الرئيسية / ملفات / 1 ماي / حقوق المرأة العاملة بين التّشريع والواقع: في غياب حقوق النّساء.. يستشري العنف أكثر من الوباء
حقوق المرأة العاملة بين التّشريع والواقع: في غياب حقوق النّساء.. يستشري العنف أكثر من الوباء

حقوق المرأة العاملة بين التّشريع والواقع: في غياب حقوق النّساء.. يستشري العنف أكثر من الوباء

ضحى قلالي

لا يُولد العنف من فراغ، فهو نتيجة منطقيّة لموروث البُنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الرجعية التي تعمل على إخضاع الفضاءيْن الاجتماعي والسّياسي لمفاهيم الخضوع والسّيطرة، وبالتالي فهي تغرس عادات التبعيّة والوصاية ليستبطن الوعي الجمعي الصّورة الدّونية للمرأة وخاصة إن أرادوا لها أن تكون “امرأة تابعة في مجتمع تابع”.

كان من المفترض أن يتحوّل “المدّ التضامني” الذي تتشدّق به حكومة الفخفاخ منذ استفحال “أزمة الكورونا” إلى مسؤولية سياسية ودور اجتماعي فاعل لدولة مسؤولة عن حياة مواطناتها ومواطنيها لتوفّر لهم الحدّ المعقول من العيش الكريم وتضمن سلامتهم البدنيّة والنفسية. ولكن كلّ هذا لم يحدث لنَجِد مقابله خضوعا لحكم الشركات متعدّدة الجنسيّات وابتزاز رأس المال الذي يُجبر اليد العاملة في القطاع الخاص على استئناف العمل أيّاما بعد إعلان الحجر الصحّي العام. ولا يفوتنا أن نذكّر بأنّ أغلبية اليد العاملة في القطاع الخاص هنّ من النساء وخاصة في مجال الصناعة (مثلا تشكّل اليد العاملة في قطاع النسيج نسبة 35% من مجموع اليد العاملة في قطاع الصناعة منها 80% نساء). لم يتردّد أرباب العمل في أن يضربوا بعرض الحائط كلّ المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدّولية بانصياع من حكومة الفخفاخ التي تتجاهل الدستور والقوانين والتشريعات (بدعوى الوضع الاستثنائي)، ومن ذلك مثلا الإعلان بشأن القضاء على العنف ضدّ المرأة (الجمعية العامة للأمم المتحدة 1993) والذي ينصّ في المادة 3 منه على أنّ للمرأة الحقّ في التمتّع على قِدم المساواة مع الرّجل بكلّ حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية ومنها: “الحقّ في الحياة (أ) – (و) الحقّ في أعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية”. فأين احترام حقوق الإنسان عامة وحقوق المرأة خاصة من كل تلك الضغوطات التي مُورِست على العاملات والعمّال من أجل العودة إلى العمل وخاصة بالشركات الكبرى؟

تنهار إذن كلّ مقوّمات الإنسانية وكلّ المنظومة التّشريعية التي تزيّن بها الأنظمة البرجوازية والأنظمة التّابعة لها وجهها الحقيقي الذي لا يعترف إلّا بمنطق الرّبح والبحث عن حلول لأزمته الاقتصادية العالمية بأيّ ثمن، مستغلة الظّروف المعيشيّة الصّعبة للفئات الأكثر هشاشة وتمارس بذلك أبشع أنواع الاستغلال والمقايضة: تعريض حياة آلاف العاملات والعمال إمّا لخطر الجوع أو لخطر المرض وربما الموت.

تأنيث الاستغلال والبطالة والفقر

المعاناة لا تقف في حدود القطاع الخاص وارتهانه لأوامر الدوائر المالية العالمية، وتعرّض النساء فيه للعنف الاقتصادي باعتبارهنّ الأكثر عددا، بل تمتدّ إلى الداخل حيث مئات العاملات في القطاع غير المنظّم وفي مختلف القطاعات الهشّة (حظائر، مناولة، حرف يدوية، عاملات الفلاحة، المعينات المنزليات…). تبقى النّساء العاملات في هذه القطاعات خارج التصنيف، دون تغطية اجتماعيّة ولا صحّية، تعملن في غياب ظروف عمل لائقة (العاملات الفلاحيات لم تنقطعن عن العمل خلال الحجر الصحّي وواصلن في نفس الظروف المُهينة من حيث أدوات العمل ووسائل النقل والأجر)، ومؤخّرا بتفاقم أزمة “الكورونا” تبقى أغلبهنّ بلا عمل و بلا أجر، مُحالات على بطالة قسريّة تنضاف إلى رصيد البطالة الاعتيادية (نسبة البطالة في صفوف النساء 21,7%). ولئن أعلنت حكومة الفخفاخ عن جملة من المساعدات (200د) والتي صاحبتها جملة من الإجراءات المعقدة وحالة من الفوضى العارمة، فإنها أسقطت من حساباتها مثلا عاملات المنازل اللاتي تبقين من أكثر القطاعات هشاشة (لا تتمتع العاملة المنزلية بمساعدة اجتماعية إذا كان لها زوج يعمل أو له تغطية اجتماعية) وتتعرضن إلى أبشع أنواع التمييز والعنف.

وكالعادة، تبقى كلّ وعود الحكومة حبرا على ورق وتبقى أكذوبة “التّمكين الاقتصادي والاجتماعي” واجهة تخفي حقيقة العنف الاقتصادي والاجتماعي المتنامي ضدّ المرأة وحقيقة تأنيث الفقر والبطالة في تونس.

العنف المزدوج المسلّط على المرأة

إنّ كل ما سلف ذكره يقودنا بالضّرورة إلى نتيجة منطقية واحدة وهي أنّ الوضع المادّي الهشّ وتنامي نسبة الفقر والبطالة والحاجة وتدنّي المستوى المعيشي لشرائح واسعة من المجتمع يُفضي بالضرورة إلى ارتفاع مستوى العنف بكلّ أشكاله. فما بالك ونحن نعيش وضعًا وبائيّا فرض ظروفه الاستثنائية؟ إنّ الحجر المنزلي والذي نطالب الدولة بتوفير مقوّماته للنساء العاملات، يتحوّل لدى عدد كبير من النساء ضحايا العنف إلى نِقمة وذلك لوجودهنّ وجها لوجه ودون أدنى حماية مع جلّاديهن. والجلّادون أنفسهم يقومون غالبا بالاستناد إلى ما يتعرّضون إليه هم أنفسهم من عنف اقتصادي ومشاكل مادّية لتبرير العنف الذي يسلّطونه على المرأة. وتبقى المرأة في النهاية الضّحية الأولى لعنف مزدوج غير مبرّر وغير مشروعٍ، لكنّ دوافعه ملقاة بدرجة أولى على عاتق المسؤولين السّياسيين الذين تغيب عنهم الإرادة في تغيير المنظومة الاقتصادية وإعادة النظر في المنظومة الثقافية والتربوية والإعلامية والسياسية التي لم تنتج إلى حدود الآن إلّا الأزمات والانتهاكات والعنف (47.6% من النّساء في تونس تعرّضن إلى أحد أنواع العنف على الأقل مرة واحدة في حياتهن).

ولا ننسى طبعا أنّ اختلاط النظام السياسي الحاكم بالفكر الرّجعي وارتباطه بالمرجعيّة الإخوانية منذ سنوات لا يمكن أن يُنتج إلّا فكرا أبويّا ذكوريا يعتبر أنّ المرأة “قاصرة” وأنّ وظيفتها الطبيعية هي وظيفة جنسية بحتة، وبالتالي فمن المبرّر ممارسة العنف ضدّها “لتأديبها” و”تقويمها”. وإن كان النظام السياسي في تونس يسير بمنهج “الأخْونة الناعمة” التي تتصدى لها القوى التقدمية سياسيّا ومدنيّا بقوة فإنّ خطر مساهمتها في تبييض العنف وانتشاره يبقى كبيرا، خاصة ونحن نلاحظ أنّ العنف السياسي في تونس لا يقلّ شأنا عن بقية أنواع العنف. تبقى نسبة وصول المرأة إلى مواقع القرار ضعيفا جدّا إذ لا تتجاوز الـ1 % (إدارات ووزارات وأحزاب سياسية بكلّ مرجعيّاتها الفكرية)، وهو ما لا يدع الفرصة سانحة أمام أيّ قرار تغيير جوهري يخصّ المرأة (تفعيل التشريعات، ضرب الصورة النمطية للمرأة في التربية والإعلام، اتّخاذ إجراءات فعليّة للقضاء على التّمييز والعنف…) بل إنه يصبّ في صالح المنظومة الرجعيّة بشقّيها دون أن ننسى أنّ أغلب النساء المتواجدات في مراكز القرار حاليّا هن أدوات في يد البرجوازية ومُرتهِنات لأوامرها.

المرأة ثروة مهدورة

إنّ المرأة في تونس هي ثروتها الفعلية (تساهم اليد العاملة النسائية بنسبة 68% من الناتج الداخلي الخام)، ولكنها ثروة مهدورة وضحيّة للاستغلال والعنف والقهر المضاعف في الفضاءين العام والخاص. وعليه فإنّ النضال من أجل المساواة القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسّياسية لم يخفت منذ تشكّل أولى ملامح الحركة النسوية في تونس. وقد شهدت تونس عديد النّضالات التي توّجت بجملة من القوانين والتشريعات منذ صدور مجلّة الأحوال الشخصية (1956) وإلى حدود صدور قانون أساسي عدد 58 لسنة 2017 مؤرخ في 11 أوت 2017 يتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة، مُرورا بجملة الاتّفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس. لكن السؤال المطروح يبقى دائما: ماذا نستفيد من ترسانة القوانين التي تُرْكن في الرّفوف ولا أثر لها في واقع المرأة التونسية؟

لقد ألزم القانون 58 الدولة باتّخاذ التّدابير اللازمة للقضاء على الممارسات التّمييزيّة ضدّ المرأة على مستوى الأجْر والتغطية الاجتماعية ومنع الاستغلال الاقتصادي وتشغيل المرأة في ظروف قاسية أو مهينة أو مُضرّة بصحّتها وسلامتها وكرامتها. فمتى إذن تتوفّر التغطية الصحّية والاجتماعية للعاملات الفلاحيات؟ ومتى يتوقّف التمييز في الأجور والذي يبلغ في بعض القطاعات نسبة 35 بالمائة فارقا بين النساء والرجال وخاصة في القطاعات غير المنظّمة؟ بل متى يتمّ تنظيم هذه القطاعات وتصنيفها وتمتيع العاملات فيها بظروف لائقة وبأجور تضمن لهنّ عيشا كريما؟ ومتى يتمّ تنظيم قطاع العاملات المنزليات وإصدار قانون يحميهنّ وينظم مهنتهنّ ويضمن فعليّا مكافحة الاتّجار بالبشر وتشغيل الفتيات القاصرات؟
متى يتمّ مراجعة مجلّة الشغل التي اهْترأت رغم أنّ الدولة لم تحترم أغلب فصولها يوما (صدرت منذ 1966) ومُراجعة الاتفاقيات الإطارية المُهينة التي تنضوي تحتها عديد المصانع التونسيّة التي تشغّل آلاف العاملات تحت قهر الاستعمار المباشر؟

من ثقافة العنف إلى ثقافة المساواة

بل ومتى تعترف الدّولة بالأمومة وظيفة اجتماعية وتخصّص لربّات البيوت منحة قارة تضمن لهن الاستقلالية المادية وتعترف بما يقدّمنه من مساهمة محوريّة في بناء المجتمع؟ ومتى تتحمّل الدولة دورها في تأمين حياة المعطّلات عن العمل عبر منحة شهرية قارّة حتى يتجاوزن عَتَبة البطالة فتوفّرها لهنّ كما يجب أن توفّرها لكلّ المعطّلين عن العمل؟ (فرص العمل بالنسبة للنساء لا تتجاوز 26%)

متى يتمّ الترفيع من الأجر الأدنى الفلاحي والأجر الأدنى الصناعي بما يتلاءم مع ضروريات الحياة والاتفاقيات الدولية وتوضع خطط وطنية فعلية للتشغيل ومقاومة الفقر والتهميش والانقطاع المدرسي وتقضي على آليّات التشغيل الهشّ وتتجاوز ظروف العمل التي لا ترتقي إلى الأدنى الإنساني المطلوب؟

هذا وقد آن الأوان لتفعيل كلّ الاتفاقيات الدّولية وللمصادقة على الاتفاقية 190/2019 بشأن القضاء على العنف والتحرّش في عالم العمل وترجمة بُنودها إلى قوانين داخليّة تحترمها كما تحترم بنود الدّستور ولِم لا التفكير في إطار قانوني موحّد وجامع لكل التّشريعات والقوانين الخاصة بالمرأة يتم الاستناد إليه كمرجع قانونيّ رسمي.

إنّ القضاء على ظاهرة العنف لا يكون إلّا بتفسير أسبابها تفسيرا واضحا وبالنّظر في الحلول الملائمة التي تمكِّن تدريجيّا من الانتقال من مرحلة التّنديد إلى مرحلة الفعل المباشر ووضع أُسُس المقاومة الحقيقية لهذه الآفة التي لا تقلّ خطرا عن آفة “الكورونا” وكلّ الآفات التي شهدتها الإنسانية. وطبعا فإنّ كلّ هذا لا يكون إلّا بتوفّر الإرادة السّياسية وبتوفّر منظومة قانونيّة وسياسية واجتماعية وثقافية تحترم ثقافة المساواة وتحترم دم الفلّاحات الشهيدات.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×