بقلم علي البعزاوي
ما إن أنهي رئيس الدولة مشروع بنائه القاعدي على المستوى السياسي بكتابة الدستور وإنجاز الانتخابات التشريعية فالرئاسية وتشكيل مجلس الأقاليم والجهات المسمّى غرفة ثانية حتى تفرغ لاستكمال الضلع الاقتصادي من هذا المشروع الذي سبق أن أصدر بشأنه يوم 20 مارس 2022 المرسوم عدد 15 الخاص ببعث الشركات الأهلية.
المشروع يتعثر والدولة تتدخل لإنعاشه
في البداية لم يقبل الشباب التونسي بأعداد كبيرة على بعث الشركات الأهلية الذي اقتصر عددها إلى حدود شهر أوت 2024 على 77 شركة 61 محلية و16 جهوية. إلا أنّ أغلب هذه الشركات لم تنطلق في العمل الفعلي وهي تواجه صعوبات عقارية ومالية وإدارية وقانونية. وباعتبار أنّ أغلب الباعثين من الشباب المعطل عن العمل فإنهم غير قادرين على توفير التمويل الذاتي وبالتالي توفير السيولة الضرورية للانطلاق في العمل. المشكل الأساسي يتمثل في غياب الرأسمال التشغيلي اللازم لضمان عمل الشركات واستمرارها وقدرتها على توفير مستحقاتها اليومية وأجور العاملين بها. وهذا الإشكال سيتضاعف في علاقة بالشركات الأهلية المنتصبة في المناطق الداخلية التي تعاني من هشاشة البنية التحتية. يضاف إلى هذه الإشكاليات قضية التسويق في مناخ عام اقتصادي ومالي متأزم ونسبة نمو ضعيفة تقارب الصفر. أي أنّ الشركات الأهلية التي دخلت طور الإنتاج ستجد صعوبات في التسويق والترويج المرتبط بالقدرة الشرائية للمواطن المهترئة أصلا. الانكماش الاقتصادي سيؤثر سلبا على هذه الشركات التي هي من صنف الشركات الصغرى أو المتوسطة علما وأن نسبة كبيرة من هذه الأخيرة -الشركات الصغرى والمتوسطة غير الأهلية- اضطرت للغلق بسبب عدم القدرة على الصمود.
لهذه الأسباب ومن أجل إعطاء دفع للمشروع وإنعاشه تدخلت السلطة من خلال ميزانية الدولة لمضاعفة خط التمويل ليبلغ 20 مليون دينار قابلة للتجديد وحثّ البنوك على تبنّي هذه المؤسسات وتمويل مشاريعها حيث استجابت خمسة منها لهذا الطلب إضافة إلى البنك التونسي للتضامن الذي تدخل منذ البداية. ووقع رصد منحة بـ800 دينار للشركات الأهلية يمكن الانتفاع بها لمدة سنة كاملة. هذا عدا الضمانات الأخرى والإعفاء من الأداء على القيمة المضافة وعلى كل عمليات التوريد والاقتناء المحلي للتجهيزات والمعدات والمنتجات والعقارات الضرورية للنشاط لمدة 10 سنوات. علما وأنه من المزمع الترفيع – وفق تصريح وزير التشغيل والتكوين المهني خلال مناقشة مشروع ميزانية 2025 – في سقف تمويل الشركات الأهلية من 300 ألف دينار إلى 1 مليون دينار إلى جانب تطوير التشريعات لإعطاء الأولوية لهذا النوع من المؤسسات لاستغلال الأراضي الدولية بعد أن كانت تستفيد فقط من الأراضي الاشتراكية. كما عيّن الرئيس كاتبة دولة مهمتها الإشراف على بعث وتنشيط الشركات الأهلية. إضافة إلى تدخّل الولاة ووزير الاقتصاد لمراقبة ومتابعة سير نشاط الشركات الأهلية وماليتها وقراراتها وتقديم الحلول البديلة عن قرارات مجالس إداراتها كلما كان ذلك ضروريا من وجهة نظر السلطة. حتى أنّ بعض المتابعين يرى أنّ هذا التدخل الفجّ وهذه السلطوية من الأسباب التي يمكن أن تكبّل مسيرة الشركات الأهلية وتقودها إلى الفشل على غرار تجربة التعاضد البنصالحية في ستينات القرن الماضي.
هل الشركات الأهلية قادرة على معالجة الأزمة؟
يتساءل العديد من التونسيات والتونسيين عن أسباب تمسك الرئيس بالشركات الأهلية وعن مدى صمود ونجاح هذه التجربة وقدرتها على معالجة الأزمة الهيكلية التي يعيشها الاقتصاد التونسي منذ 1956 إلى اليوم.
الواضح أنّ الرئيس مسكون بفكرة القطع مع السياسات السابقة والتأسيس لجديد مختلف ولو من حيث الشكل فقط. فما عيب على منظومة ما بعد الثورة هو عدم قطعها مع المنظومة التي سبقتها من حيث المحافظة على نفس منوالها التنموي الذي زاد في تعميق جميع المظاهر السلبية من فقر وبطالة وتبعية مفرطة. ولم ينتج عن انقلاب 25 جويلية أيّ تغيير في هذا المجال سوى تعميق تلك المظاهر مثلما حصل بإلغاء القانون 38 الخاص بتشغيل المعطلين من أصحاب الشهادات، وتهميش قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني، حتى جادت قريحته بمنظومة الشركات الأهلية التي ستمكن الشباب من إنتاج الثروة والظفر بمواطن الشغل.
فالشركات الأهلية هي من وجهة نظر الرئيس وتنسيقياته القاعدة الاقتصادية للبناء القاعدي. وهي طوق النجاة للشباب التونسي الذي يعاني من البطالة المزمنة والحل لمعضلة الفقر وأداة النهوض الاقتصادي وتحقيق التنمية والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية. هكذا يرى الرئيس الذي يحدوه أمل كبير في نجاح المشروع وإخراج البلاد من أزمتها الهيكلية.
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن الرئيس وتنسيقياته. فمشروع البناء القاعدي غير مقبول وغير موفق في جانبه السياسي باعتبار رفض أغلب التونسيات والتونسيين للمشاركة في الاستفتاء على الدستور وفي الانتخابات التشريعية والرئاسية التي اعتبرتها أغلب الأحزاب والمنظمات غير ديمقراطية وغير شفافة ودعت إلى مقاطعتها. أمّا مشروع الشركات الأهلية باعتباره الضلع الاقتصادي لمشروع البناء القاعدي فهو غير قادر على حل المعضلات الأساسية للاقتصاد التونسي.
أولا معضلة الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على المساعدات وتدخل الدولة عبر القروض والإعفاءات والامتيازات الضريبية وغيرها لتمكين الزبائن من الظفر بمرابيح على حساب عموم الشغالين الذين يتقاضون أجور بؤس ويخضعون لقوانين شغل جائرة. هذه المعضلة تتكرس أكثر في مشروع الشركات الأهلية التي يعتبرها العديد من المتابعين بما تضمنته من قوانين وإجراءات مشروعا سياسيا للسلطة الجديدة ومحاولة خلق نوع من الزبونية الاقتصادية والاجتماعية التي توفر حاضنة شعبية وجمهور موالاة للرئيس ولمنظومته الشعبوية.
ثانيا معضلة إنتاج الثروة والتشغيل. فإنتاج الثروة ضعيف في منظومة الاقتصاد الاستعماري الجديد الحالية وهو في الغالب إنتاج موجه لتلبية حاجات السوق الخارجية ويعتمد على القروض الواجب خلاصها بفوائد مرتفعة تستفيد منها الشركات والمؤسسات والدول الاستعمارية مقابل فتات للفئات المحلية الوكيلة. والتشغيل يتمّ بنسب ضعيفة وغير مستقرة وبأجور بؤس. وعديد الشركات والمؤسسات أغلقت أبوابها لتنتقل إلى جهات أخرى في العالم لأنها لم تعد توفر الهامش المطلوب من الأرباح. إن الشركات الأهلية باعتبارها من النوع الصغير والمتوسط غير قادرة على إنتاج الثروة ولا على التشغيل مهما تواصل ضخ المساعدات ومضاعفة خطوط التمويل والإعفاءات الضريبية وغيرها.
ثالثا معضلة التكامل بين القطاعات الاستراتيجية أي الفلاحة والصناعة والقطاعات الخدمية الأساسية والتي لا تحظى بالأهمية في ظل الاقتصاد الاستعماري الجديد لأن التمويلات والاستثمارات تتركز في قطاعات هشّة تخدم أساسا مصالح المستثمرين الأجانب ومشاريعهم وأجندات بلدانهم. لهذه الأسباب لا نجد استثمارات في الصناعة الثقيلة التي تنتج مستلزمات الاقتصاد الوطني التونسي ولا نجد استثمارات في القطاع الفلاحي من شأنها المساعدة على إنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب واللحوم والحليب والفواكه والخضر والغلال… فما بالك بالتعاون والتكامل بين هذه القطاعات الغائب أصلا. فهل ستعالج الشركات الأهلية هذه المعضلة من خلال الاستثمار في القطاعات الأساسية وضمان مسألة التعاون والتكامل بين قطاعات الإنتاج؟ الجواب واضح طبعا والشركات الأهلية بعيدة كل البعد عن هذا المجال باعتبارها مؤسسات صغرى وإمكانياتها ضعيفة وبحاجة هي نفسها إلى المساعدات لتستمر في الحياة.
الشركات الأهلية هي شركات صغرى وفي أفضل الأحوال متوسطة وهي غير قادرة بطبيعتها هذه على إنتاج الثروة ولا على التشغيل الواسع لجيوش المعطلين ولا على ضمان تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المواد التي تحتاجها البلاد ولا يمكن أن تؤسس للقطيعة المطلوبة مع الاقتصاد التابع القائم حاليا والذي يعيش أزمات هيكلية وهي غير قادرة على توفير شروط الاقتصاد المستقل القادر على النهوض والتطور بالاعتماد على القدرات الذاتية.
تونس بحاجة إلى خيارات اقتصادية جديدة ومشاريع كبرى في الصناعة والفلاحة والخدمات الأساسية والبنية التحتية تقوم بها الدولة التونسية المستقلة والسيّدة التي قطعت سياسيا واقتصاديا مع كل أشكال التبعية، دولة لا تخضع لحسابات ومصالح البورجوازية الكمبرادورية المحلية الوكيلة المؤمنة لمصالح القوى الاستعمارية وشركاتها العملاقة ومؤسساتها النهابة بل دولة متجهة نحو خدمة الأغلبية الشعبية صاحبة السلطة الحقيقية في الجمهورية الديمقراطية الجديدة.
إن الشعب التونسي وقواه الثورية والديمقراطية والتقدمية مطالبون بالنضال المنظم من أجل هذا البديل القادر على معالجة الأزمة الهيكلية التي يتخبط فيها الاقتصاد المحلي والتي لم تفدها الحلول الترقيعية التي توختها مختلف المنظومات بما في ذلك الحل المتمثل في الشركات الأهلية.
صوت الشعب صوت الحقيقة
