الرئيسية / ملفات / ملف الفلاحة / الفلاحة في تونس: بين التّهميش الداخلي والتّهديد الخارجي (اتّفاقيّة الأليكا)
الفلاحة في تونس: بين التّهميش الداخلي والتّهديد الخارجي (اتّفاقيّة الأليكا)

الفلاحة في تونس: بين التّهميش الداخلي والتّهديد الخارجي (اتّفاقيّة الأليكا)

حسين الرحيلي

إذا تحبْ قرارك مِن راسكْ، لازم تْكونْ لُقْمة عِيشكْ من فاسكْ” (فلاح من سيدي بوزيد)

تحوّل القطاع الفلاحي في تونس إلى مجرّد قطاع هامشي منذ بداية الثمانينات، أي عند انطلاق برنامج الإصلاح الهيكلي المفروض من قِبَل صندوق النقد الدولي. هذا البرنامج الذي يتمحور حول ضرب المنظومات الإنتاجية المحلية والفلاحية والصناعية وفتح المجال للاستثمار الأجنبي وتحويل البلاد إلى مجرّد سوق لاستهلاك المنتجات والسّلع الأجنبيّة وخاصة الأوروبية. وللإجهاز على ما تبقّى من هذا القطاع، تأتي اتفاقية الأليكا التي هي بصدد التفاوض مع الاتّحاد الأوروبي، والتي تصرّ العصابات الحاكمة في البلاد على توقيعها، خاصة مع حكومة الفخفاخ التي تتضمّن وزيرة المشاريع الكبرى والتي تعتبر صوت الاتحاد الأوروبي في تونس للتّبشير بهذه الاتّفاقية الشّؤم من خلال جمعيتها “سوليدار تونس” التي تُعتبر ذراع المنظّمة الأم الأوروبية في بلادنا.

ولتنفيذ هذه المخطّطات التّدميرية، تمّ التّعويل على عصابات الحكم والمافيات المحلّية للقيام بهذه الأدوار القذرة ومنحها امتيازات التّوريد والتّصدير. ويتواصل هذا النّزيف إلى اليوم حتى بعد 14 جانفي 2011 لأنّ من مسكوا بالسلطة ليسوا إلّا امتدادا موضوعيّا للعصابات السّابقة في التوجّه والأفكار والارتباطات المشبوهة برموز الامبرياليّة العالمية.
ولقد شكّل القطاع الفلاحي الحلقة الأضعف في هذه المؤامرات المتكرّرة على الاقتصاد التونسي لعقود طويلة، نظرا لخصوصية هذا القطاع. إذ أنّ الفلاحة ليست مجرّد قطاع للإنتاج الاقتصادي فحسب، بل لها عمق اجتماعي وثقافي كبير، ممّا يجعل ضربها وتهميشها ضربٌ وتهميشٌ لكل فئات الشّعب مهما كان موقعه من القطاع الفلاحي.

مقوّمات القطاع الفلاحي في تونس

تونس كانت تُطعِم امبراطوريّة روما الاستعمارية بكاملها، ممّا جعل الرّومان يسمّونها مطمور روما. فكيف أصبحنا نحن اليوم مجرّد شعبٍ يقتات من توْريد المواد الأساسيّة الحياتيّة بنسبة تتجاوز 70 بالمائة من حاجياته؟ أليس لنا مقوّمات فلاحيّة تمكّكنا من تحقيق سيادتنا الغذائية؟

ذلك أنّ النشاط الفلاحي في أيّ بلد لا يمكنه النجاح في تحقيق السّيادة الغذائية إلاّ إذا توفّرت له الإمكانات الطبيعية والدّعم المادي والبعد اللّوجستي.

فبالنسبة إلى الإمكانيات الطبيعيّة للقطاع الفلاحي في تونس، يمكن القول أنها تتميّز بما يلي:

– وجود 5.3 مليون هك من الأراضي الصالحة للزراعة موزّعة على كامل التراب الوطني ومتعدّدة الخاصيات والأنواع من حيث جودة التربة ودرجة خصوبتها وِفْق الأنماط المناخيّة للجهات وطبيعة التّضاريس، ممّا يعطي إمكانات أكثر تنوّعا في الإنتاج الفلاحي.

وتتوزّع هذه الأراضي الفلاحيّة وفق نوعيّة الزّراعات كما يلي:

  •  2 مليون هك مخصّصة للزراعات الكبرى (حبوب)
  •  2 مليون هك مخصصة للأشجار المثمرة منها حوالي 1.6 مليون هم للزياتين فقط وحوالي 400 ألف هك مخصّصة للمناطق السّقوية والتي تمثّل المصدر الأساسي في إنتاج الخضر والغلال.
  •  1 مليون هك أراضي بُور ومهملة منها 500 ألف هك أراضي اشتراكية وأراضي على الشّياع، خارجة دورة الإنتاج الفلاحي، وهي أراضي مهدّدة بالانجراف والتصحّر، أغلبها موجود بمناطق الوسط والجنوب الغربي والجنوب الشرقي.
  • 300 ألف هك مخصّصة للزراعات المختلفة.

– إمكانات مائية تقدّر بحوالي 4.5 مليار م3 سنويا منها حوالي 2.7 مليارم3 من المياه السطحية المعبّأة بالسدود و 1.8 مليار م3 من الموائد الجوفية.
– عوامل مناخية وموقع جغرافي يسمح بتعدد الغراسات وتنوّع المواسم، ممّا يمكّن من إثراء المنتوج الفلاحي على كامل السنة.
– موارد بشرية مهمّة وتجربة تاريخية رائدة في محيطنا الإفريقي والمتوسطي.

وتُعتبر منطقة الشمال الغربي، أحد أهمّ الركائز الأساسية للفلاحة التونسية، ولعلّ تهميش القطاع برمّته انعكس بشكلٍ مباشر على هذه المنطقة، التي تحوّلت رغم الثّراء إلى بؤرة للفقر والتهميش. فهل تستحق هذه المنطقة كل هذا التهميش رغم مواردها الطبيعية؟

فمساحة الشمال الغربي تساوي حوالي 1.656 مليون هكتار، أي قرابة 10 بالمائة من المساحة الجملية و21 بالمائة من المساحة الجملية القابلة للاستغلال، منها 1.076 مليون هكتار أراضي فلاحية خصبة وذات مردودية عالية، أي 65 بالمائة من مساحة الشمال الغربي وحوالي 20 بالمائة من المساحة الجملية للأراضي القابلة للاستغلال الفلاحي على المستوى الوطني.

كما يستأثر الشمال الغربي بمساحة غابيّة ورعويّة تساوي حوالي 460 ألف هكتار، تمثل 28 بالمائة من المساحة الجملية للمنطقة وحوالي 23 بالمائة من المساحة الغابيّة الجملية على المستوى الوطني.

وللشمال الغربي واجهة بحريّة بطول 56 كلم بولايتي باجة وجندوبة، وهي بنفس المسافة للواجهة البحريّة الممتدة من الحمامات إلى منطقة هرقلة- السلوم. فهل تمّ استثمار هذه الواجهة البحرية الثريّة بمقوّمات لا توجد بالواجهات البحرية الساحلية حيث الشواطئ الرّملية والغابات والجبال؟

أمّا بالنسبة إلى الموارد المائية، فيمكن القول إنّ الشمال الغربي يمثّل الخزّان الاستراتيجي للماء في البلاد، حيث يحتوي على 65 بالمائة من المياه السّطحية المعبئة، أي حوالي 1.17 مليار م3 سنويا في حوالي 75 بالمائة من السدود على المستوى الوطني. هذا إلى جانب الأودية والموائد المائية العذبة التي يزخر بها، الشّيء الذي جعل ممّن في الحكم يحوّلون كمّيات ضخمة من هذه المياه عبر خطّ قنوات متعدّدة إلى مناطق الساحل والوسط لاستغلالها فلاحيّا وصناعيّا وسياحيّا.

ورغم ذلك، بقي الشمال الغربي يمثل الثّقل الفلاحي الأكبر في البلاد وخاصة في مجالي الزّراعات الكبرى والزراعات العلفيّة، حيث يوفّـر 65 بالمائة من إنتاج الحبوب على المستوى الوطني و45 بالمائة من الأعلاف و80 بالمائة من المنتوج الغابي وطنيا.

لكن ورغم هذه الخصائص الطبيعية والبشرية والتجربة التاريخيّة للقطاع الفلاحي، سواء على المستوى الوطني أو على مستوى الشمال الغربي، فإنّ واقعه وموقعه في الاقتصاد الوطني لا يعكس هذه الأهمّية الطبيعية والتاريخية.

واقع القطاع الفلاحي وإشكالاته الهيكليّة

تاريخيا، مثّل القطاع الفلاحي المجال الأكثر تشغيليّة ومساهمة في النّاتج المحلي الخام، ولكن بمرور الزمن وطِبقا للسّياسات المتّبعة خاصّة منذ أواخر السّبعينات وبداية الثمانينات وإلى الآن، تراجع دور الفلاحة وتقلّصت مساهمتها في إنتاج الثروة بالبلاد، فبعدما كانت الفلاحة تساهم بحوالي 30 بالمائة من الناتج المحلّي الخام خلال الستّينات، تراجعت إلى 22 بالمائة خلال الثمانينات لتستقرّ في حدود 8.5 بالمائة من الناتج المحلي الخام سنة 2018. كما تراجعت الطاقة التشغيليّة تبعا لذلك لهذا القطاع حيث فقد الرّيادة في التشغيل التي كان يتميّز بها خلال الستّينات وبداية السبعينات لتصل تشغيليّة القطاع الفلاحي خلال السنوات الأخيرة إلى حدود 15 بالمائة فقط، أي حوالي 475 ألف موطن شغل فقط، منها 10 بالمائة أي 47 ألف، أجراء فلاحيّين، مما يعني أنّ القطاع الفلاحي لم يتطوّر إلى مستوى القطاع ذات القدرة التشغيليّة العصرية والمكوّن لطبقة من العمال الفلاحيّين المهيكلين، بل حافظ على الطابع العائلي للنشاط الفلاحي (36 بالمائة من مواطن الشغل بالقطاع)، وهو ما يجعل جزء من القطاع مقتصرا على توفير الإنتاج للاستهلاك العائلي في غالب الأحيان. كما أنّ المستغلات الفلاحية التي تمثل حوالي 54 بالمائة من الطاقة التشغيلية للقطاع تعاني من إشكالات هيكلية متمحورة خاصة في تقلص المساحات، ممّا يجعلها غير قادرة على تطوير إنتاجها ومَكْنَنة طُرق العمل.

لذلك تراجع الإنتاج الفلاحي بالنسبة إلى كلّ الغراسات وخاصة الزّراعات الكبرى، وتدنّت المردوديّة المباشرة للأراضي الفلاحية بسبب الإهمال وقلّة الدعم المباشر من الدولة للفلاحين، وسيطرة الدُّخلاء على القطاع الذين تمتّعوا بالأراضي الدولية وبالقروض لإنتاج مواد فلاحية معدّة للتصدير فقط وما يعنيه من استنزافٍ لمواردنا المائية الشّحيحة أصلا في هذه الظروف.

بلغة الأرقام، نجد أنّ مردودية الأراضي التونسيّة في مجال الحبوب لم تتجاوز 15 قنطار للهكتار، وهي مردوديّة ضعيفة بالمقارنة مع مردودية أراضي دول مشابهة لنا في المناخ وفي نوعية التّربة، فنجد مثلا أنّ المردودية في الجزائر تتجاوز 35 قنطار للهكتار، وحوالي 42 قنطار بالمغرب، أمّا سوريا فإنّ المردودية تتجاوز 50 قنطارا للهكتار وهو ما مكّنها من تحقيق السيادة الغذائية الوطنية في مجال الحبوب وبأسعار تنافسيّة، وهو عكس ما حقّقته العربية السعودية من اكتفاءٍ ذاتيٍّ من القمح ولكن بكلفة كبيرة للقنطار (ثلاث مرات متوسط الكلفة العالمية).

ولقد كان لهذا الوضع المتردّي للفلاحة، نتائج وخيمة على الإنتاج وعلى وضع الفلّاح على حدّ السواء، فارتفعت المديونيّة لأغلب الفلاحين الصّغار والمتوسّطين لتبلغ سنة 2018 حوالي 450 مليون دينار (أصل وفائدة) ممّا أعاق جلّ الفلاحين عن العمل وعن الإنتاج، مع تراجع كبيرٍ لدوْر الدولة في مجال الدّعم والتخفيف من المديونيّة وتوفير مستلزمات النشاط الفلاحي من أسمدةٍ وبذور وماء الريّ، حيث سيطرت المافيا القديمة الجديدة على كل مسالك هذه المواد الأساسية للنشاط الفلاحي. وكنتيجة حتميّة ومباشرة لكل هذه الأوضاع لقطاع الفلاحة، تخلّى أصحاب الأرض من الفلّاحين الصغار عن أراضيهم، ونزوحهم الجماعي للمدن الكبرى وخاصة العاصمة وأحوازها والمدن الساحلية، وتحوّلوا إلى سكان للصّفيح المحيط بالمدن وإلى عمّال في حظائر البناء وباعة متجوّلين.

ويمكن تلخيص أهم الإشكالات الهيكليّة للقطاع الفلاحي في تونس في النّقاط التالية:

  •  الإشكال العقاري: المرتبط بمساحة الأراضي الفلاحية وطبيعة الملكية. فحوالي 47 بالمائة من الفلاحين يملكون أراضي متوسّط مساحتها 3.5 هك ممّا يمثل عائقا لتطوّرها ومكننة طرق الإنتاج. كما أنّ انتشار الأراضي الاشتراكية أو المشاعة بالعديد من المناطق وخاصة بالوسط والجنوب جعل آلاف الهكتارات خارج دائرة الإنتاج الفلاحي.
  •  ارتفاع المديونيّة للفلاّحين: التي تتجاوز 450 مليون دينار ممّا ينعكس سلبا على إنتاجيّة الفلاحة ومردوديتها وتجعل الفلاح كأنّه يعمل لخلاص الديون فقط.
  •  ارتفاع كلفة الإنتاج: والتي ترتبط عادة بضعف الدّعم المباشرة للفلاحين، وارتفاع أسعار المواد اللازمة للنّشاط الفلاحي مثل المحروقات التي تمثّل لوحدها 60 بالمائة من الكلفة بالنسبة للفلاحة و70 بالمائة للصيد البحري.
  •  شيخوخة القطاع: حيث أنّ 43 بالمائة من الفلاحة تتجاوز أعمارهم 60 سنة. كما أنّ معدّل عمر الفلاح في تونس 55 عاما، ممّا يجعل من القطاع محافظا وغير قادر موضوعيّا على التطوّر والاندماج التكنولوجي
  •  الفلاحة في تونس لا تعتبر مهنة لها قواعدها وشروط ممارستها، فيكفي أن تشتري أرضا فلاحية لتصبح فلّاحا. هذه الإشكالية جعلت القطاع يعاني من الدّخلاء الذين لا ينظرون إلى الفلاحة لا من منظور الرّبح السريع على حساب الأرض وجودة المنتج واحترام قواعد ممارسة النشاط الفلاحي.
  •  ضعف الدّعم المباشر الموجّه للفلاّح، ممّا أفقد العديد من المنظومات قدرتها التنافسية وجعلها غير قادرة على مواكبة التحولات المحلية والإقليمية والدولية في المجال.
  •  ضعف المردوديّة: خاصة في إنتاج الحبوب والأعلاف (15-20 قنطار هك في تونس مقابل 35 بالجزائر و42 بالمغرب و50 بسوريا)
  •  ضعف القيمة المضافة للقطاع الفلاحي: من خلال ضعف الصناعات التحويلية للمواد الفلاحية التي لا تمثّل سوى 3.2 بالمائة من الناتج المحلي الخام، أي أننا نصدر جلّ إنتاجنا الفلاحي مواد خام كالبرتقال والتمور وزيت الزيتون و…
  •  ضعف التأمين الفلاحي
  •  ضعف التأطير والمتابعة الفنّية للفلاحين
  •  إشكالات هيكليّة تتجاوز الواقع المحلّي مثل التحوّلات المناخيّة والتّصحّر

وأمام هذه الإشكالات الهيكلية المزمنة للقطاع الفلاحي، فإنّ نتائجه كانت كارثية على مستوى قدرة هذا القطاع على تلبية حاجيات البلاد من المواد الأساسية الحياتية، إذ أصبحنا نستورد:

  •  ما بين 65 إلى 75 بالمائة من حاجياتنا من القمح اللّين
  •  ما بين 25 إلى 30 بالمائة من حاجياتنا من القمح الصلب
  •  40 بالمائة من حاجتنا من الأعلاف
  •  كامل استهلاكنا من الزّيوت النباتيّة ونحن ثاني منتج عالمي لزيت الزيتون
  • كامل حاجيات قطاع الدّواجن من الأعلاف (الدواجن توفّر 75 بالمائة من اللّحوم المستهلكة على المستوى الوطني)

في المقابل نستنزف مواردنا المائية لإنتاج الفراز والبطيخ خارج الفصل والغلال غير الفصلية والبرتقال للتصدير. ذلك أنّ الامبريالية قد حكمت علينا أن ننتج لها الغلال والفواكه مقابل أن توفر لنا هي المواد الأساسية الحياتية حتى تمعن في إذلالنا والسّيطرة علينا وإجبارنا على السير في ركابها. ولعلّ مشروع اتفاقية الأليكا سيكمل ما بقي من اتفاق الشراكة مع الاتّحاد الأوروبي.

مشروع اتّفاقية الأليكا مع الاتّحاد الأوروبي ومخطّط تدمير القطاع الفلاحي

حتى نفهم بشكل جيّد التحديات المطروحة على فلاحتنا في تونس، والمخاطر التي تهدّدها في ظلّ مشروع اتفاقية الأليكا، يجب علينا أن نسوق بعض المعطيات عن الدّعم الكبير التي تحظى به الفلاحة الأوروبيّة.

فالقطاع الفلاحي الأوروبي يمثّل أحد أهم القطاعات تقديسا وتدعيما من طرف الاتّحاد الأوروبي. إذ تمثّل السياسة الفلاحية الموحّدة “PAC” 40% من ميزانية الاتّحاد الأوروبي. وقد خصّصت لهذه السياسة 362،8 مليار أورو للفترة 2014- 2020 (أي أكثر من 10 مرّات الناتج المحلي الخام لتونس) موزّعة كما يلي:

– 278 مليار أورو (76 %) للتّحويلات المباشرة ودعم السوق: تأمين دخل أدنى للفلاحين بقطع النّظر عن مستويات إنتاجهم.
– 85 مليار أورو (24 %) لبرامج التّنمية الرّيفية وهي أموال تخصّص للرفع من مستوى البُنى التحتية واللّوجستية للأرياف الأوروبية بشكل يجعلها في نفس مستوى المدن، بهدف ضمان بقاء الفلاحين في مواقع إنتاجهم وتأمين السّيادة الغذائية الأوروبية.
– المنتجات الفلاحية الأوروبية تتمتّع بدعم مرتفع، ممّا جعل مستوى إنتاجيتها 7 مرّات أعلى من إنتاجية الفلاحة في تونس.

وتعتبر الحبوب وتربية الماشية واللّحوم البيضاء أكثر القطاعات الفلاحية دعْمًا في أوروبا

فهل يمكن لقطاعنا الفلاحي بهذه الإشكالات الهيكليّة أن ينافس بنِدِّيَّة القطاع الفلاحي الأوروبي في إطار مشروع اتّفاق التّبادل الحرّ الشامل والمعمّق (الأليكا) الذي يُناقَش حاليّا بين الحكومة التونسية والاتّحاد الأوروبي؟

لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلّا إذا تعرّفنا على أهمّ النقاط المطروحة في مشروع الاتّفاقية، إذ تمحور مشروع الاتّفاق على النقاط التالية:

قائمة المواد الحسّاسة أو ما عبّرت عنه الوثيقة المعدّة من طرف الاتّحاد الأوروبي ”بالقائمة السّلبية“ والمعالجات التي ستخصّص لهذه المواد.

  •  جدول مفصّل لإلغاء الحواجز والمدّة الانتقالية للطرف التونسي وإيقاع التخفيضات التعريفيّة لجملة المواد المعنيّة بالاتفاق.
  •  العمل على مطابقة قطاع الصحّة الحيوانيّة والنباتيّة المحلّية مع المواصفات الأوروبية ومنظمة الصحّة العالمية والمنظمة الدّولية لتربية الماشية أو ما يعبّر عنه بالفرنسية SPSS
  •  تركيز منظومة شفافة لتبادل المعلومات حول مسارات تتبّع إنتاج المواد الفلاحية والحيوانية fiche de traçabilité des produits agricoles
  •  الطّرف المورّد بإمكانه إلغاء أيّ صفقة من المواد الفلاحية أو مواد الصيد البحري في إطار مبدأ حماية الصحة السكانية أو التوقّي من العدوى
  •  تحديد الكمّية القصوى للتصدير أو التوريد يتمّ احتسابها بناء على فترة مرجعيّة بالثلاث سنوات الأكثر حداثة وتتوفّر على إحصائيات دقيقة ومجدية (من يحدّد هذه الخصائص؟)
  •  تسريع وتيرة تحرير تجارة المواد الفلاحية ومواد الصّيد البحري والمواد الفلاحية المحوّلة.

كما تمّ إدراج موضوع الإجراءات غير التعريفيّة والمتعلّقة بالإجراءات الصحّية والصحة النباتية في مشروع مستقلّ يتمحور حول الإجراءات الصحّية والصحة النباتيّة والعوائق التجارية. وتعتبر هذه الإجراءات الأخطر على الإطلاق في مشروع الاتّفاق لأنها تتعلّق بالمواصفات الإنتاجية للمواد الفلاحيّة والتي لا يمكن تسويقها إلاّ إذا كانت مطابقة لها. وهو ما يعني أننا في تونس إنْ لم نركّز هذه المواصفات فإنّ منتجاتنا الفلاحية لم تعد قادرة أولا على التصدير، وثانيا فإنّه لا يمكننا بيعها محلّيا، وبالتالي فإننا سنكون مضطرّين إلى توريد هذه المواد من الاتّحاد الأوروبي الذي وضع المواصفات وأهّل فلاحته لذلك منذ عقود، وهذا هو الهدف الأساسي لمشروع اتّفاقية الأليكا. مع العلم أنّ اتفاقية الأليكا، وبعد الصعوبات والرّفض الواسع الذي بدأ يتوسّع جماهيريا من خلال نضال القوى التقدّمية والديمقراطية ضدّها، فإنّ عملاء الاتحاد الأوروبي وزبانيّته أصحاب الأغلبية في البرلمان قد قرّروا تمريرها في شكل قوانين على غرار قانون الاستثمار وقانون الشراكة بين القطاع العام والخاص وقانون استقلالية البنك المركزي وقانون تحفيز الاستثمار. ولعل آخر القوانين التي تمّ تمريرها خلال شهر فيفري 2019، والذي يخصّ الفلاحة، هو قانون الصحّة الحيوانية والنباتية المسمى SPSS والذي سيجعل الفلاح التونسي مهددّ بالسّجن لمدة تصل إلى عشرين عاما وخطيّة مالية بحوالي 200 ألف دينار إذا أنتج مواد فلاحية تحتوي مواد أو مبيدات أكثر ممّا هو مسموح به أوروبيا باعتبار أن القانون الجديد ليس إلّا المواصفات الأوروبية.

فهل يمكن للفلاح التونسي وفي مدّة سنتين التي أعطاها القانون الجديد، وفي ظلّ غياب الدعم والمتابعة والمساندة المالية من طرف الدّولة أن يتهيّأ لمثل هذه المواصفات والقوانين؟ طبعا لا. ولكن مهمّة مشروع الأليكا هو دفن ما تبقّى من إنتاجنا الفلاحي وتحويلنا إلى مجرّد سوقٍ لاستهلاك فوائض الإنتاج الفلاحي الرأسمالي.

وتعبيرا عن مشروع الأليكا، وبشكل أكثر تكثيفا، يمكننا أن نعرّفها ببساطة في الجملة التالية: “يجب علينا أن تستهلك ما ينتجه الاتّحاد الأوروبي، وأن نُنتج ما لا يريد أو ما لا يستطيع الاتّحاد الأوروبي إنتاجه”.

أفلا يستحقّ مشروع الاتّفاقية وبهذه الخطورة خوض معركة مصيريّة ضدّها لأنّها معركة المستقبل، فإمّا أن نتحوّل إلى مجرّد كيانات تابعة غذائيّا للاستعمار، أو ننتصر لتحقيق سيادتنا الغذائية؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

اثنان × 3 =

إلى الأعلى
×