الرئيسية / صوت الوطن / عندما تقتل الدولة أبناءها ولا تعترف بقتلهم
عندما تقتل الدولة أبناءها ولا تعترف بقتلهم

عندما تقتل الدولة أبناءها ولا تعترف بقتلهم

نهاد المعلاوي

منذ أن وعت الدولة الحرج الّذي يوقعها فيه التضارب بين تبجّحها بالديمقراطية وامتلاك سلطة قطع الرؤوس على الملإ وفي الساحات العامة، وهي لا تدّخر جهدا في ابتداع طرق قتل أقلّ صخبا وأشدّ تأثيرا وأكثر شرعية أطلق عليها توماس ماثيزون مصطلح “الإسكات الصامت”.

ولا تعدو الطريقة التي تتّبعها الدولة التونسية في قتل أبنائها أن تكون نوعا من أنواع الإسكات الصامت المتكررة التي تنتهي بشبابنا طعاما للحوت أو لألسنة النار أو لعقدة حبل أو لجرعة “قوارص”…

إنّ التهميش والبطالة والفقر المدقع وغياب التنمية العادلة فيما يسمّى “مناطق الظل”، هي في الحقيقة أسلحة الدولة في ممارسة إسكاتها الهيكلي والممنهج والمنتشر انتشارا أشدّ خطورة من تفشّي الأوبئة والأمراض المستجدة.

غير أنّ العجيب هو أنّ الدولة بقدر ولوغها في دماء أبنائها بقدر تنصّلها من تهمة قتلهم. فهي تجتهد في جعل أسلحتها المذكورة سلفا تتحول إلى جزء من حياة الأفراد اليومية وواقعا لا بدّ من الرضى به رغم وعيها بما لهذا الواقع من قدرة بالغة على التأثير في الأفراد سلبا… فجماعة القوارص لم يموتوا لنقص الإيمان وقلة التربية وإنما قُتلوا بسلاح نقص الإمكانيات وقلّة الحيلة… لقد قتلتهم الدولة بصمت وبلا صخب… ووقع عليهم فعل القتل دون أن ينتبهوا أو ننتبه إلى ذلك… لقد تجرعوا شراب الموت قطرة قطرة فلم يباغتهم الموت بسبب جرعة “قوارص” كما تسعى مؤسسة الدولة إلى إقناعنا وإنما كان موتهم موتا سائلا يسقونه في أواني الذل والفقر… كان موتهم موتا مالحا بطعم دموع القهر… كان موتهم موتا لا مرئيا يحدث بطريقة تُعفي رجال الدولة من المسؤولية ماداموا نجحوا في إقناع ضحاياهم بأنّ الفقر والتهميش قضاء وقدر.

لقد كان جماعة “القوارص” يموتون كل يوم في حفلة قتل بطيء مشهدي تحولت بعد موتهم إلى مادة دسمة للكاميرا استدرارا للشفقة واستبعادا للمجرم الحقيقي مادامت الكاميرا تردّ موتهم إلى فقرهم المقدّر والمقضيّ…

إنّ جرعة القوارص لم تكن في الواقع إلآ جرعة “قتل رحيم” لم تقم إلّا بمهمة تسريع الموت البطيء الموجع والوحشي. فلا تقتلوا من مات بها مرتين… ولا يكن ظلمكم أشدّ إيلاما ومضاضة من جرح أكثر الوحوش برودا: الدولة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×