الرئيسية / أقلام / الخبير الاقتصادي حسين الرحيلي: “الفساد المالي ينخر الاقتصاد ويبدّد مقدّرات البلاد”
الخبير الاقتصادي حسين الرحيلي: “الفساد المالي ينخر الاقتصاد ويبدّد مقدّرات البلاد”

الخبير الاقتصادي حسين الرحيلي: “الفساد المالي ينخر الاقتصاد ويبدّد مقدّرات البلاد”

ثورة قامت على مقاومة الفساد بكل أبعاده و مجالاته، وخاصة الفساد المالي، تجد نفسها  وبعد أربع سنوات قد أعادت إنتاج نفس منظومات الفساد ولو اختلفت العناوين والأسماء. إنها مسألة في غاية الخطورة و الإحراج معا.

و لعل ما أعلن عنه من طرف المنظمات المختصة في مؤشرات الفساد لسنة 2014 من احتلال تونس المرتبة 79 عالميا من ضمن 175 دولة معنية بالتصنيف، و تأخرنا لأكثر من 20 مرتبة بالمقارنة مع الوضعية التي كان عليها الفساد سنة 2010 و التي ثار عليها الشعب برمّته، يجعلنا نقر بأننا في وضعية أخطر وأن المسار الثوري الذي قام على مقاومة مظاهرالفساد والاستبداد بكل معانيها وأبعادها وشخوصها تم الالتفاف عليه وأُعيدت المنظومات السابقة والفاسدة ولكن هذه المرة بأكثر انتسشارا وبأكثر عدد ممكن من المستفيدين وفي أكثر ما يمكن من المجالات والقطاعات.

كما أكدت هذه التصنيفات الجديدة حول الفساد، و خاصة التي وردت في تقرير البنك الدولي لسنة 2014 ، على أن تونس تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث استفحال الظاهرة وانتشارها، وهو ما يعني أننا تجاوزنا في هذا المجال كل الدول الاستبدادية والمافيوزية، إن لم نقل أن الحكومات المتعاقبة على الحكم بعد 14 جانفي لم تفعل أي شيئ لمقاومة الظاهرة بل عمّقت الوضع ووفّرت كل الظروف والشروط الموضوعية والبيروقراطية لنشر الفساد واستفحاله في كل النسيج المجتمعي وخاصة الإدارة التي كانت ولازالت المحضنة الحقيقية للفساد المالي.

و بلغة الارقام، ووفق الدراسات التي قامت بها العديد من المنظمات المختصة في رصد ومكافحة الفساد المالي، بينت أن سنة  2014 وفي إطار “الفساد المالي الصغير” وهو الفساد المبني على اعطاء الرشاوي الصغيرة من طرف المواطنين لقضاء شؤونهم ومصالحهم الإدارية قد كلف المجتمع حوالي 450 مليون دينار أي 450 مليار من مليماتنا، هذه الأموال الضخمة قدّمت رشاوي للموظفين والمسؤولين الإداريين من طرف المواطنين للحصول على خدمات عامة ووثائق ورخص و غيرها من المصالح التي لازالت مكبلة بطول الاجراءات وكثرة الوثائق والطلبات الغير محدّدة من طرف الإدارة، مما يجعل المواطنين وأمام هذه الترسانة البيروقراطية العازلة مجبرين على التعامل معها بمنطقها التي احدثت من اجله الا وهي الرشوة المعلنة او الغير معلنة في شكل هدايا وهبات وغيرها من الأشياء التي تعايش معها المواطن التونسي لأكثر من 60 سنة.

أما “الفساد الكبير” و الذي يمثل التخريب الحقيقي للاقتصاد وللمجتمع برمته، فلقد تم تقييمه لسنة 2014 بحوالي 2700 مليون دينار أي حوالي 2 بالمائة من الناتج المحلي الخام و هي نسبة مفزعة و كبيرة حيث أن هذا المبلغ يمثل ضعف المبلغ المخصص لصندوق الدعم الذي يستفيد منه غالبية الشعب التونسي والذي يتعرض منذ مدّة وبتعليمات من صندوق النقد الدّولي والبنك الدولي لهجوم كاسح من طرف بارونات الفساد في الحكم وخارجه لالغائه بهدف التحكم الفعلي في ما تبقى من قوت الفئات المتوسطة و الفقيرة.

كما أن الفساد الجديد و المتجدد بالبلاد قد استفاد من ضعف الدولة وارتباط حكومات الترويكا الثلاث بمنظومات الإرهاب والتهريب، ممّا خلق بالتالي محاضن جديدة للفساد المالي التي انحصرت في السّابق في العائلة الحاكمة وحواشيها وفي إطار المنظومة الإدارية، لتتوسع حاليا وتشمل كل المجالات والقطاعات وتستفحل في كلّ الشرائح.

إن دولة يمثل فيها الاقتصادي الموازي حوالي 32 بالمائة من رقم المعاملات على المستوى الوطني، و53 بالمائة من الناتج المحلي الخام، لا يمكن أن تنتشر فيها إلا آفات الفساد والتهريب والجريمة المنظمة و تدهور مؤشرات التنمية و هروب الاستثمارات وبالتالي انتشارا للفقر والبطالة والتهميش.

كما وجب التذكير أن ما شجع الكل على الفساد، هو ان التقارير التي تم اعدادها حول الظاهرة بعد 14 جانفي و خاصة تقرير ” لجنة تقصي الحقائق حول الفساد و الرشوة ” الذي صدر في نوفمبر 2011 والذي تضمن 500 صفحة و كشف بالوثائق و الأدلة عن عمليات فساد مالي و رشاوي و اهدار للمال العام و توظيف للادارة و امكانياتها لصالح بعض الفئات و الاطراف، و رفعت بناء على هذا التقرير 11 الف قضية ضد عدد كبير من المسؤولين و النافذين في النظام السابق، فمن تم محاسبته؟ و من تم سجنه؟ و هل استرجعت الاموال المنهوبة من طرف كل هذه المافيات؟ لم يحاسب احد و هو ما شجع كل من إراد الاستفادة من هذا الوضع الكارثي لدولة تم استباحتها أولا ممّن يملكون زمام أمورها سواء بالتغطية السياسية أو بالمساهمة في خلق ظروف سانحة للفساد وهدر المال العام، وثانيا من طرف عصابات جديدة أو ما يمكن أن نطلق عليهم أثرياء الحرب أو المستفيدين من الفوضى وضعف الدولة والتهريب والإرهاب.

إن مقاومة الفساد الإداري وحده يمكن أن يوفر سنويا أكثر من 3000 مليار وهو ما يمثل حوالي 65 بالمائة من عجز ميزانية 2014، كما أن مقاومة التهريب وتنظيم الاقتصاد الموازي ولو بنسبة 20 بالمائة فقط يمكّن من توفير حوالي 7500 مليون دينار سنويا وهو ما يجعل الدولة قادرة على المستوى القريب على التخلي نهائيا عن التداين، كل ذلك في إطار حكومة لها تصور واضح للاشكالات الحقيقية للاقتصاد الوطني ولها برنامج نابع ومعبر عن المتطلبات الحقيقية للشعب.

 أما حكومة مثل التي تحكم اليوم والتي التجأت للإدارة مركز البيروقراطية والفساد لتحديد أولوياتها، لا يمكن أن ننتظر منها أي إصلاح أو مقاومة للفساد أو إصلاح هيكلي لاقتصاد، ذلك أن الأولويات التي ستعمل عليها تعبر عن أولويات بارونات الفساد الإداري والمالي، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن ما تردّد خلال الحملات الانتخابية من طرف الأحزاب الحاكمة الآن ليس إلا بيع للوهم لشعب لازال يبحث عن بوصلته.

إن الفساد المالي الذي ينخر الاقتصاد و يدمّر مقدّرات البلاد لا يمكن مقاومته إلا بإعادة النظر وبشكل جذري في منوال التنمية عبر ضرب المنظومة البيروقراطية وتغيير كل القوانين المنظمة للعمل الإداري والتقليص من الاجراءات وإعادة النظر في قوانين الصفقات العمومية، كل ذلك في إطار تصوّر جديد للتنمية ولخلق الثروة ولطرق توزيعها وإعادة إنتاجها.

فسادكتبه ل”صوت الشعب”: الخبير والجامعي جسين الرحيلي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×