار وسدّ الباب أمام التشغيل وتحسين ظروف العمل، وقطاعاتٍ تنظّم الإضرابات أو تتهيأ لذلك، واتحاد الشغالين يحاول ليّ العصا في يد حكومة مرتهنة لإملاءات صندوق النقد الدولي ومنحازة لحفنة من كبار السماسرة.

سؤال جوهري..

إن السؤال الأساسي هو البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى تأزّم الوضع في وقت وجيز وأصبحنا على شفا الكارثة.

البعض أطنب في الحديث عن الفساد الذي يضرب البلاد طولا وعرضا محاولا الإيهام بأنّ الفساد هو سبب استفحال الأزمة. والبعض الآخر يتحدّث عن شحّ الاستثمارات وتعطّل بعث المشاريع بسبب التّجاذب السياسي داخل أطراف المنظومة التي تحثّ الخطى للبحث عن تمويلاتٍ وقروض ومساعدات مقابل إطلاق آيات الولاء والتبعيّة لهذا الطرف أو ذاك في انتهاكٍ واضح للسّيادة الوطنة التي لم تعد تعني شيئا بالنسبة لها. فهذا يبايع قطر وتركيا ويدافع عن مصالحها محاولا جرّ الجميع إلى هذا المربّع بدعوى المصلحة الوطنية، والآخر يرتمي في أحضان فرنسا ويعتبر الاستعمار مجرّد حماية ويستجدي المساعدات والقروض، والآخر يهاجم قطر وتركيا بهدف التشويش على مصالحهما في “الإيّالة التونسية” لصالح السعودية والإمارات بحثًا عن مزيد الدعم للوصول إلى الحكم والانفراد بالسلطة.

أمّا الشعب المسكين الذي يتملّكه الخوف من مزيد تدهور أوضاعه المتدهورة أصلا فيسعى إلى رفع صوته عاليا ضدّ ما يتهدّده من مخاطر، مؤثّثًا الإضرابات والاحتجاجات والاعتصامات وقطع الطرقات أمام حركة المرور في محاولات جديّةٍ لفرض تنازلات على السلطة من أجل حقّه في حياة كريمة.

أمّا النخب السّياسية فكلٌّ يتهيأ على طريقته ومن زاويته لاستثمار الأزمة لصالحه من مطالب بـ “الاصلاحات” وتحمّل الحكم لمسؤولياته في إنقاذ البلاد بكل ما في ذلك من أوهامٍ حول إمكانية وجود حلول في ظلّ المنظومة الحالية، إلى متحاملٍ على حركة النهضة باعتبارها رأس حربة المنظومة وأحد عناصر إفلاسها السياسي والاقتصادي والاجتماعي محاولا الإقناع بضرورة توحيد “الطّيف الحداثي” ضدّها من أجل عزلها معتبرا ذلك مدخلا حقيقيّا لحل الأزمة، والحال أن الحداثيين والظلاميّين و”الديمقراطيّين” يشكّلون اليوم ائتلافا موحّدا يحكم البلاد ولكن أحوال الشعب لم تتغيّر، بل ازدادت سوءً.

خيارات اقتصادية واجتماعية بديلة هي مفتاح الحل

إن الفساد، كظاهرة موضوعية، مدمّر للاقتصاد لا محالة وتفشّيه خاصة في مؤسّسات الدولة من شأنه المساهمة في إضعاف المجهود التنمويّ وشلّ حركة الاستثمارات التي تبحث عادة على مناخات ملائمة.
كما أن التجاذبات داخل أطراف المنظومة والتي أخذت طابعًا شرسًا وعدائيا في العديد من الأحيان، وانعدام الاستقرار، من شأنها أيضا إرباك الحياة الاقتصادية ومزيد دهورة الأوضاع.

لكن الفساد على خطورته وغياب الاستقرار داخل أطراف المنظومة على أهميته، لا يشكّلان السبب الرئيسي للأزمة التي لم تبدأ مع انتصاب المنظومة الحالية. فالشعب التونسي عاش في العهدين البورقيبي والنوفمبري أوضاعا مأساوية قادت في 1987 إلى انقلاب بن علي على بورقيبة لإنقاذ منظومة الاستبداد والاستغلال والتبعيّة وتأمين مصالح البورجوازية الكبيرة العميلة وتوّجت في 14 جانفي بإسقاط الدكتاتورية .

الفساد وغياب الاستقرار منتوجٌ طبيعي لمنظومة رأسمالية تابعة لا علاقة لها بمصالح الشعب وأهداف الثورة لأن خياراتها منحازة طبقيّا لصالح حفنة من كبار الرأسماليّين وأذرعهم الخارجيّة من مؤسسات مالية وشركات عملاقة ودول خطّطت على الدوام للالتفاف على ثورة الشّعب التونسي.

إن البلاد بحاجة إلى خيارات اقتصادية واجتماعية بديلة، مستقلّة على كل أشكال التبعيّة والارتهان للمؤسّسات المالية النهّابة ترتكز على القطاعات الاستراتيجيّة من فلاحة وصناعة وبنية تحتيّة وخدمات أساسية, خيارات مُنتِجة للثروة وموجّهة لخدمة الحاجيات الأساسية للشعب وضامنة للشّغل والعيش الكريم للأغلبية المفقّرة التي ظلّت تعيش على الهامش سواء قبل الثورة أو بعدها, ومكرِّسة للسّيادة الوطنية والعدالة الاجتماعيّة بين الفئات والجهات.

إنه برنامج “الديمقراطية الشعبية” المختلف جذريّا على السّياسات النيوليبرالية المتوحّشة التي انتهجتها كلّ حكومات ما بعد 14 جانفي، هذه الخيارات الوطنية والشعبية الخادمة للأغلبية على حساب الأقلية المافيوزية – على نقيض ما هو موجود حاليا- بحاجة إلى إطار سياسي جديد عماده السّلطة للشعب الذي ينتخب ممثّليه بكلّ حرية ودون إكراهات، وله حقّ متابعتهم ومحاسبتهم وسحب الثّقة منهم عند الاقتضاء مع حقّه المطلق في المشاركة في صياغة القرارات وسنّ القوانين بما في ذلك قوانين الماليّة التي تضبط الموازنة العامّة للدولة وتحدّد الخيارات.

الدّيمقراطية الشعبية التي عِمادها السلطة للشعب والسّيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية في قطيعةٍ تامّة مع منظومة التبعيّة والاستغلال والفساد، وهي الضّامن للاستقرار والحياة الكريمة للأغلبية والسيادة على الثروات الوطنية وكلّ مقدرات البلاد، إلى جانب الديمقراطية الواسعة.. الديمقراطية الشعبية التي تتناقض جذريّا مع الديمقراطية الشّكلية الحالية التي تُختَزل في تنظيم انتخاباتٍ كلّ خمسِ سنواتٍ لاختيار من يرهن البلاد ويجوّع شعبها ويغنم من ثرواتها.

الشّعب التونسي بحاجة إلى هذه النقلة النوعية, إلى الجديد المختلف جذريا, الشّرط الضروري للقطع مع الفقر والتّهميش والتبعيّة والفساد والاستغلال.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

اثنان + ثلاثة =

إلى الأعلى
×