الرئيسية / أقلام / الإفلات من العقاب يخرّب المسار الانتقالي في تونس
الإفلات من العقاب يخرّب المسار الانتقالي في تونس

الإفلات من العقاب يخرّب المسار الانتقالي في تونس

بقلم الفاهم بوكدّوس

1        إنّ 195 حالة انتهاك من جملة 325 ضدّ إعلاميّين حصلت في الفترة بين أكتوبر 2012 وسبتمبر 2013، وعشرات الاعتداءات المماثلة ضدّ نشطاء حقوقيين وسياسيين ونسويّين ومتظاهرين عاديين تستوجب حسب المرسوم 115 المتعلّق بحرّية الصحافة والطباعة والنشر وحسب المجلّة الجزائيّة عقوبات في حقّ مرتكبيها. لكن نادرا ما أمرت النيابة العموميّة بفتح تحقيقات في بعض الانتهاكات،      وفي أغلب الأحيان تبقى شكاوى المنتهكين طيّ الأدراج في المحاكم وفي مراكز الشرطة رغم تدعّمها بشهادات طبيّة وشهادات شهود وبتواصل ظهور آثار الاعتداءات على أجسام البعض.

إنّ سيلا من التّهم في الأوساط الإعلاميّة والقضائيّة والحقوقيّة والسياسيّة مازال يلاحق جهاز النيابة العموميّة بالتستر والتواطؤ في متابعة ملفات الاعتداءات، وترى أنّ  تبعيّته لسلطة وزير العدل تُعزّز المخاوف من استعماله في ضرب النشطاء والمتظاهرين والإعلاميين والتنكّر لمبدأ حمايتهم، وهو ما قوّى مخاوف المنتهكين في فقدانهم لسند أساسي في حماية الحريات.

وتوجّه الاتهامات بالتوازي إلى الأجهزة الأمنيّة التي كثيرا ما تتقبّل شكاوى أو يُفترض أن تقبض على معتدين متلبسين. ويذهب كثير من المحلّلين إلى أنّ جهازا يُمارس أكثر الاعتداءات على الإعلاميين         والنشطاء لن يكون نظريّا وفيّا لمبدأ حمايتهم، هذا إذا لم يكن شريكا في التحريض أو حماية “ميليشيات” على الاعتداء على صحافيين  ومواطنين كما حصل يوم 09 أفريل 2013 بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة.

إنّه في العديد من الجهات عُرفت عناصر بملاحقة الإعلاميين والنشطاء أثناء التحرّكات الجماهيريّة في وجود قوات الأمن، يُشار إليها أنّها محميّة أو مهابة من قبل الأمنيّين.

ويتحمّل الإعلاميون والنشطاء والمتظاهرين أنفسهم جزء من المسؤولية في حالة الإفلات من المساءلة حيث أنّ هناك ضعف في الوعي بالمسألة يرتبط سواء باستبطان وضع حالة حرية التعبير طيلة فترة الديكتاتوريّة أو باعتبار الانتهاك أمرا عرضيّا يدخل في الحسابات اليوميّة، في حين يعتقد آخرون أنّ العدالة غير قادرة على حمايتهم محاججين بمقولات عن عدم مسايرة القضاء لمتطلبات المرحلة الانتقالية ومُقدّمين أمثلة عن فشل العديد في تتبّع المعتدين عليهم. كما أنّ جزء من ضحايا الاعتداءات يستنكفون عن تقديم شكاوي سواء خوفا من انتقام جلاّديهم أو أصدقائهم، أو لاعتقادهم أنّ شأن المتابعة يخصّ السلطة التنفيذيّة والقضائيّة دون غيرهما انطلاقا من واجب السّلطة في حمايتهم.

ويُساهم أصحاب المؤسّسات الإعلاميّة والتّنظيمات السّياسيّة والمهنيّة في تكريس هذا الواقع حين لا يولون اهتماما جديّا بالاعتداءات التي تطال منتسبيهم ونادرا ما تمّ تكليف محام بمتابعة الأمر، بل أنّهم يرون ما يطالهم شأنا شخصيّا بحتا وفي أقصى الحالات يعتبرون متابعة الملف من اختصاص المنظّمات الحقوقيّة.

كما أنّ المحامين أنفسهم يقصّرون في الأمر حيث يقتصر تدخّلهم في أغلب الأحيان أثناء إجراءات التّقاضي في حين أنّ الموضوع يستحقّ كثيرا من الجهد أثناء البحث الابتدائي لمنع أيّ محاولة لإغلاق ملفّات الشّكاوي أو التهاون في التّحقيق فيها.

لقد كان طرح مسألة المحاسبة والمساءلة جزء أساسيّا من خطاب حكومات ما بعد الثورة، كما تواتر إصدار بيانات وإعلان تصريحات قويّة في أغلب حالات الاعتداء على صحافيّين ومبدعين وسياسيّين ونقابيّين تمّ التّذكير فيها بعلويّة القوانين والتأكيد على معاني التعايش والحوار، كما أعلنت عديد لجان التحقيق الرّسمية والإداريّة في ملفات اعتداءات على حريّة التعبير.

2غير أنّ هذا الخطاب شابته العديد من الثغرات التي قلّلت من صدقيّته ونجاعته إمّا لأنّه تعويميّ تمّ ربطه في أغلب الأحيان بالعدالة الانتقالية وقوانينها وإجراءاتها بما هي مسار قد يتطلّب سنوات لحسمه، أو تهوينيّ يُسارع بإجراء مقارنات بين انتهاكات الماضي وانتهاكات الحاضر للتقليل من اعتداءات مرحلة ما بعد الثورة على اعتبار أنّها عرضيّة وفرديّة، أو تبريريّ سواء عبر اعتماد نظريّة التّجاذب السّياسي والاجتماعي أو عبر ترتيب أولويّات دولة ما بعد الثورة مثلما عكسه تصريح وزير الثقافة الأسبق المهدي المبروك في الندوة الوطنية حول العنف المنتظمة طيلة يوم 15 سبتمبر 2012 بوزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية بباردو لمّا أكّد أنّ ” الثورة ليست استحقاقات اقتصادية واجتماعية فحسب، بل هي استحقاقات ثقافية ومجتمعية، لكن قضية البطالة والاستثمار تصدّرت اهتمامات الحكومة لذلك تراجعت مكانة الاستحقاق الثقافي الأمر الذي دعّم العنف في الفضاءات العمومية التي يفترض أن تكون فضاءات للتعبير والحوار”. أو تحريضي عبر إرجاع جزء من الاعتداءات في حقّ الإعلاميين والمبدعين إلى “عدم احترام لأخلاقيات المهنة” و”سوء فهم لمعنى الحريات واستعمالها للتّحريض على الدولة ومؤسّساتها أو الإعتداء على الأخلاق العامّة والمقدّسات”.

وجاء تصريح رئيس الحكومة السابق علي العريض في الذكرى الأولى لأحداث 09 أفريل 2012 ليضرب في العمق الخطاب الرسمي المناهض لظاهرة الإفلات من العقاب لمّا أعلن إغلاق الملفّ معتبرا   أنّ “وزارة الداخليّة تقدّمت بكافة التفاصيل لكلّ من طالب بها”، في إشارة إلى اللّجنة المشرفة على التحقيق في الأحداث صلب المجلس الوطني التأسيسي ومشيرا إلى أنّ “الوزارة تعاملت مع مسيرة 2012 في إطار القانون والشفافيّة”، وموضّحا “عدم وجود جرحى أو قتلى خلال تلك الأحداث، باستثناء الاعتداء بالعنف على أحد أعوان الأمن”. ومؤكّدا أنّ ” من يُواصل الحديث عن الملفّ، تحكمه اعتبارات سياسيّة ضيّقة”.

ورغم أنّ نور الدين البحيري المستشار السياسي السابق لدى علي العريّض قد قلّل يوم الأربعاء 10 أفريل 2013  من حجم هذا التصريح معتبرا أنه يُقصد منه إغلاق التحقيق بوزارة الداخليّة وليس إغلاق الملف ككلّ، مشيرا إلى أنّ الملف باق بيد لجنة مستقلة بالمجلس الوطني التأسيسي، غير أنّ عدم العودة لطرح الموضوع وإعلان نتائجه يصبّ في جوهر تصريح علي العريّض ويُعزّز المخاوف من عدم وجود إرادة سياسيّة في مواجهة ظاهرة الإفلات من العقاب جعل البعض يذهب إلى التأكيد على أنّ العقليّة التي قادت إلى غلق الملف يمكن أن تدفع أيضا إلى “التخلذي عن قانون العدالة الانتقالية ونسيان التّعذيب الذي تعرّض له المعارضون السياسيّون على أيادي النّظام السّابق”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×