الرئيسية / أقلام / السّياسة الماليّة لحكومة جمعة: سياسة الهروب إلى الأمام
السّياسة الماليّة لحكومة جمعة: سياسة الهروب إلى الأمام

السّياسة الماليّة لحكومة جمعة: سياسة الهروب إلى الأمام

 بقلم الأستاذ محمود مطير

200برزت حكومة جمعة للوجود بداية سنة 2014 على إثر “اتّفاق” مغشوش في إطار ما سمّي “بالحوار الوطني” وذلك للخروج من المأزق الذي وقعت فيه حكومتا الترويكا الانتقاليّتان تبعا للفشل التام على المستوى الأمني والاقتصادي والاجتماعي.

وكان من المفروض أن تلتزم الحكومة الجديدة بما جاء في خارطة الطريق المتّفق عليها بين الفرقاء السياسيين وتهتمّ بالمسائل الأمنيّة وتهيئة الظروف المناسبة للانتخابات وأساسا تحييد الإدارة من جهة (وذلك بمراجعة التّسميات الحزبية) وتحييد المساجد (وذلك بإبعاد الأئمّة المنصّبين)، ومن جهة ثانية الاهتمام بالموضوع الاقتصادي والاجتماعي واتخاذ الإجراءات الاستعجالية الضرورية. غير أنّ الحكومة الجديدة واصلت السياسة القديمة للحكومات السابقة دون أدنى فرق يُذكر.

لقد أقرّ رئيس الحكومة الجديد الصعوبات الاقتصادية والمالية خاصّة. وكنّا نعتقد أنّ هذا الإقرار وهذه المصارحة بجزء من الحقيقة سيؤدّي إلى اتّخاذ الإجراءات المناسبة. إلاّ أنّ الحكومة الجديدة واصلت سياسة الاعتماد على الاقتراض الخارجي وهي تُعِدّ العدّة في إطار “ميزانية المالية التكميلية لسنة 2014” لتعميق سياسة التقشّف التي تبنّتها حكومة الترويكا سابقا. وقد بدا الإعداد لذلك إعلاميا عن طريق الإعلان عن عدم قدرة الدّولة على خلاص الأجور في الوظيفة العمومية وعن ضرورة مراجعة منظومة الدعم (المواد الأساسيّة والمحروقات) وضرورة مراجعة نظام التقاعد.

الحقيقة اليوم أننا لم نعد نثق في المعطيات التي تمدّنا بها الحكومات المتتالية لأنها فاقدة للمصداقية ومتناقضة. ففي نفس اليوم نسمع الخبر ونقيضه وتُقدّم لنا المعلومة ونقيضها.

الأكيد أنّ هناك أزمة ماليّة لكن ما هي حدودها وما هو عمقها؟ هذا ما نجهله. هل ما تقدّمه الحكومة من معطيات اقتصادية ومالية (جانب منها يغلب عليه طابع التخويف) صحيح ويجب التفاعل معه إيجابا أم هو مناورة لتمرير سياسة التقشف بأقلّ الأضرار ولتمرير “الحربوشة” خاصة لاتحاد الشغل المقبل على مفاوضات حول الأجور مع الحكومة؟

ما نعلمه هو أنّ حكومتي الترويكا بقيادة النهضة قد “نهشت” الأموال العموميّة في حدود يجب ضبطها ومحاسبة المسؤولين عن ذلك

 ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك أزمة ماليّة أكيدة وخانقة لأنه إضافة إلى عمليّات التّبذير والتّصرّف السيّء في المال العمومي (العفو التشريعي العام الموظّف لفائدة المنتمين إلى حركة النهضة بصورة خاصّة والتّعيينات الانتهازيّة لعدد مهول بكلّ الوزارات لمستشارين لا علاقة لهم بالاستشارة وتطوّر مستوى الإنفاق الحكومي بصورة مهولة…)، فإنّ دواليب الدّولة المكلّفة بالسهر على جباية الأموال العموميّة في وضع لا تُحسد عليه اليوم (مثل أغلب دواليب وهياكل الدولة) وهي لا تقوم بالدّور المنوط بعهدتها على أحسن ما يرام وهذا يؤدّي ضرورة إلى النقص إن لم نقل انهيار الموارد الجبائيّة.

وإذا علمنا أنّ الموارد الجبائية تساوي في ميزانية 2014 ما يساوي أو يقارب 70 ./. فإنّ النتيجة معروفة في صورة تعطّل جهاز تحصيل الموارد الجبائيّة.

كما يعلم الجميع أنّ الموارد غير الجبائية قد انحسرت كثيرا في السنوات الأخيرة نظرا لتعطّل نشاط بعض المؤسسات (مثل فسفاط قفصة) أو انخفاض النشاط في الكثير من القطاعات (مثل المحروقات). وفي كلتا الحالتين فإنّ الموارد غير الجبائية للدولة ستنقص بصورة هامّة.

ماذا بقي أمام حكومة أفقها ضيّق؟ لم يبق إلاّ التّداين وقد برمج قانون المالية لسنة 2014 أكثر من 8 مليار دينار(8.000 مليون دينار) منها 5 مليار دينار (5.000 مليون دينار) كتداين خارجي. لذا نرى رئيس الحكومة منذ تولّيه السّلطة يهرول من بلد إلى آخر شرقا وغربا بحثا عمّن يوفّر له بعض القروض أو حتى بعض الضمانات للحصول على قروض. علما وأنّ الاقتراض من السّوق الدّولية أصبح صعبا جدّا بالنسبة لتونس الذي بلغ ترقيمها الائتماني الدرجات السفلى وهو ما يعني عدم المغامرة بإقراض تونس أو إقراضها بنسب عالية جدا.

وقد عبّرت الجبهة الشعبية ضمن مشروع الميزانية البديل لميزانية الدولة لسنة 2014 عن رفضها اعتماد الدولة على التّداين الخارجي كوسيلة لتمويل الميزانية خاصة في الظرف الحالي وذلك حماية للاستقلال المالي للبلاد وبالتالي حماية للاستقلال السياسي لها. وعبّرت الجبهة مقابل ذلك عن ضرورة الاعتماد على القدرات الذاتية للبلاد.

ولكن بالرغم من الصّدى الطيّب الذي نسمعه بخصوص مشروع الجبهة وبالرغم من بعض التّجاوب الذي نسمع عنه هنا وهناك نلاحظ أنّ الحكومة تواصل الهروب إلى الأمام بعزمها الاعتماد أساسا على الاقتراض الخارجي ومواصلة سياسة التّقشّف التي بيّنت إفلاسها في كلّ مكان وفي كلّ بلد تبنّى هذه السياسة تحت ضغط وبأوامر من المؤسّسات الماليّة الدّوليّة وخاصّة صندوق النّقد الدّولي.

 لقد بيّن مشروع الجبهة أنّ الطريق لحماية البلاد من كلّ أذى هو طريق الاستقلال المالي والتعويل على القدرات الذاتية عبر اتّخاذ بعض الإجراءات الجبائيّة الجريئة في الفترة الحاليّة في انتظار إصلاح جبائي شامل في ظلّ حكومة منتخبة لمدّة نيابية كاملة.

 إنّ التّعويل على الجباية يمكن أن يوفّر ما لا يقل عن 3,5 إلى 4 مليار دينار أي تقريبا ما يعوّض الالتجاء إلى الاقتراض الخارجي.

وتتمثّل الإجراءات الجبائيّة المذكورة فيما يلي:

  • زيادة في نسبة الضريبة على الشركات بـ5 نقاط  بالنسبة لسنة 2014 (مرابيح سنة 2013) بصورة استثنائية تتعلّق ببعض القطاعات غير المتضرّرة من الأزمة الاقتصادية وخاصة قطاعات النفط والمالية والاتصالات.
  • محاربة التهرب الجبائي وذلك بـ:

–       مراجعة النظام القانوني للسر البنكي ( في إطار المراقبة الجبائية) وذلك بالسّماح لمصالح المراقبة الجبائية بالاطّلاع على تفاصيل الحسابات البنكية بالنسبة للمؤسّسات موضوع مراجعة جبائية.

–       مراجعة بعض الأحكام المتعلّقة بالنظام التقديري وذلك لتطبيق هذا النظام على مستحقّيه فقط أي صغار التجار والصناعيين.

–       اتخاذ إجراءات استعجالية تتعلق بالاقتصاد غير المنظّم أو الموازي.

  • إيلاء العناية اللاّزمة بالمصالح المالية ذات النظر (مصالح المراقبة الجبائية والاستخلاص والديوانة) وذلك بالقيام بانتدابات موجّهة باعتبار أنّ هذه الانتدابات تمثّل استثمارا كتمكين المصالح المعنيّة من كلّ الإمكانيّات الماديّة الضروريّة لتعصيرها والاعتناء بالوضع الاجتماعي للأعوان.

 لماذا تتمسّك حكومة جمعة بسياسة التّداين وسياسة التقشّف ولا تُقدم على اتّخاذ إجراءات جريئة لمعالجة الأزمة خارج الحلول التقليدية؟

إنّ الاعتماد على الموارد الذاتية وخاصة الجبائية منها في المرحلة الحالية يبقى الحلّ الوطني الوحيد ولكنّ الحكومة الحاليّة التي تمثّل امتدادا لحكومتي الترويكا النهضاوية تخضع إلى ضغط وابتزاز العديد من الاطراف.

فقد علمنا أنّ اتّحاد الأعراف يعارض بشدة مسألة مراجعة النظام القانوني للسرّ البنكي وقد لا يكون متحمّسا تماما للتّعويل على الجباية نظرا إلى أنه يعلم أنّ اعتماد الدّولة على الجباية يعني أساسا مراجعة الامتيازات التي يتمتّع بها التّجّار والصّناعيّون.

كما يبدو أنّ موضوع التّهريب (والمهرّبين) مرتبط ببعض القوى السياسيّة التي لها قدم ثابتة في دواليب الدّولة وليس من مصلحتها فتح هذا الملف.

إنّ حكومة جمعة حكومة مرهونة في نفس الوقت لأطراف سياسيّة محليّة ليس من مصلحتها مراجعة السياسة السابقة لأنّ ذلك سيبيّن مرّة أخرى فشلها وعجزها، ولأطراف سياسية واقتصادية خارجية (دول أجنبية ومؤسسات دولية مقرضة لتونس مثل صندوق النقد الدولي) تراهن على بقاء نفس نمط ومنوال التنمية الاستغلالي وهذا يعني أنّ حكومة جمعة حكومة غير مستقلة وبالتالي لا تخدم المصلحة الوطنية.

إنّ الحكومة الحالية – حتى إن كانت فَرَضا راغبة في إدخال بعض الإصلاحات في إطار نفس المنظومة الحالية ونفس منوال التنمية الحالي- فإنها ستجد معارضة  شديدة أو لنقل لن تجد المساندة الكافية لإجراء أيّ إصلاح في الاتّجاه الصّحيح.

ولعلّ السّؤال المطروح الآن يبقى ما موقف القوى الوطنية من حكومة جمعة؟  فمنذ أن تولّت هذه الحكومة أمور البلاد لم يكن موقف هذه القوى موقفا حازما ومازال في موقع الانتظار. ولكن اليوم كلّ المؤشّرات تدلّ بما لا يدع مجالا للشك أنّ هذه الحكومة تسير على خطى الحكومتين السابقتين وأنه لا إصلاح ينتظر منها كما أنها لن تطبّق خارطة الطريق.

ويبدو جليّا أنّ هذه الحكومة مستمرة في سياسة التّداين الخارجي لخلاص الأجور والانفاق الحكومي (نفقات التّصرّف) بما يزيد في إغراق البلاد دون جدوى كما يبدو جليّا أنّ الحكومة مستمرّة في سياسة التقشّف التي تمسّ من قوت الشعب وأساسا الطبقات الشعبية وفي كلمة إنّ هذه الحكومة تمارس سياسة الهروب إلى الأمام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×