الرئيسية / صوت الوطن / الشّعبويّة في تونس: قيس سعيّد ومؤيّدوه
الشّعبويّة في تونس: قيس سعيّد ومؤيّدوه

الشّعبويّة في تونس: قيس سعيّد ومؤيّدوه

بقلم: حمّه الهمامي

أعلنت منذ مدّة أنّني سأنشر في صفحات “الشارع المغاربي” سلسلة من المقالات تتناول الوضع السياسي العام ببلادنا وأهم التيارات المتصارعة فيه. وبادرت بنشر مقالة أولى بعنوان “الصراع الدستوري/الإخوانجي: الوجه والقفا”. وكان من المفروض أن أنشر المقال الثاني في العدد الموالي من الجريدة وأتناول فيه موضوع التيار الشعبوي الذي أصبح يحتل مكانة بارزة في المشهد ناهيك أنه وصل، إثر انتخابات خريف 2019، إلى قصر قرطاج في شخص الرئيس قيس سعيّد. ولكنني عدلت عن ذلك في آخر لحظة لأعود إلى موضوع المقال الأول أي الصراع “الإخوانجي/الدستوري” لما أثاره من ردود فعل لدى فئة من الناس رأت في الدعوة إلى موقف مستقل عن هذين الطرفين المتصارعين سلوكا “خاطئا” مدعية أن السلوك “الأسلم” يفترض التحالف مع “الدستوري الحر” للتخلص من “حركة النهضة” أولا. وقد بينا خطورة هذا الموقف الأخرق الذي لا يرى أصحابه في أنفسهم إلا أذيالا لهذا الطرف من الرجعية أو ذاك بدعوى التكتيك دون أن يمعنوا النظر في الرؤى والبرامج والممارسات ودون أن يجرؤوا أيضا على التعويل على أنفسهم وعلى الحركة الاجتماعية والشعبية لاحتلال موقع مستقل في المشهد السياسي.
ولمّا هممت بكتابة المقال الموالي الخاص بالشعبوية في تونس جاءت أزمة حكومة الفخفاخ واستقالتها ثم تكليف هشام المشيشي بتشكيل الحكومة الجديدة وعرضها لنيل الثقة على البرلمان. وقد شغل ذلك الرأي العام لفترة تقارب الشهرين مما جعل من غير المناسب كتابة مقال قد لا يجلب اهتمام المتابعين للشأن العام. ولا أخفي أنني سعدت كثيرا بتأجيل الخوض في موضوع التيار الشعبوي ببلادنا. فخلال الأسابيع الأخيرة تكاثرت خاصة تصريحات قيس سعيد ومواقفه من العديد من القضايا الداخلية والخارجية وهو ما يخفف من الطابع التجريدي لما كنت سأكتبه قبل هذه التصريحات والمواقف ويكسب استنتاجاتي وأحكامي قوة أكبر. هذا من جهة ومن جهة أخرى فلئن كان قيس سعيد بالنسبة إلي هو العنوان الأبرز للتيار الشعبوي التقليدي، الزاحف حاليا في العديد من مناطق العالم، فإنه من الخطأ حصره فيه هو فقط. فقد كانت هذه المدة وما شهدته من أحداث في مجلس النوّاب وخارجه كافية لإقناعي بضرورة توسيع تناول التيار الشعبوي في بلادنا ليشمل على الأقلّ كلا من “ائتلاف الكرامة” و”قلب تونس” لما أصبح لهما من تأثير في الحياة السياسية.
إن الشعبويّة وإن كانت لها، من الناحية النظرية المجرّدة، بعض الخواص العامّة التي تميزها وتجمع بين مختلف تلويناتها وأشكالها، فهي في الواقع “شعبويات” من حيث تنوع الخطاب والأساليب والتوجهات والسياقات القومية والتاريخية والثقافية التي تندرج فيها، وعليه فإنه لا يمكن حصر الشعبوية، بأي شكل من الأشكال، في نمط واحد وهو ما جعل غالبية أهل الاختصاص (الفلسفة السياسية، علم الاجتماع، علم التاريخ الخ…) الذين اهتموا بالموضوع، يتحدّثون عن الشّعبويّة بالجمع لا بالمفرد. ومن هذا المنطلق فإنّني أعتبر أنّه إذا كان “ائتلاف الكرامة” يمثّل نوعا من الشعبويّة “الدينيّة السّلفيّة” فإنّ “حزب قلب تونس” يمثّل نوعا آخر من الشعبويّة “الاجتماعيّة”. وبطبيعة الحال فلكلّ من هاتين الشعبويّتين خواصّه. وعليه فقد ارتأيت تخصيص مقالين للموضوع. وستكون البداية، كما وعدت، بمقال حول قيس سعيّد وتياره الشّعبوي، لأخصّص المقال الثّاني لـ”ائتلاف الكرامة” و”حزب قلب تونس”.
فما هي ظروف بروز التيّار الشّعبوي لقيس سعيّد؟ وما هي خواصّه العامّة؟ وكيف تعاطى مع الواقع السّياسي والاجتماعي والثّقافي للبلاد بعد عام من وصوله إلى رئاسة الجمهوريّة؟ وما هو مستقبله في تونس في ضوء التطوّرات المحتملة للأوضاع المحليّة والإقليميّة والدوليّة؟ هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال.
الشعبوية نتاج لأزمة بلا حلّ ثوري عقلاني
ما من شك في أن قيس سعيّد يمثل اليوم في تونس نسخة محلّيّة من االشّعبوية التي تكتسح اليوم العديد من بلدان العالم بما في ذلك البلدان الرأسماليّة الأساسيّة وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكية التي يتزعّمها رئيس شعبوي، دونالد ترامب. ومن الملاحظ أنّ الحديث عن الشّعبويّة في تونس لم يصبح مكثّفا وحاضرا بشكل مستمرّ على لسان الإعلاميّين وأهل الاختصاص إلا بعد انتخابات خريف 2019، أما قبل ذلك فقد كان الحديث عن الشعبوية عرضيا وفي الغالب للإدانة أو التهكّم أو الاستنقاص دون أي تحليل أو تدليل، إلى أن صعد قيس سعيد، خلافا للتوقعات، إلى الرئاسة بعد دور ثان خاضه ضد نبيل القروي، مقابل إزاحة كل الوجوه السياسية المعروفة أو إن شئنا “القديمة” بمختلف توجهاتها. وعلى غرار كل الشّعبويّين الحاليين في العالم فإن قيس سعيّد اتّخذ من “الشّعب يريد” أو “الشّعب يعرف ما يريد” أو “الشّعب يقرر ما يريد” محورا رئيسيا لخطابه المناهض “للسيستام” بنخبه السياسية والإعلامية والثقافية والاقتصادية والإدارية “الفاسدة” و”العاجزة” الخ… ولكن قبل الخوض في مضامين خطاب قيس سعيد لابد من العودة، حتى نفهم الظاهرة، إلى الظروف التي حفّت بوصوله إلى دفة الرئاسة، وهي ظروف لا تختلف على العموم عن الظّروف التي حفّت بصعود رؤساء دول أو رؤساء حكومات في أروربا وأمريكا وآسيا الخ…
لقد تغذّى التّيار الشّعبوي في تونس، شأنه شأن كل التيّارات الشعبويّة في العالم، من أزمة “الديمقراطية التمثيلية”. فقد تمكّن الشعب التونسي من إسقاط الدكتاتورية في ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011. ولكنّ القوى البورجوازيّة الليبراليّة و”الإسلاموية” تمكّنت من تعطيل مسار هذه الثّورة وحصرها في تغيير شكل السّلطة التي مرّت من الدكتاتورية إلى الدّيمقراطية التمثيليّة دون المساس بمصالح البورجوازيّة الكبيرة العميلة التي تمكّنت من التكيّف مع الوضع الجديد واحتوائه. لقد سيطرت هذه البورجوازية على المشهد السّياسي بأحزابه ومؤسّساته من برلمان وحكومة ورئاسة ومجالس بلديّة وغيرها من المؤسّسات. كما أنّها سيطرت على المشهد الإعلامي، السّمعي والبصري والمكتوب الخ…وهكذا استفاق الشعب التونسي الذي حلم بالتغيير على أحزاب حاكمة تتصارع من أجل الغنائم، وعلى برلمان تسيطر عليه لوبيات الفساد والمافيات وعلى حكومات ضالعة في بيع البلاد وفي نهبها وتفقير الطبقات والفئات الكادحة والشعبية وعلى إعلام جلّه مأجور يصعّد من يريد ويُنزِلُ من يريد ويبثّ ثقافة شطرها ظلامي وشطرها الآخر منحطّ ومستهتر بأدنى القيم الأخلاقية التقدمية والديمقراطية والوطنية.
وفي كلمة فقد استفاق الشّعب على أحزاب حاكمة ومؤسّسات تمثيليّة ومسؤولين في الدولة ووسائل إعلام لا علاقة لهم بمصالحه بل هم في تضادّ معه وبمعزل عنه وعن مشاغله، بل استفاق على ديمقراطيّة متعفّنة، ديمقراطيّة جوع وبطالة وتهميش وتفشّ غير مسبوق للجريمة وغياب للأمن وتفاقم للمخاطر الإرهابية وانعدام لأية مرجعية أخلاقية وقيمية ودوس على الكرامة الوطنية وتطبيع مع الكيان الصهيوني وتملق على أعتاب أنظمة الخليج وحاكم تركيا الحالم باستعادة “المجد العثماني”. وهو ما عمق الهوة بين نظام الحكم وبين قطاعات واسعة من الشعب وخاصة الشباب والفقراء المعدمين الذين أصبحوا يرون في مؤسسات الحكم، وهم على حقّ، بؤر فساد ونهب لمقدرات البلاد غريبة عنهم غرابة تامة. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحدّ، فالفئات المتضرّرة لم تكن ترى حلاّ في الأفق للأزمة المتفاقمة. لقد غاب البديل السّياسي الاجتماعي الثّوري، العقلاني الذي يحفز الهمم ويبعث الأمل ويلفّ حوله أوسع الطبقات والفئات الكادحة والشعبيّة وخاصّة الشّباب المهمّش والمفقّر. إن الجبهة الشعبية التي جمعت قوى اليسار الماركسي والقومي وطيفا من غير المنتظمات والمنتظمين انحلّت بعد سبع سنوات من الوجود إذ أنها أصبحت غير قادرة على التعبئة بسبب ضبابية الخط السياسي وغياب الاستراتيجية والتكتيك الواضحين وضعف التنظيم وطنيا وجهويا ومحليا وقطاعيا وعدم تجاوز جلّ المكونات العادات الانعزالية المقيتة، مما جعل الجبهة تتذبذب طيلة سنوات بين الموقف الجذري، الثوري من منظومة الحكم والموقف الإصلاحي، المهادن وهو ما أدّى إلى تعطّلها وتراجع تأثيرها وتخلّي جزء واسع من قواعدها عنها.
لقد استغلّ التيّار الشّعبوي بقيادة قيس سعيّد هذا الوضع، بمظهريه الموضوعي والذاتي لإطلاق النار على النظام السياسي الحالي، “السيستام”، بمرتكزاته الدستورية والقانونية ومؤسساته وأحزابه ورموزه، والتركيز على أنها لا تمثل الشعب بل معزولة عنه ولا تخدم مصالحه بل مصالح فئات متنفذة وفاسدة داعيا إلى تجاوزها. وقد استخدم قيس سعيد في كل ذلك خطابا فضفاضا يتوجه إلى الغريزة والعاطفة أكثر من التوجّه إلى العقل. ومن جهة أخرى فقد استخدم أنصاره، شأنهم شأن كل التيارات الشعبوية في العالم، “وسائل الإعلام البديلة” أي الشبكة الاجتماعية التي تجمع فئات واسعة من “ضحايا السيستام” بهدف جرهم شيئا فشيئا وراء قيس سعيد الذي خلقوا حوله نوعا من “الأسطورة” فهو الرجل “النظيف”، “الأستاذ”، “العالم”، “المتعفف”، المتزهد”، الذي لا يتكلم إلا الفصحى والذي لم يتورط مع النظام السابق (وهذا ليس صحيحا إذ أن قيس سعيد كان قريبا من نظام بن علي ولم يدل يوما بموقف فيه نقد أو معارضة) ولا مع منظومة ما بعد سقوط الدكتاتورية، (وهذا ليس صحيحا أيضا فقد استُشِير في الدّستور وناصر الاتّجاه الدّاعي إلى جعل الشّريعة مصدرا من مصادر التّشريع بما يخالف أسس الدّولة المدنيّة الديمقراطيّة). ومع أنّ قيس سعيّد لم يحصل في الدّور الأوّل للانتخابات إلاّ على 620.711 صوتا وهو ما يمثّل أقل من 10 في المائة من عدد التونسيات والتونسيين ممّن هم في سنّ الانتخاب و18.40 في المائة من الأصوات المصرّح بها (3.372.746) فقد حالفه الحظّ في الدّور الثّاني بأن وجد نفسه في مواجهة نبيل القروي، الملاحق قضائيّا من حكومة يوسف الشاهد، من أجل الفساد، وهو ما دفع العديد من الناخبات والناخبين إلى الذّهاب إلى صناديق الاقتراع لا اقتناعا بقيس سعيّد وإنّما لسدّ الباب أمام منافسه. كما أنّ معظم الأحزاب اتجهت، لحسابات سياسويّة، انتهازية إلى الدّعوة إلى التّصويت لقيس سعيّد.
مشروع قيس سعيد ومؤيّديه خلال الانتخابات
إنّ قيس سعيّد هو المرشّح الوحيد، تقريبا، في العالم الذي وصل إلى دفّة الرئاسة وهو يقول للناخبات والناخبين إنه “لا برنامج ولا وعود له”، بحجّة أن الناس ملّت البرامج والوعود الفارغة وكأنّ فشل مختلف الحكومات والرئاسات والبرلمانات المتعاقبة في تحقيق مطالب الشعب التونسي يعفي قيس سعيد المرشّح من أن يكون له برنامج ووعود يلتزم بتحقيقها ويبين من خلالها أنه مختلف عن غيره في المضامين وفي الأسلوب. وفي هذا السياق فقد ظل قيس سعيّد يردّد بعض الشعارات وهي تقريبا “الشّعب يريد، الشعب يعرف ما يريد، الشعب يقرر ما يريد” وهي نقل حرفي، لا جديد فيه، لما يردّده الشعبويون في أوروبا وأمريكا وتركيا وغيرها مع فارق واضح وهو أنّ الشعبويين الآخرين يضعون على الأقلّ مضامين لتلك الشعارات ويقدمونها على أنها “إرادة الشعب”(أوربان في المجر، ترامب في أمريكا، أردوغان في تركيا ….) أما قيس سعيد فشعاراته خاوية بلا مضامين عدا بعض الإشارات إلى النظام السياسي، المجالسي، الذي يبشّر به. فهو يردد أنه سيقيم “الديمقراطية المباشرة”، ومثله مثل سائر الشعبويين وخاصة من أهل اليمين المتطرف (مارين لوبان الفرنسية الخ…) يضع هذه الديمقراطية، بشكل انتهازي، في تضارب مع حرية التنظّم وحرية الإعلام وبعبارة أخرى فهو يستغلّ أزمة الديمقراطية التمثيلية البورجوازية لا لتجاوزها في اتجاه تعميق الديمقراطية وتوسيعها لتكف عن أن تكون ديمقراطية شكلية لصالح كبار الرأسماليين والاحتكاريين، بل لضرب الديمقراطية أصلا أوّلا في قاعدتها وهي الحرّية وثانيا في ركيزتيها الأساسيتين وهما الانتخاب والتمثيلية اللتين تتحقق من خلالهما السيادة الشعبية.
ولكن ديمقراطية قيس سعيد المباشرة لا ترقى، حتى من الناحية المفهومية العامة، لأن تشكل نظاما سياسيا واضح المعالم. فقد قدّم هو وجماعته تصورهم لإعادة تنظيم السلطة بالدعوة إلى ما أسموه “التّأسيس الجديد” الذي يقوم على انتخاب ممثّلين عن الشّعب على الأفراد في أصغر الدوائر الانتخابية (العمادات) يشكّلون لاحقا مجلسا محليا في مستوى المعتمدية ثم يتولى كل مجلس محلي اختيار (بالانتخاب أو القرعة) أحد أعضائه ليصبح نائبا في المجلس الجهوي (الولاية). كما يتولى كل مجلس محلي اختيار (بالانتخاب أو القرعة) أحد أعضائه ليمثله في المجلس النيابي الوطني، مع العلم أن كل نائب يمكن سحب الثقة منه بناء على طلب 10 بالمائة من الجسم الانتخابي المحلي. أما الرئيس فينتخب مباشرة من الشعب وهو الذي يتولى تعيين وزير أول لتشكيل الحكومة.
وكما هو واضح فإن هذا الطرح الذي يقدم على أنه توسيع للديمقراطية إنما هو خال من الديمقراطية أو هو قائم على ديمقراطية مشوّهة. فهو يحصر الانتخاب الشعبي المباشر في المرحلة الأولى فقط أي في مستوى العمادة أما بالنسبة إلى ما تبقى فبالتعيين أو الانتخاب غير المباشر حتى بلوغ المجلس الوطني، وبالتالي فإن الشعب سيجد نفسه أمام أعضاء مجلس وطني لا علاقة مباشرة له بهم. وبالمقابل فإنّ الرّئيس هو الوحيد الذي سيكون منتخبا بالاقتراع الوطني المباشر. وهو ما سيجعل منه الفاتق، الناطق، “الرئيس الوحيد للدولة الوحيدة”. أضف إلى ذلك أنّه هو الذي سيعيّن رئيس الحكومة وعبره أعضاء الحكومة الذين لن يكونوا منتخبين. وبهذه الصورة فإنّ الرئيس، الوحيد “المنتخب” من الشّعب، سيتحوّل مباشرة إلى حاكم فردي مطلق والشعب إلى “قطيع” باعتباره هو الذي يمثّله ويعبر عن إرادته. وبالطبع فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو ماذا ستفعل الحكومة إذا كان كل “مجلس محلّي” يحدد “ما يريد”؟ وكيف سيكون تنظيم القضاء والإدارة والأمن والجيش؟ كيف ستكسب هذه المؤسسات طابعها الشعبي والديمقراطي؟ وكيف ستؤدي مهامها الوطنية؟ إن السرّ عند “الرئيس”، فهو الذي سيحدد كل ذلك باعتباره “الأستاذ” و”المعلم” و”الملهم” والعارف بـ”خفايا الأمور” ولن يكون ذلك بالضرورة سوى عودة إلى حكم الفرد في صيغة جديدة تذكرنا كما قيل عديد المرات بحكم الجماهيرية في ليبيا حيث كان الحاكم الفرد “الاستثنائي” يتخفى وراء “حكم الجماهير” التي تسير وراءه وتؤيد كل خطوة يقوم بها.
وبالطبع فإن قيس سعيد ومؤيديه لا يكشفون بوضوح عما سيفعلونه بالحريات والحقوق إذا “تجاوزوا” الديمقراطية التمثلية الحالية المتعفنة. ولكن بعضهم المقرّب من سعيّد، لا يخفي، في بعض تدويناته، أن ديمقراطيته المباشرة “ستتجاوز دروشة “حرّيات، حرّيات” وبخور البرلمانات وحروز الأحزاب اللي ما تلزمناش”. وهو ما يتوافق ما ردده قيس سعيد حول نيّته في حلّ الأحزاب وإلغاء الانتخابات وحلّ المؤسسات التمثيلية الاخ… وحتى عندما حوصر من الإعلاميين فقد أجاب أن الأحزاب ستنحل بطبيعتها ضاربا لذلك موعدا بعد عشرين سنة. كما أنهم لا يخفون طابعهم المحافظ كلما تعلق الأمر بالمساواة بين الجنسين وبالحريات الفردية، ولا يخفي البعض منهم بأن “ما يهمه اليوم هو الجانب الاقتصادي الاجتماعي” لتغطية ذلك العداء للحريات والحقوق وهو ما سيبرز لاحقا بشكل واضح عند قيس سعيد فيما يتعلق بقضية المساواة بين النساء والرجال. وإلى ذلك فقد تجنب قيس سعيد الخوض في مسألة العنف الساري في المجتمع (تفاقم الجريمة وخاصة جرائم القتل والاغتصاب والبراكاجات …) والإرهاب ومنابعه وامتداداته الإقليمية والدولية والاغتيالات السياسية التي طالت قيادات الجبهة الشعبية وعددا هاما من الأمنيين والعسكريين والمدنيين ولم يقدم خطة لمواجهة الظاهرة وكشف خفاياها في بلادنا. أما بخصوص القضايا القومية والدولية فقد اكتفى قيس سعيد بترديد شعار “التطبيع مع الكيان الصهيوني خيانة عظمى” ولم ينبس ببنت شفة حول طرق ووسائل مواجهة هذه الخيانة وسنرى في القسم الثاني ماذا كانت مواقفه من مسألة التطبيع ومن عديد القضايا الإقليمية والدول الأخرى حين وُضع على المحكّ خلال سنة من الحكم.
تغيير شكل السلطة
دون تغيير المضامين الاقتصادية والاجتماعية
وبطبيعة الحال فإنّ السؤال الذي يطرح وجوبا هو التالي: ما هي الخطة الوطنية الاقتصادية التي سيقوم عليها هذا النظام الشعبوي؟ وهنا نصل إلى نقطة مفصلية يتهرّب من طرحها قيس سعيد ومؤيّدوه وهو ما يبيّن خواء حديثهم عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية “للشعب” وكلامهم عن الوقوف إلى جانب “الفقراء والمعطّلين عن العمل والمهمّشين”. إن الشعبويين، كل الشعبويين اليمينيين في العالم، لا يستهدفون في خطابهم إلا الأشكال الفوقيّة للنظام الرأسمالي (أشكال الديمقراطية الليبرالية) ولا يستهدفون قاعدته المادية (أي سلطة رأس المال) ولا يطالبون بتجاوزها فالشيء الوحيد الذي تجاوزه الزمن في رأيهم هو المؤسسات التقليدية للديمقراطية الليبرالية وليس المجتمع البورجوازي ككل المؤسس على الملكيّة. وهنا تكمن المغالطة الكبرى، فقد بيّنت التجربة في الولايات المتّحدة وفي أوروبا الشرقيّة وفرنسا وإيطاليا والبرازيل أنّ سلطة رأس المال لم يقع المساس بها في ظلّ حكم الشعبويّين، بل وقع تعزيزها كما تعدّدت أشكال الاعتداء على مكاسب الشغّالين وحقوقهم الاجتماعيّة من الطغم الماليّة المتعفّنة.
وفي تونس يقصر شعبويّونا حديثهم عن تجاوز الأشكال السياسية التقليدية (أحزاب، برلمان، زعامات الخ…)، لا تجاوز النظام البورجوازي بقاعدته الاقتصادية والاجتماعية أولا وأساسا باعتبار ذلك شرطا لتحقيق سلطة الشعب، فلا كلمة بخصوص الهيمنة الاستعمارية الجديدة على بلادنا ولا على نمط ملكية وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة وبالتالي لا كلمة بخصوص تغيير أسلوب الإنتاج الرأسمالي النيوكولونيالي الذي تجاوزه حقا الزمن ولم يعد له ما يقدم إلى الطبقة العاملة وإلى مختلف الطبقات والفئات الكادحة الأخرى وكذلك إلى الفئات الوسطى سوى الدمار والخراب ومزيد المآسي. إن شعبويينا يجهلون أو يتجاهلون أن إقامة “ديمقراطية الشعب” بدل الديمقراطية الليبرالية المتعفنة والمتأزمة تبقى وهما بل مغالطة كبرى إذا لم ترتبط بتغيير القاعدة المادية للمجتمع ولم تصبح ثرواته ملكا لهذا الشعب حتى يكون حقا صاحب السلطة الفعلية.
ومن هنا فإن السؤال الذي يطرح على قيس سعيد ومؤيديه هو التالي: ما هو برنامجهم لمواجهة تعطل قوى الإنتاج في المدينة والريف؟ ما هو برنامجهم لإنقاذ البلاد من الهيمنة الاستعمارية الجديدة في مختلف المجالات (المديونية، الاتفاقيات غير المتكافئة…)؟ ماذا يطرحون على الطبقة العاملة التي تكدح وتنتج ويذهب معظم ثمرة عملها إلى أصحاب رأس المال المحليين والأجانب؟ وماذا يطرحون على جيش العاطلين عن العمل الذي يمثل ثروة مهدورة؟ وماذا يطرحون أيضا على الفلاحين الفقراء والصغار في الأرياف؟ ما هي خطتهم للنهوض بالفلاحة التونسية وتعصيرها لتحقيق الاكتفاء الذاتي؟ ما هي خطتهم لتصنيع تونس وتطويرها ومن أين سيأتون بالموارد لتحقيق هذا التصنيع؟ عن أي منظومة جبائية سيدافعون؟ ما هو برنامجهم لتعصير التعليم والصحة والنقل وتوفير السكن اللائق للجميع؟ وما هي خطتهم للتصدي للمخاطر البيئية التي تهدّد بلادنا والعالم؟ وكيف سيتعاطون مع الأزمة الأخلاقية والقيمية التي تنخر المجتمع الخ…
إنّ هذه الأسئلة لا يمكن الجواب عنها بشعار: “الشّعب يريد وهو يعرف ما يريد”. إنّ الشّعب ليس كتلة متجانسة كما يقدمه قيس سعيد، بل هو مكوّن من طبقات وفئات اجتماعيّة لكل منها مصالحه ومطالبه الخاصة. وإلى ذلك فإن الشعب ليس كتلة مجردة، صافية الوعي، بل هو كتلة واقعية، لها وجود في المكان والزمان، تشقها مختلف الأفكار بما فيها الأفكار الرجعية والمتطرفة. وثمة فرق بين الواقع الموضوعي للشعب وما يتطلبه من تغييرات جذرية وبين وعي الشعب بذلك التغيير. فمن هو هذا الشّعب الهلامي الذي يتحدّث عنه قيس سعيّد زاعما أن له “فكرا سياسيا جديدا”؟ وما ذا خصّص لمختلف طبقاته وفئاته؟ أم أن الشّعب الذي يتحدّث عنه هو شعب مجرّد يتماهى مع الصورة التي يحملها عنه في ذهنه والتي لا علاقة لها بالواقع؟ إنّ دورَ أية قوة سياسية جدية تدعي الدفاع عن مصالح الشعب، يتمثل في استيعاب واقع هذا الشعب بصورة ملموسة والبحث فيه عن المشترك من المصالح وصياغته في برنامج وطني وفي برامج خصوصية، فئوية وتحديد الطريق لتحقيقها في مواجهة الأقليات الكمبرادورية والمافيات المحلية العميلة. وهنا تثار بحدة مسألة الوعي والتنظيم، فما من طبقة أو شعب أو أمة في التاريخ نجحت في تحقيق التحولات الضرورية لنهوضها دون وعي (رؤية، برنامج الخ…) وتنظيم ودون ثورة حقيقية تقلب العلاقات الاجتماعية رأسا على عقب وتسمح للطبقة الثائرة من الاستيلاء على السلطة السياسية والاقتصادية (امتلاك وسائل الإنتاج…) وهو ما لا علاقة له بالشعارات الفارغة التي يطرحها الشعبويون من قبيل “الشّعب يريد” أو “الشعب يعرف ما يريد”…
وخلاصة القول إن قيس سعيد وجماعته يشوّهون، مثلهم مثل كل الشعبويّين في العالم، الديمقراطية المباشرة التي أبدعها العمال والكادحون في ثوراتهم سواء في فرنسا أو في روسيا القيصرية أو في الصين أو في بلدان أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. فهم أولا يفرغونها من محتواها الطبقي العمالي الشعبي ويحولونها إلى وعاء شكلي ليضعوا فيه ما يريدون. وهم ثانيا يقيمون بينها وبين الحريات والحقوق الفردية والجماعية جدارا بل يستعملونها ذريعة بدعوى أن الشعب يحكم مباشرة ولا حاجة له بالأحزاب والجمعيات والمنظمات ولا بوسائل الإعلام وغيرها من وسائل التعبير لضرب تلك الحريات وإقامة منظومة استبدادية جديدة باسم “الشعب”. ومن هذا المنطلق فإن معارضتهم “للسيستام” جزئية، ولا معنى لها بل إنّ قيس سعي ومؤيّديه لا يختلفون في هذا الباب عن باقي شعبويّي العالم. إن التيّارات الشعبويّة في العالم، تتميّز، بثلاث خواص: الأولى هي أنّها تهاجم “السيستام” الذي تقصره على شكل الهيمنة السياسية لطبقة رأس المال وتحديدا الديمقراطية التمثيلية وليس المضمون الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي لهذه الديمقراطية. والثانية هي أنها تصل إلى الحكم عبر “السيستام” الذي تهاجمه أي عبر الآلية الانتخابية والثالثة هي أنها ما أن تصل إلى الحكم حتى تستعمل “السيستام” من فوق وبضغط من تحت لتغييره واستبداله بسيستام لا يختلف عن السابق إلا بكونه أكثر تسلطا وقمعا وهو سيستام يناسب مصالح رأس المال منفلت العقال أو بالأحرى غلاة رأس المال في زمن الأزمات.
ولكن ما هو حال قيس سعيد وشعبويته عاما بعد وصوله إلى الحكم؟ كيف تصرّف مع الأحداث ومع مطالب الشّعب والقضايا الأخرى العربيّة والإقليميّة والدوليّة؟ ذاك ما سنتطرّق إليه في القسم االثاني من هذا المقال.
نشر بجريدة الشارع المغاربي
29 سبتمبر 2020

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×