الرئيسية / صوت العالم / “أزمة الكورونا” وبشاعة الرأسمالية
“أزمة الكورونا” وبشاعة الرأسمالية

“أزمة الكورونا” وبشاعة الرأسمالية

على هامش مأساة “الكورونا” التي ضربت كل البلدان والمجتمعات تقريبا، وكشفت عن حقيقة الرأسمالية التي تهيمن على العالم، والتي ما انفكّت تزعم كون نظامها الاقتصادي/الاجتماعي هو الأفضل على الإطلاق بما تحقّق فيه من مكاسب كرّست “إنسانية الإنسان” لأول مرة في التاريخ. لقد بان بالكاشف زيف هذه الادّعاءات، ليس في البلدان التابعة والخاضعة للهيمنة فحسب، بل وحتّى في المعاقل الكلاسيكية للرأسمالية وتحديدا في أوروبا الغربية، وفي شمال القارة الأمريكية أين يفتِكُ الوباء اليوم بآلاف البشر فيما يشبه صورة سريالية لا يكاد يصدقها العديد في العالم الذين انغرست في أعماق وعيهم (ولا وعيهم) أن الولايات المتحدة (مثلها مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واسبانيا…) هي النموذج لـ”مجتمعات الوفرة والرفاه” وحقّقت الحريّة والسعادة كـ”غايات الإنسان والتاريخ”، وهو ما جعل إيديولوجيّي الرأسمالية يفتون بـ”نهاية التاريخ” و”ولادة الإنسان الجديد” مثلما ذهب إلى ذلك مثلا فرنسيس فوكوياما منذ بداية العقد الأخير من القرن المنصرم حين ولد “النظام العالمي الجديد” على أنقاض الحرب الباردة والصراع القديم بين المعسكرين الشرقي والغربي.

“الكورونا” تعمّق أزمة النظام الرأسمالي

لئن كشفت أزمات سابقة، وأهمّها أزمة 2008 التي انطلقت من قطاع الرّهن العقاري وانتهت بأزمة مالية عميقة لازالت آثارها تهزّ الاقتصاد العالمي إلى اليوم، فإنّ ما أصبح يُسمّى عالميا “أزمة الكورونا” قد كشف عن وجه قبيح جدا للنظام الرأسمالي العالمي. هذا الوجه كان إلى وقت قريب يعدّ الحديث فيه حِكْرا على “الشيوعيّين الذين يحرّكهم الحقد الإيديولوجي على مكاسب الإنسانية لا غير”، وفق تعبيرهم. ولعلّ من “مزايا” هذه الأزمة أن التّشكيك في هذه المكاسب أصبح يأتينا حتى من أوساط غُلاة الاحتكاريين. ففي فرنسا لم يتوانَ الرّئيس ماكرون، وهو صنيعة الرأسمال المالي والطغمة المالية الفرنسية، عن الحديث عن ضرورة ومزايا تأميم بعض القطاعات الإستراتيجية وتحديدا قطاع الصحّة وصناعة الأدوية. فيما انبرى اليمين المتطرّف الحاكم في إيطاليا للحديث عن أن تكتّل الاتحاد الأوروبي بصدد فقدان مسوّغات انبعاثه، فالحدود بين البلدان أُغلِقت، وانكفأ كلّ بلدٍ في معالجاته الخاصة، وبقيت البلدان الأكثر تضرّرا (والأقل ثراء) ومنها إيطاليا تعاني بمفردها. والسّمة البارزة التي تشترك فيها كل البلدان الرأسمالية دون استثناء هو الضّعف المريع للقطاع الصحي العمومي، هذا القطاع الذي شهد مكاسب هامّة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية من خلال ما سمّي “دولة الرّعاية” التي فرضت عليها الحركة العُمّالية ونضال النقابات والأحزاب الاشتراكية التي وصلت إلى البرلمانات أو وصلت أحيانا إلى الحكم (الجبهة الشعبية في فرنسا 1936مثلا) تحقيق عديد المكاسب الاجتماعية (التقاعد، الحيطة الاجتماعيّة، التأمين، تحديد ساعات العمل، تحسين الأجور…).

لقد شملت هذه المكاسب الاجتماعية عديد القطاعات، ومن أهمّها قطاع الصحة العمومية الذي يقدّم خدماته بالأساس للطبقات الكادحة والشعبية. فقد تطوّر نصيبه من الميزانيات العامة، لذلك كانت معاليم التّداوي رمزية ومرتبطة بالنظام الضّريبي (الخصم من الأجر أو من المداخيل)، وكانت خدماته غالبا تغطّي كل المدن بما فيها أصغرها، كما كانت تقدّم فيه الأدوية ومختلف الخدمات من أبسطها إلى أعقدها، وكان هذا القطاع يستقطب أمهر الإطارات الطبية ويشمل مجال صناعة الدواء. لقد حقّق القطاع الصحي العمومي مكاسب هامة للمجتمع تجلّت من خلال التمتّع بالخدمة المحترمة، وهو ما انعكس على الصحة العامة للمجتمع وأمل الحياة ممّا خلق نسبيا بعضا من “المساواة أمام المرض”.

وقد تزامن هذا مع نفس السياسة في مجال التعليم والنقل، أو ما تسمّى القطاعات الاجتماعية الأساسية والتي تُقاس وفقها درجة التمدن والتحضّر والتنمية. لقد احتكمت هذه السياسة الاجتماعية عند الدول الرأسمالية إلى مبادئ المقاربة الكينزيّة التي دفعت في اتّجاه اضطلاع الدولة بمهمّات أساسية تشكّل دعامة وضمانة لـ”الاستقرار والنموّ”، وهذه المهمّات هي الخدمة الاجتماعية التي تخلق نوعا من “التّوازن” الاجتماعي (أي بين الطبقات) بما يُبْعِد المجتمع عن “الهزّات الاجتماعية” (أي الثورات) خاصة في ظلّ التنافس الشديد مع النموذج الاشتراكي السّائد في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية والذي كان متميّزا ويجلب إعجاب الناس وخاصة العمال والكادحين في كل ما يتعلق بالخدمات الاجتماعية بما شكّل عمودا فقريا في الدعاية للاشتراكية طيلة عقود.

“الكورونا” تعرّي حقيقة الرأسمالية

لكن هذه المكاسب التي تحقّقت وفُرِضت بالنضال المرير الذي بدأت الطبقة العاملة خوضه منذ بداية القرن التاسع عشر، وقدمت لأجله التضحيات الكبيرة، بدأت في التراجع ثم التلاشي بولادة التوجهات النيوليبرالية منذ نهاية السبعينات كتداعٍ موضوعيّ للأزمة الهيكلية العميقة التي أصبحت تنخر نمط الإنتاج الرأسمالي بعد فترة “الاستقرار والانتعاش” التي استمرت بعد الحرب العالمية الثانية وكنتيجة من نتائجها. وقد اعتمدت العقيدة الجديدة على ركن جوهري وهو تصفية القطاع العام والاتجاه بالخوصصة إلى أقصاها.

ولئن كانت ثمّة بعض الدعوات في البداية، وإن كانت محتشمة، للإبقاء على ما يسمّى “القطاعات الإستراتيجية” مثل الصحة والتعليم والنقل والثقافة…الخ، فإنّ الليبرالية المتوحّشة التي دشّنت الحكم مع تاتشر في بريطانيا وريغن في الولايات المتحدة في بداية الثمانينات شرعت في تطبيق وصْفاتها التي تحوّلت فعليّا إلى ضرب من “العقيدة” غير القابلة للجدل. وتحوّلت الخوصصة إلى كلمة السرّ التي أصبحت تدريجيّا تحكم العالم من خلال الدول والمؤسسات المالية (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي…)، ووجدت هذه الوصفة ترجمتها الفعليّة في برامج الإصلاحات الهيكلية التي اعتُمِدت في دول المركز كما في دول الأطراف. وما الوضع الذي نشاهده اليوم من عجزٍ لقطاع الصحّة العمومية ليس في البلدان الأكثر فقرا وتبعية، بل حتّى في البلدان الأكثر ثراء وسيطرة، إلاّ دليلا صارخا على ذلك ولا يحتمل التشكيك. فمستشفيات أمريكا كما بريطانيا وفرنسا عاجزة عن الإيفاء بالخدمة الأساسية للمواطنين، فقط الأثرياء منهم قادرون على تأمين حياتهم من خلال تأمين التداوي في المصحّات الخاصة، أمّا الملايين من الأُجراء والفقراء فيتكدّسون أمام المَشافي دون ولوجها، ويقضي الآلاف منهم يوميّا في بيوتهم. وبينما تقف الدولة عاجزة، يستنفر الجيش وقوات الأمن والمجتمع المدني إمكانياتهم وجهدهم لتركيب المشافي الميدانية، دون الوصول إلى الاكتفاء أمام الطلب المتنامي للملايين الذين تفرض عليهم أواضعهم المادية والاجتماعية القاسية الخروج من أوضاع الحجر وعدم القدرة على التكيف معه.

عالم جديد يطلّ من رحم “الكورونا”

لقد كشفت الأزمة الوبائية الحالية على حجم الفظاعة وحجم المفارقة التي تحكم المجتمع الرأسمالي وبانت بالكاشف حقيقته المرّة التي لطالما حاول العديد إنكارها. كما بان زيف شعاراتٍ هيمنتْ طيلة عقود بأنّ زمن القطاع العام قد ولّى، وأن الخوصصة هي هويّة عصرنا…الخ. إن المواجهة التي تقابل اليوم المجتمع البشري بأغلبيّته الساحقة مع الوباء، هي مواجهة أيضا مع نمط الإنتاج الاستغلالي الذي لا علاقة له بخدمة المجتمع والإنسان، بل علاقته عضوية فقط مع الجشع والأنانيّة والقيم الموغلة في التوحّش والحيوانيّة.

إنّ وعيا إنسانيا متناميا اليوم في كل أصقاع العالم حول الحقيقة البشعة للرأسمالية، حول محدوديتها التاريخية وحول ريائها، وحول تناقضها الكلّي والمُزمن مع القِيم الإنسانية الحقّة، وحول ضرورة تجاوزها نحو مجتمع العدالة والتّكافؤ الفعليّ (وليس الوهمي أو الشكلي) الذي لن يكون إلا المجتمع الاشتراكي، المجتمع الذي يعتبر أن الإنسان هو أثمن رأسمال، وأن الخوصصة هي سرقةٌ للمقدرات وخاصة في القطاعات الأساسية مثل الصحة.
إن خوصصة الصحة هي خوصصة للحق في الحياة وضربٌ للمساواة أمام الألم والموت، وهذا انتهاك غير مقبول لإنسانيّة الإنسان.

إن الوعي العالمي الجديد الذي وُلِد من أحشاء “أزمة الكورونا” يجب أن يذهب إلى أقصاه، فالإنسانية توجد اليوم في مفترق طرق، فإمّا الإنسانية أو الوحشيّة، إما الاشتراكية أو البربرية.

علي الجلّولي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×