الرئيسية / صوت الوطن / أطبّاء في خدمة الشعب يصرخون: “كفى”
أطبّاء في خدمة الشعب يصرخون: “كفى”

أطبّاء في خدمة الشعب يصرخون: “كفى”

بقلم علاء التليلي

في بلد تُغادره كفاءاته بالجملة، ويُداس فيه الحق في الصحة تحت وطأة الإهمال، خرج الأطباء الشبان ليقولوا “كفى”. كفى تهميشًا، كفى هرسلة، كفى استهتارًا بالمرفق العمومي، وبحياة المواطن البسيط.

تحركات الأطباء الشبان، منذ بداية 2025، لم تكن نزوة ولا موجة ولا فورة غضب عابرة. كانت تعبيرًا عن وعي عميق بمآل قطاع الصحّة العمومية، وبالهاوية التي تجرّه إليها التوجهات السياسية المتوارثثة والتي تتعامل مع الطبيب الشاب كرقم قابل للاستبدال، ومع المريض كرقم قابل للتنازل.
1600 من جملة 1900 طبيب غادروا البلاد في ظرف عامين فقط (2023 و2024). رقم كافٍ، لو كان في بلد يحترم نفسه لأعلن حالة طوارئ وطنية. لكن في تونس، تُقابل هذه الفاجعة بالتجاهل، بل وبمزيد من التضييق على من تبقّى من الأطباء في القطاع العمومي.
حراك منظمة الأطباء الشبان كما سموه “تمرمدنا ” جاء ليُعيد ترتيب الأولويات. لم يكن المطلب مادّيًا صرفًا كما أرادت أن تسوّقه السلطة الشعبوية ووكلاؤها وعملاؤها في قطاع الإعلام. بل في جوهره، كان صرخة من أجل الكرامة، من أجل مستشفى عمومي يُداوي الفقير قبل الغني، ويُكرّم الطبيب قبل أن يدفعه إلى حقيبة السفر.
مطالب مشروعة، واضحة، موثّقة، رُفعت إلى وزارة الصحة منذ أشهر وبالتحديد أواخر ديسمبر 2024. لكن الوزارة اختارت الصمت، والتجاهل، والتلويح بعصا الردع والقمع والتتبعات القضائية بدل فتح باب التفاوض الجدي.
ومع كل مماطلة وتلكّؤ من وزارة الصحة، يكون رد الأطباء الشبان أرقى وأقوى. انطلاقا من تنظيم إضرابات، إلى مسيرات حضورية في كليات الطب وآخرها مسيرة 2 ماي، إلى مقاطعة اختيار مراكز التربصات للأطباء المقيمين، تحركات سلمية ناتجة عن إيمان عميق لهذا القطاع الواسع (حوالي 7 آلاف طبيب شاب) بحقهم في الحياة بكرامة وحقهم الشرعي في العمل النقابي، كلها قناعات ومبادئ وقيم جسّمها هذا القطاع وأكّدها بما لا يدع مجالا للشك باتحاد كل أبنائه (قطاع الأطباء الشبان) ووحدة صفهم الحديدية.
لكنّ سلطة الإشراف الشعبوية لها رأي مخالف، فعوض الإنصات والإصغاء إليهم والتفاعل
معهم، أرسلت أمنًا جامعيًا لقمعهم، في حادثة خلناها اندثرت منذ أن حققنا مكسب الحرية بعد نضال الشعب التونسي في ثورة 17 ديسمبر، 14 جانفي 2011، كما هددتهم بالسجن على لسان وزير الشؤون الاجتماعية، بل وأكثر من ذلك حيث صرّح أحد الوزراء بأنّ “الدولة ليست بحاجة إلى شبابها” وأن “المجر والصين كفيلتان بتوفير الأطباء”! تصريح ليس فقط مهينًا، بل يكشف عمق الهوّ بين سلطة الإشراف ومن يفترض أن تسهر على رعايتهم، تصريح عرّى حقيقة سياسات الدولة وتوجهاتها اللاشعبية واللاوطنية بل والمعادية لمصالح الشعب ومطامحه.
أمام هذا المشهد العبثي، تحوّل نضال الأطباء الشبان من مجرد مطالب مهنية إلى معركة من أجل الحق النقابي في حد ذاته. وفي ظرف ساعات، وبالتحديد يوم 01 جويلية احتشد المئات منهم في شارع الثورة، هاتفين بشعارات تعيد إلى الأذهان بوصلة النضال الاجتماعي والنقابي والسياسي وتعيد إلى شارع الثورة نبضه الأصيل، فتعالت أصوات الأطباء الشبان بشعارات “صحة، حرية، كرامة وطنية”، “وزير بلا قرار، يمشي يشد الدار” و”صامدون لا ترهيب ولا سجون”.
التفّ الرأي العام بمختلف فئاته حول الأطباء الشبان وحول مطالبهم وحول نضالهم المدني والسلمي فكان الأطباء الشبان تحت قيادة وتأطير منظمتهم يمثلون جسر سلام الكادحين المفقرين وطريقهم نحو الحد الأدنى من حقوقهم المشروعة ألا وهو الحق في الحياة الذي لن يتحقق دون الحق في صحة تحفظ كرامة الإنسان. فكان الأطباء الشبان، كما وصفتهم والدة الفقيد جاد الهنشيري: “عكّاز الزوالي”.
واللافت للانتباه أنّ هذا الحراك، رغم حداثة المنظمة التي تقوده، تمكّن من فرض معادلة جديدة: مفاوضات جادّة تقطع مع سياسة التسويف والمماطلة المنتهجة من طرف كل الحكومات المتعاقبة، تثبيت وإقرار المطالب القطاعية، وانتصار واضح في معركة كانت تبدو مستحيلة للوهلة الأولى.
هو نصر لا يُحسب فقط لهم، بل يُحسب لكل من آمن بأنّ العمل النقابي ليس فعلا بيروقراطيا بالضرورة، بل هو فعل نضالي حيّ يتفاعل ديالكتيكيا مع واقعه الملموس. إنّ التغيير الجذري لا يكون بالزبونية والتملق، بل بالنضال الميداني اليومي والدؤوب الذي يحدده برنامج عمل صيغ بنزاهة ومبدئية من وحدة صماء لا تشقها الفردانية والانتهازية.
نعم، قد تكون منظمة الأطباء الشبان منظمة يافعة، لكن ما حققته من مكاسب في ظرف ستة أشهر يلخص في أحشائه سنوات من الوعي بالنضال ومبدئيته.
إنّ الصحة العمومية ليست ملفًا للزينة، بل هي معركة وطن، وإنّ الطبيب الشاب ليس موظفًا درجة ثانية، بل هو من يحصن قلعة الصحة العمومية، كما هو شعارها: “أطباء في خدمة الشعب”.
قد تنتهي هذه الجولة من التضال، وقد تبدأ جولات أخرى. لكن الأكيد أنّ تمرّد الأطباء الشبان علّمنا درسًا بليغًا: لا كرامة دون وحدة، لا تغيير دون تضحية، ولا مستشفى عمومي دون من يُدافع عنه.
عاشت نضالاتهم، وعاش الطبيب الشاب، حصن الصحة العمومية الأخير.

(*) علاء التليلي: عضو منظمة الأطباء الشبان

إلى الأعلى
×