الرئيسية / صوت الوطن / عندما يضيق الوطن بشبابه… يدفعهم إلى الانتحار قسرا
عندما يضيق الوطن بشبابه… يدفعهم إلى الانتحار قسرا

عندما يضيق الوطن بشبابه… يدفعهم إلى الانتحار قسرا

حسين الرحيلي

لم تكن أزمة تفشّي وباء كورونا المستجد إلاّ المفجّر الحقيقي والكاشف الناصع للفقر والتهميش وانخرام التوازن الجهوي بهذه البلاد التي تُساس ومنذ زمن طويل من قبل مجموعة مرتزقة وسماسرة للحساب الخاص ولدوائر النهب الامبريالي بكل أشكاله وتمظهراته وارتباطاته المشبوهة. ولقد كان من نتائج هذه الخيارات والتوجهات السياسية أن تحوّل الوطن إلى ساحة انتحار جماعي لأبنائه. بعدما ضاقت بهم السّبل وفقدوا الانتماء لوطن لم يعد قادرا على توفير أبسط حاجيات البقاء على قيد الحياء.

هذا الوطن أفاق يوم العيد على موت شباب ينتمون إليه، موت ليس بسبب وباء “الكورونا” أو بسبب عمليات إرهابية أو غيرها من الأسباب التي يمكن أن نجد لها مبرّرات موضوعية. موت بسبب التّسمّم لتناول مادة القوارص المشبعة بكحول “الميثانول” ذي درجة التركيز العالية. وهي مادة تستهلك من قبل الفقراء الذين لا يجدون أيّ حلّ لنسيان واقع الفقر والغبن والتهميش. كما أنّ هذه المادة لا تباع إلاّ بمناطق الفقر وولايات التهميش التي تَقَرّر سياسيا الحفاظ عليها لتبقى خزّانات انتخابية لسماسرة السياسة في هذا الوطن الجريح.

عندما يصبح التهريب والمسالك الموازية سياسة دولة

كالعادة كانت ولايتي القيروان وسيدي بوزيد مسرحا لهذه الفاجعة، إذ تسمّم بمنطقة حاجب العيون حوالي 32 شابا تُوُفّي منهم 6 يوم الاثنين وتوسّعت دائرة التسمّم لتشمل شباب من جلمة من ولاية سيدي بوزيد ليرتفع عدد حالات التسمم إلى 56 ويرتفع عدد الضحايا إلى سبعة. ويتوقع الإطار الطبي بالجهتين أن يرتفع عدد الضحايا في الأيام القادمة نظرا لوجود 9 حالات في وضعية حرجة. ومن خلال التحقيق تبيّن أنه تمّ توزيع حوالي 500 لتر من هذه المادة بالجهتين يومي العيد. وهي المادة الوحيدة المتوفرة بعدما أقدمت كلّ الحكومات السابقة من خلال تحالف الدّين مع مهرّبي الجعة والخمور لغلق كل المسالك القانونية لترك المجال مفتوحا لأصحاب المخازن غير الشرعية لبيع المشروبات الكحولية خلسة           والتهرّب جبائيا من كل الأداءات تحت غطاءات عدم فتح محلات البيع القانونية بالقيروان لأنها عاصمة الحضارة الإسلامية وفق ما يُسوّق الإسلام السياسي المتحالف مع المهرّبين والإرهابيين، باعتبار أنّ أصحاب المخازن السرية لبيع المشروبات الكحولية يبقون دوما المموّلين الرئيسيين لمن هم في السلطة بكل تحالفاتها غير الطبيعية. 

وعندما يتمّ الاحتكار بمساندة السلطة فإنّ أسعار هذه المشروبات لا يمكن أن تكون في متناول غالبية أبناء الشعب بهذه الجهات المحرومة والفقيرة والمهمشة. وأمام انسداد الأفق وللبحث عن وسائل النسيان، يجد الشباب نفسه مدفوعا لتناول هذه السموم واضعا حياته في خطر، رغم إيمانه بأنّ واقعه كلّه في خطر حيث يعيش البطالة والتهميش وانعدام أبسط ظروف الحياة الكريمة في وطن جريح تسيّره عصابة من الفاسدين الذين لا يفقهون إلاّ هدر الأموال العمومية لصالح أجنداتهم ومموّليهم الانتخابيّين. وإلاّ كيف يمكن أن نفهم استغلال كورونا لتحويل 1550 مليون دينار من المال العام لأصحاب الشركات التي تراكم الثروة، وتوفير 500 مليون دينار لأصحاب النزل الذين يراكمون المال كل سنة. وبيع الوهم  لملايين من العمال والفلاحين وعمّال الحضائر والمعطّلين، وتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم.

القيروان في قمة المؤشرات السلبية للتنمية

فولاية القيروان تواصل تحطيم الأرقام القياسية في المؤشرات السلبية. إذ تتصدّر الترتيب في نسب الانتحار على المستوى الوطني، وتتذيّل الترتيب مع ولايات سليانة وقفصة والقصرين وسيدي بوزيد في مؤشرات التنمية. كما تتصدّر القيروان الترتيب في الانقطاعات الدورية والمستمرة للماء الصالح للشراب منذ 2011 إلى اليوم. وهي الولاية التي تقدّم أكثر ضحايا من العاملات الفلاحيات اللاتي يُحملن كالحيوانات في سيارات الموت للذهاب إلى العمل. إضافة إلى الارتفاع الكبير لعدد المعطّلين عن العمل بعد ولايتي قفصة وتطاوين.

كما أنّ ولاية القيروان تمثّل نموذجا للفشل الكامل للسلطة على مرّ عقود من الزمن، حيث لا تتوفّر فيها مسارح ولا مكتبات كبيرة ولا قاعات للسينما ولا فضاءات ترفيهية تساعد الناس على تجاوز البؤس الشامل المحيط بها. رغم أنها كانت خلال الستينات تتمتع بالعديد من الفضاءات وبها قاعة للسينما وغيرها من خدمات عمومية ثقافية. إلاّ أنّ حكام تونس القدامى والجدد قد قرّروا تركها لمصيرها لا نتذكّرها إلاّ بمناسبة المولد النّبوي فقط. لنحوّلها بذلك إلى ولاية متحفيّة لا تصلح إلاّ للاحتفالات الدينية الفلكلورية على الطريقة “الداعشية” أو بالأحرى على طريقة “دواعش” القرن الواحد والعشرين (عصابات النهضة وحلفائها)

صمت مريب  للسلطة أمام الفاجعة

ورغم الفاجعة وارتفاع عدد الضحايا والمصابين، فإنّ حكومة الفخفاخ لم تصدر أيّ بيان حول الموضوع، وكأنّ المسألة ليست مهمة ولا تمثّل حدثا جللا يتطلّب موقف السلطة. ذلك أنّ الذين ماتوا وتسمّموا ليسوا إلاّ فقراء ومهمّشين ليس لهم الحظوة في هذا الوطن. بل هم مجرّد أرقام نحتاجها عند الانتخابات فقط. 

فأصحاب السلطة منشغلون بصراعاتهم وبتنازعهم حول الصلاحيات وتدعيم مواقعهم المستقبلية، في إطار مسرحية سريالية سيّئة الكتابة والإخراج والممثّلين الذين استُجلبوا جلّهم من الخارج لإدارة وطن قرّروا تحويله إلى شركة ذات مسؤوليّة محدودة لبعض الأفراد فقط.

إنّ قضية التسمّم هذه ليس مجرد حادثة عابرة لشباب طائش ومعربد ولا يرجى منه خيرا. بل هذه قضية مرتبطة بالنتائج المباشرة لسياسات الفقر والتهميش وما ترتّب عنها من انسداد للأفق والضياع الذي يعاني منه شباب هذه البلاد. الذي قرّر إمّا الموت البطيء بداخله عبر تناول السموم، أو الموت بالبحر عبر الهجرة غير النظامية طلبا للجنة الموعودة وهما بدول الشمال.

سياسة الاستثمار في الفقر… جريمة دولة

إنّ ما حصل يوم العيد بكلّ من حاجب العيون وجلمة يعتبر جريمة دولة بامتياز، هذه الدولة التي ساهمت من خلال اختيارات وتوجهات من في السلطة بدفع الشباب إلى اليأس الكامل إلى درجة الإحباط، والعمل على الانتحار. وليست كما ركّزت الصفحات الزرقاء المأجورة لحساب عصابات النهضة الدينية التي حوّلتها إلى مسألة أخلاقوية مرتبطة بالحرام وتناول مسكرات في عيد الفطر وتكفير من قاموا بها في إطار تحويل القضية إلى مسألة الهوية والأخلاق والتكفير. وهو السلوك العادي لهذه العصابات الإرهابية التي لا ترى العالم إلاّ من خلال ثقافة الظلام والموت. والسعي إلى عدم ربطها بفشل الخيارات والسياسات التنموية بالبلاد منذ عهود طويلة، وخاصة خلال فترة سطوتهم على الدولة وأجهزة الحكم وتحويل البلاد إلى مجرّد بقرة حلوب لهم ولمموّليهم الأجانب بتركيا وقطر وطبعا راعيهم الرسمي الامبريالية الأمريكية والصهيونية التي من دونها لم يكن لهم وجود في هذه البلاد.

إنّ هذه الأحداث ليست إلاّ مقدّمات لفوران اجتماعي عميق، والذي انطلق فعلا بعد العيد مباشرة من خلال الإضرابات والتحركات الاحتجاجية والاعتصامات، خاصة بالجهات والمناطق المحرومة كالقيروان والقصرين وقفصة بمناطق الحوض المنجمي، والتي ستتّسع في قادم الأيام إلى جلّ مناطق البلاد، ومن قبل جلّ القطاعات التي كانت متضرّرة وعمّقت جراحها جائحة “كورونا”، خاصة بعدما تأكّدت كلّ الشرائح من أنّ حكومة الفخفاخ لم تقدّم لهم سوى الكذب والوهم، متوهمة أنّ شمّاعة “كورونا” ستبقى إلى ما لانهاية.

إنّ الاستثمار في الفقر والتّهميش والتعويل على قضايا الهوية والدّين، لم تعد وصفة سحرية لسماسرة السياسة وتجار الدّين في هذا الوطن الجريح الذي أصبح يضيق كلّ يوم بناسه. إنّ المرحلة القادمة لا يمكن أن تكون إلاّ زلزالا اجتماعيا واقتصاديا لمحترفي الفشل وصانعي الاستبداد وناشري ثقافة الفقر والموت والظلام. وموت الشباب وانتحارهم والإقدام على تناول السّموم ليست إلاّ مرحلة اليأس الكامل لفقراء هذا البلد الذي أثبتت جائحة “كورونا” أنهم يمثّلون أكثر من 40 بالمائة من هذا الشعب في نسبة صادمة لمن يفهم. أمّا الذين نصبوا لخدمة مصالح غيرهم وتطبيق وصفات مانحيهم وأرباب نعمهم فسيواصلون التّيه وبيع الوهم كما كانوا دائما.

ولكن نقول كما قال الصغير اولاد احمد:

فلو قتّلونا كما قتّلونا

ولو شرّدونا كما شرّدونا…

لعدنا غزاة لهذا البلد

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×