بقلم رفيقة الرقيق
إذا أردت أن تقيس تحرر مجتمع ما وديمقراطيته فانظر لوضع المرأة فيه. لم يمض وقت طويل على إحياء يوم 8 مارس اليوم العالمي للمرأة تحية لنضالات النساء وتجديد العهد على مواصلة النضال لحماية المكتسبات وتحقيق المساواة، أكدت فيه “حراير” بلادي مرة أخرى على تمسّكهن بضرورة ضمان حقوقهن المدنية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية وحمايتها وحذّرت من محاولات التراجع والتهميش، لم يمض وقت طويل على هذا التاريخ الحدث حتى طلع عدد من نواب “برلمان الدمى” بمبادرة تشريعية ذكرتنا بشريط المساعي المتتالية للالتفاف على مكتسبات المرأة في تونس. فالذاكرة المجتمعية لا يمكن أن تنسى أو أن تغفر محاولات التهوين والدونية في تصريح الباجي قايد السيسي في برنامج “شكرا على الحضور” في التلفزة الوطنية (1 أكتوبر 2014) حين ردّ على اتهام محرزية العبيدي له بتساهل حكومته آنذاك مع تيار “أنصار الشريعة” قائلا “محرزية العبيدي مرا” ثمّ أضاف “ما هي إلّا مرا” بمعنى أنها لا تستحق اهتماما. ولا يمكن أن تنسى أيضا محاولات حركة “النهضة” المتعدّدة للعودة بالمرأة إلى الوراء بِـسَنِّ “فصل التكامل” عوض المساواة في دستور 2014 ودعوات بعض رموزها وأتباعها إلى تعدّد الزوجات وتمرير الزواج العرفي وزواج القاصرات.
لقد تعرّضت حقوق النساء في تونس على الدوام إلى هجومات الردّة في ظل كل الحكومات سواء كانت حداثية أو رجعية محافظة أو شعبوية. وهي اليوم من جديد عرضة لنفس المساعي التصفوية من قبل منظومة الشعبوية التي تغلّف تراجعاتها بشعارات “مستحدثة” من قبيل تحقيق “العدل” دون المساواة بل ونسف مبدأ المساواة أصلا. في هذا السياق ظهرت المبادرة التشريعية التي تضرب مؤسسة الأسرة ومدنية قوانينها وتفتح الباب لمراجعة “الفصول المكسب” في مجلة الأحوال الشخصية بما يتماشى ومرجعية “السلف الصالح” التي يتبناها قيس سعيد ويعتزم تكريسها في القوانين والحياة العامة.
لقد توالت المبادرات التشريعية الماسّة بمؤسسة الأسرة، فبعد المبادرة التشريعية التي تطالب بسنّ عفو عام لفائدة الأزواج الذين صدرت في حقهم أحكام جزائية لامتناعهم عن دفع معلوم النفقة، تقدم في الفترة الأخيرة مجموعة من النواب بالبرلمان (105 نائب/ة) بمبادرة تشريعية تندرج ضمن مشروع تنقيح القانون المنظم لمهنة عدول الإشهاد. وتنصّ هذه المبادرة على أن “يتمّ الطلاق بالتراضي بين الزوجين بمحضر عدل إشهاد في حالة عدم وجود نزاع أو ضرر، وفي حال وجود أطفال قصّر يمكن أن يخضع الاتفاق للمصادقة من قبل قاضي الناحية، وتجري جلسات الصلح في مكتب عدل الإشهاد بحضور الطرفين”.
إنّ هذه المبادرة تحمل ثغرات إجرائية قانونية في سير عملية الطلاق إذ تهدّد مكاسب مجلة الأحوال الشخصية خاصة ما يخصّ مدنية الزواج والطلاق وتحديد سنّ الزواج وتعدّد الزوجات وهي فصول ارتقت بالعلاقات في مؤسسة الزواج من الاجتهادات العرفية إلى علوية القانون وحمائيته للأطراف المعنية بقرار الطلاق، الزوجين والأبناء.
والواضح أنّ هذه المبادرة ليست إلّا فاتحة مراجعات في قوانين الأحوال الشخصية تستهدف حقوق المرأة ومكتسباتها تنوي الشعبوية وممثلوها في السلطة التشريعية والتنفيذية اتخاذها في إطار تصوّر مجتمعي لا يؤمن بالحقوق والحريات والمكاسب التقدمية وستكون نتيجتها تفكيك منظومة الضمانات القانونية والاجتماعية لحماية الأسرة.
تتعلق المبادرة المذكورة بتنقيح الفصل 32 من مجلة الأحوال الشخصية المتعلق بالطلاق بالتراضي باتجاه أن يصبح عقد الطلاق بالتراضي بين الزوجين عقدا مدنيا لا يختلف في شيء عن غيره من العقود الناقلة للملكية والتي تكون من اختصاص عدول الإشهاد.
هذا التنقيح لم يأخذ في الاعتبار العديد من الانعكاسات السلبية والخطيرة التي ستترتّب عنه. إنّ الطلاق بالتراضي لا يختلف عن طلاق إنشاء أو الطلاق للضرر إلا في اتفاق الزوجين على الطلاق. فنيّة إبعاده من دائرة القضاء فيها هضم لحقوق الزوجين والأبناء المحضونين في ما يخصّ أحقية الحضانة، سكن المحضون، النفقة عليه، دراسته، سفره، حق زيارة المضمون وتنظيمها حسب مصلحته، وهي كلها مصالح تنظر فيها المحكمة دون غيرها وتصدر فيها أحكاما جزائية للمخلّ تجاه المحضون وعدل الإشهاد ليس بالطرف المخوّل له بأخذ هذه الإجراءات.
إنّ المبادرة التشريعية المعروضة تلغي أيضا دور قاضي الأسرة الوحيد المخوّل له للإصلاح بين الزوجين والوقوف على الأسباب الحقيقية للطلاق. علما وأنّ الطلاق بالتراضي يتمّ عبر مسار قضائي من الابتدائي إلى الاستئناف تماما كبقية أنواع الطلاق الأخرى ولا ينتهي بالضرورة إلى طلاق بالتراضي إذ يمكن أن تتغير صبغته في حالة تراجع أحد الطرفين أو في حالة تحوير دعوى الطلاق إلى طلاق إنشاء أو طلاق للضرر.
ومن ناحية أخرى فإن صيغة الطلاق بالتراضي لدى عدل الإشهاد لم تأخذ بعين الاعتبار الأحكام التشريعية للزواج المختلط (أي الزواج بين تونسي أو تونسية وشخص أجنبي). فمثل هذه الزيجات يتمّ إبرام عقودها لدى ضابط الحالة المدنية لبلديات مقرّ الإقامة بعد الحصول على إذن من القنصليات أو البعثات الدبلوماسية أو عبر السفارات والقنصليات مباشرة ولا تخضع لنفس الأحكام القانونية عند الطلاق بما في ذلك صيغة الطلاق بالتراضي. ولم تأخذ المبادرة التشريعية بعين الاعتبار جملة من الاعتبارات الهامة والمحددة في حقوق ومصالح الأطراف المعنية أي الزوج والزوجة والأبناء ومن هذه الاعتبارات مكان إبرام عقد الزواج؛ مقر إقامة الزوجين؛ اعتماد القانون الأفضل لمصلحة الطفل عند الحكم في شأن الحضانة والنفقة.
إنّ هذه المبادرة تندرج ضمن ما أسمتها الشعبوية الحاكمة “ثورة تشريعية” من منظورها الرجعي والمحافظ وستؤدّي، إذا كتب لها أن تمرّ، إلى نسف أسس بعض المكتسبات التي تحققت للمرأة التونسية في التشريعات (مجلة الأحوال الشخصية وغيرها) وفي نمط العيش والعلاقات الاجتماعية. ومرور هذه المبادرة هو مقدمة لتراجعات أخرى في جوانب مهمّة من قضايا الأسرة مثل تعدد الزوجات والولاية على الأسرة والأطفال وغيرها. لذلك يتعيّن على كل القوى وفي مقدّمتها فعاليات الحركة النسائية في تونس أن تنهض سريعا لقطع الطريق أمام هذه المساعي الرجعية المنغلقة والمعادية لحقوق النساء.
فيا حراير تونس فلتبقى عيونكنّ مفتوحة ولتكنّ سدّا منيعا في وجه كل محاولات الردّة عن مكتسباتكن.
إنّ نساء تونس في حاجة إلى خطوات أخرى باتجاه المساواة التامة والفعلية وليس للتقهقر إلى الوراء باتجاه مجتمع الحريم المتخلف.
صوت الشعب صوت الحقيقة
