بقلم علي الجلولي
باح امتحان الباكالوريا بنتائجه النهائية من خلال نشر نتائج دورة المراقبة عبر الإرساليات القصيرة ظهر الخميس 10 جويلية، وبذلك يكون هذا الامتحان الذي يعتبر الأهم عند غالبية التونسيين قد أغلق قوسه ليدخل إطار التدريس في عطلتهم السنوية، وينخرط الناجحون في انجاز عملية التوجيه الجامعي والاستعداد لولوج الجامعة والتي تستغرق تقريبا بقية العطلة.
دورة المراقبة والحفاظ على السمات العامة
بلغت نسبة النجاح في دورة المراقبة 48,83%، وباستعراض نسب النجاح حسب الشعب، فقد حافظت النتيجة على سماتها العامة وهي تقدم نسب النجاح في شعب العلوم التقنية (62,94%) والعلوم التجريبية (62,30%) والرياضة (61,50%)، مقابل ضعف النسبة في بقية الشعب حيث لم تتجاوز 47.74 % في الاقتصاد والتصرف و44,17% في الرياضيات و37,25% في الآداب و32,90% في علوم الإعلامية.
النتائج النهائية، المعاني والدلالات
بلغت نسبة النجاح العامة في التعليم العمومي 52,59% وهي دون نسبة النجاح في السنة الماضية التي كانت 55.6%.
ويذهب العديد إلى أن هذا التراجع يعود إلى أسباب موضوعية عامة تهم شروط التمدرس أصلا في المدرسة التونسية التي تراجعت إلى أبعد الحدود وعلى كل المستويات المادية منها (البنية الأساسية…) والبشرية (التوقف عن انتداب الإطار اللازم والاكتفاء بـ”خدمات” النواب وموظفي وأعوان الآليات…)، فضلا عن تراجع حجم الثقة بالمدرسة والتمدرس وهو ما تؤكده أعداد المنقطين سنويا فضل عن التصاعد الكبير لظواهر الهدر والتسرب إضافة إلى العنف والإدمان. إن المدرسة والتعليم في بلادنا يعيشان على وقع أزمة هيكلية عميقة على كل الأصعدة وهو ما يتأكد من خلال تراجع قيمة الشهادات العلمية في بلادنا ونزول المؤسسة التعليمية التونسية إلى أسفل الدرجات في شتى التصنيفات العالمية.
وقد جاءت نتائج هذا العام لتعمّق مظاهر الاختلال التي لم ينفها أي متدخل بما في ذلك الدولة ووزارات الإشراف ذاتها. وإذا كان الحديث عن ضرورة إصلاح شأن التربية والتعليم حديثا شائعا فان تقديم مقاربة في ذلك بقيت معطلة ومتعطلة حالها حال الخلل العميق الذي يهم المرفق العمومي بشكل عام في بلادنا (الصحة، النقل، الثقافة، البيئة…) الذي يغرق ويدفع الشعب والبلاد جراء ذلك فاتورة باهظة. بل أن فاتورة أزمة التربية أشد طالما أن الأمر يتعلق بناشئة تونس ومستقبلها ورأسمالها البشري عقلا وفكرا ووجدانا.
قد يكون من تفسيرات تراجع نتيجة هذا العام التراجع الكبير لعدد المترشحين من الشعب التي ارتبطت غالبا بالنجاح والتفوق مثل الرياضيات التي تكاد تندثر وأصبح وجودها “نشازا” في عديد المعاهد، وهي تقريبا الشعبة الوحيدة التي لا يتجاوز عدد تلاميذ الفصل فيها بضعة أنفار (12 تلميذا/ة وأحيانا أقل)، كما أن شعبة العلوم التقنية والعلوم الإعلامية تكاد تكون حكرا على المعاهد الكبرى أي المعاهد التي لها بنية أساسية مختصة (مخابر وورشات). فيما تشهد شعب الآداب وخاصة الاقتصاد والتصرف نوعا من التضخم العددي الذي يرتبط في جانب كبير بتمثل تربوي خاطئ يربط بين هذه الشعب ومحدودية القدرات والكفايات. وفي كل الحالات فان منظومة التوجيه في بلادنا هي الواجهة الأصدق في التعبير عن كل مظاهر الخلل والفشل في المنظومة التربوية التي يجمع عديد الفاعلين التربويين على حالة الصدأ التي أصبحت تمسّ كامل مفاصلها. ولعل نصيب وزارة التربية من الميزانية العامة للدولة تحمل الجزء الأهم من الإجابة على كل الأسئلة حول واقع المرفق التربوي فهذه الميزانية لم تتجاوز 8044 مليون دينار هذا العام منها 90% مخصصة للأجور، علما وأن نصيب الوزارة من ميزانية الدولة لم يتجاوز 10,2% سنة 2024 وهو ما يساوي 4,5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي (15,9% سنة 2010). إن هذه الإمكانيات المادية الشحيحة ترى انعكاسها المباشر على وضعية المدارس وبنيتها الأساسية المهترئة التي عفا عليها الزمن والتي أدّت في عديد الحالات إلى كوارث مثل كارثة المزونة التي أودت بحياة ثلاثة تلاميذ قضوا تحت أنقاض الجدار الخارجي للمعهد، كما أدت إلى أوضاع تمس أصلا شروط التواجد الإنساني مثل غياب مياه الشرب في 10% من المدارس الابتدائية وغياب المجموعات الصحية عن 128 مدرسة ابتدائية، وعدم وصل 70% من المدارس الابتدائية بشبكة الانترنيت، مع الإشارة إلى أن 58% من المؤسسات التي تعيش الأوضاع المذكورة (السنة الدراسية 2023/2024) هي من ولايات الوسط الغربي الثلاثة: القيروان والقصرين وسيدي بوزيد.
نتائج الباكلوريا مرآة تعكس بعض أمراض الدولة والمجتمع
تعكس خارطة النجاح على العموم خارطة شروطها، ولئن تميز جدول نتائج الباكالوريا على العموم بسمات جوهرية تتمثل في محافظة الجهات الأكثر حظا بكوكبة الترتيب فيما تستقر الجهات الأكثر تفقيرا في المراتب الدنيا وهو أمر مازال مستمرا مع نتائج هذا العام حتى وإن خرقت جهة مدنين هذه السنة هذه القاعدة الاجتماعية بصعودها جهة إلى المرتبة الثانية التي افتكتها لأول مرة من جهة صفاقس2، وحتى إن خرقت جهة سيدي بوزيد هذه القاعدة بصعوده إلى الترتيب الرابع متجاوزة بذلك كل الجهات الساحلية وكل جهات تونس الكبرى. لا شك وان هذه “المفاجأة” تحتاج إلى الدرس بعيدا عن القراءات السطحية والمتسرعة، ولكن ومهما كانت نتائج الدراسة والبحث فإنه لن يغير في شيء حقيقة تأثير الواقع المرير والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المتواضعة في هذه الجهات رغم مقدراتها وإمكانياتها في نتائج أبنائها وهو ما تتحمل مسؤوليته الأولى والأساسية الدولة من زاوية ضربها لتساوي الفرص ولمبادئ العدالة والمساواة في كل المجالات.
ولئن حافظت الجهات عموما على ملامح الترتيب التقليدي: الجهات التي تجاوزت نسبة النجاح الوطنية وهي جهات: صفاقس1، مدنين، صفاقس2، سيدي بوزيد، المهدية، سوسة، أريانة، المنستير، تونس1، نابل، بن عروس، تطاوين، قابس، تونس2، توزر، قبلي، منوبة، بنزرت، فان بقية الجهات وكلها من الشريط الغربي ظلت في آخر الترتيب، وهي جهات: سليانة، القصرين، الكاف، باجة، قفصة، القيروان، زغوان وجندوبة.
إن ارتباط مؤشر النجاح بالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية هو السمة الجوهرية للنتائج الدراسية في بلادنا، وهذا لا يعني البتة تبخيسا للمجهودات الجبارة المبذولة من قبل الأسرة التربية والعائلة خاصة في الطبقات الوسطى والشعبية من المجتمع، تلك الأوساط التي لا زالت ترى في التمدرس مصعدا اجتماعيا بإمكانه مساعدة الفرد والعائلة على تحسين الأوضاع المادية الصعبة. وهو ما يؤكد مسؤولية الدولة الأولى سواء في تواضع النتائج العامة لامتحان الباكالوريا أو في التفاوت الكبير بين متصدر القائمة (صفاقس 1) بنسبة نجاح 71,31% ومتذيل الترتيب (جندوبة) بنسبة 43,08%، وهو فارق شاسع يحمل دلالات ومعاني تجد تفسيرها في حجم التمييز والظلم الذي تعيشه الجهات الغربية وتتوارثه.
صوت الشعب صوت الحقيقة
