الرئيسية / رأي / انحطاط الخطاب السياسي في تونس وشهوة الدم
انحطاط الخطاب السياسي في تونس وشهوة الدم

انحطاط الخطاب السياسي في تونس وشهوة الدم

مراد الحاجي

يعيش التونسيون على وقع الشتائم في وسائل الإعلام يتبادلها نشطاء السياسة والإعلاميون في هستيريا غريبة أصبح فيها الصوت العالي والقدرة على كيل الشتائم مجلبة للفخر وأداة من أدوات ممارسة السياسة. وكمصارعي حلبات الرومان القديمة يتباهي كل طرف بقوته وبسلاطة لسانه ويتباهى بصرع خصمه بالضربة القاضية في كلاشات مسفّة إلى درجة البذاءة.

وحين ينتهي دور الساسة يبدأ الشوط الثاني من البذاءة على صفحات التواصل الاجتماعي. فيعلن شيعة كل فريق الحرب على خصومهم. وهي خصومات تُنتهك فيها الأعراض وتُستباح فيها الكرامة الإنسانية وتعلو نبرات تُمنّي الموت فتُحمد كل الالهة من زوس إلى بوذا على أننا لسنا شعبا مسلحا.

يتمّ كلّ هذا والنخبة السياسية والإعلامية التي يُفترض بها أن تصدّ كلّ خروج عن أخلاقيات التعايش والغة في الأعراض وفي الشتائم. ولا أحد يتحدث عن أخلاقيات العمل الصحفي ولا أخلاقيات السياسة فيما يخص من يتشيّع له والجميع يتذكّرها إذا تعلّق الأمر بالخصم.

نجوم السياسة في تونس ما بعد الثورة من كرونيكورات وساسة لم يفهموا التعايش المشترك: كرونيكورات، مع احترامنا لبعضهم، هوايتهم الاستفزاز وليّ عنق الحقيقة في كثير من الأحيان وحتى الجادون منهم قد تزلّ بهم القدم أحيانا حين تطغى الحماسة ولا أحد منهم يجد من يقول له إنك أخطأت ممّن يدينون بمذهبه. فالحرية والكرامة الإنسانية أرقى من كلّ شيء وينبغي احترامها حتى في خصومنا. كما أنّ أخلاقيات العمل الصحفي حتى الساخر منه لا يمكن أن تطال فيها السخرية الذات البشرية وتشبه الناس بالحيوانات. وكم وقفت البشرية ضد جماهير الكرة التي ترمي الموز إلى بعض اللاعبين الأفارقة في تلميح إلى قَرابة بالقردة. ومع محبتي لما يفعله المكي وإعجابي به فإنّ ذلك لا يمنع من أن نقول إنه قد أخذته الحماسة أمام بذاءة ما يصدر عن ساسة ائتلاف الكرامة.

أما الساسة فمجلس النواب التونسي سرك شاهد على البذاءة من ائتلاف الكرامة ومخلوفها إلى الدستوري الحر وعبيره مرورا بالنهضة وكسيكسيتها. الكل يتبادل الشتائم والكل يبكي مدعيا أنه الضحية وهم يتبارون في ذلك. والكل يعلنها صارخا أنه مهدد بالاغتيال. والكل لا يرون حرجا في صفحات أحزابهم والتعاليق الواردة فيها والتي تُحرّض على قتل الخصوم، وهذا لا يستثنى فيه حزب إلاّ من رحم زوس. ويطغى على الأنصار هوس غريب لتسميات تحيل على الحرب والحيوانات من السباع الضواري. فمن الجنرال إلى اللبة  إلى الأسد إلى ” اللي معذبهم” يحفل المعجم بالعنف الذي يتقنّع في الاستعارات. وهي استعارات تختزل صورة البطل الباطش الذي يقضي على الخصوم ويمحقهم دلالة على جو الكراهية السائد والذي يختزل الرغبة في ممارسة العنف في عنف الخطاب.

حديث الوضوء ـ “توضوا قبل ما تحكوا علينا”  – قبل الكلام خطاب ينضح بالإقصاء واعتبار الآخر نجسا في مقابل القداسة التي يتمّ اختزالها في المنتمين  إلى الجماعة التي تمثل الطهارة. وهو خطاب ترذيل للآخر وبث للكراهية. يقابله أيضا خطاب “بوبي” الذي يختزل الآخر في صورة الكلب اللحاس بما تعنيه في المخيال الجمعي خطاب فيه نفس النزعة وإن كانت أقل حدّة. ويبدو أنه انجراف وراء حماسة الرد على بذاءة الخطاب الأول. ولم يتأخر الرد من نفس المعجم فإذا نحن أمام دائرة من عنف الخطاب والكل يستنفر شيعته الذين لا يتأخرون في النصرة دون أيّ تنسيب. وهو ما يحيل على عوالم التجييش وتتوسع بقعة الزيت فتتوسع نبرة العنف في الخطاب لدى الانصار والكل يدعو إلى الموت للخصوم على طريقة قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.

أمام ما يحدث في وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل من حروب كلامية لسائل أن يسأل أين الشعب المغلوب على أمره من هذا العنف في الخطاب؟ ولعل المتأمل لا يجد صعوبة في القول إنّ خطاب الشارع ليس أقلّ عنفا من خطاب الساسة. بل إنّ الساسة والإعلاميين نقلوا كثيرا من عنف الشارع إلى الممارسة الإعلامية والسياسة. وأصبحت عبارات كلوشار سبّة في حين والقدرة على الكلاش والقرحة مفخرة في أحيان أخرى. غير أنّ هذا الشارع الغارق في عنفه سئم عنف الساسة الذين بدل أن يخلّصوه من وضعه أصبحوا يتّخذونه وقودا لمعاركهم والتهمة التي يتبادلونها هي الشعبوية في وقت أنهم كلهم شعبويون ولا يستطيعون أن يكونوا غير ذلك. من هنا أصبح عامة الشعب إمّا شيعة للعنف في جهة ما أو يمارسون عنفهم المعمّم عبر اتهام الجميع بأنهم سراق وملاعين.

غير أنّ هذا العنف في الخطاب الذي حمدنا كلّ الآلهة أنه  لا يصدر عن شعب يباح له السلاح يكشف عن شهوة الدم في أحيان كثيرة وهي تتجسد في المناداة بموت الخصوم. ولكنها تظهر بجلاء في مواقف الخصوم من ملف ليبيا القريب منا والذي يناصر فيه الساسة التونسيون والإعلاميون كلّ حسب انتمائه شقا من المتصارعين وهو ملف يفضح شهوة الدم بامتياز. فصفحات التواصل الاجتماعي ومواقف بعض الإعلاميين والساسة تعرّي شهوة الدم. فكل فريق يصفّق لقدرة الفريق الذي يناصره  في ليبيا على الإفناء والقتل ويعتبر القتلى مجرد جرذان  وكأنه ينتقم من خصومه الداخليين بمقتل أمثالهم هناك. ولا يعدم الفريق المقابل وسائل للاحتفال هو الآخر حين يقتل من يناصرهم خصومهم فيهلل للموت والقتل والتعذيب ويتشفّى في خصومه في الداخل. لا مكان عندها للكرامة الإنسانية ولا لحقوق الإنسان ولا قيم السلم ولا نبذ الدماء والموت الكل يرى شيعته على حق. وإذا منطق السياسة والمواقف على طريقة فولترون الآلي الذي يمثّل الخير ويقضي على كلّ الخصوم.

غير أنّ شهوة الدم هذه التي تتجسد في الخطاب والمواقف مخيفة فعلا لأنه يخشى انفلاتها من عقالها. ذلك أنّ الكراهية الكامنة في الخطاب وشهوة الدم هذه لا تبشّر بخير  كما أنّ التخندق العاطفي في المواقف يدفع العملية السياسية برمتها إلى الاحتقان وأن تُبنى زعامات على الطريقة اللبنانية وإعلام على نفس الطريقة.

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×