الرئيسية / صوت الوطن / للتّوضيح: الحيلة في ترك الحيل والتحلّي بالوضوح والمسؤوليّة
للتّوضيح: الحيلة في ترك الحيل والتحلّي بالوضوح والمسؤوليّة

للتّوضيح: الحيلة في ترك الحيل والتحلّي بالوضوح والمسؤوليّة

بقلم منوّر السعيدي

صخب كثير انتاب صفحات التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة بعد إلغاء تحرّكي الشبكة وجبهة الخلاص بمناسبة الذكرى الرابعة للانقلاب والذكرى الثامنة والستين لـ”إعلان الجمهوريّة”.

وكل من يتمعّن فيما كُتِب ورُوِّج يذهب في ظنّه أنّ الشبكة “نسّقت” مع جبهة الخلاص للقيام بتحرك مشترك وهو ما حدا بهذه الأخيرة إلى تغيير موعد ومكان انطلاق مسيرتها تماهيا مع الاتفاق الحاصل ولكن الشبكة تراجعت في الاتفاق بضغط أطراف “مستقوية من داخلها” وهو ما أدّى إلى إفشال التحرّك “المشترك” وإلى إلغاء تحرّكي الطرفين المعنيين ليكون المستفيد من ذلك سلطة الانقلاب. وفي هذا السياق انطلقت “موجة” من المناكفات والاتهامات المتبادلة التي تجاوزت أحيانا الحدود الدنيا لأخلاقيات الجدل السياسي لتسقط في السبّ والشتيمة وحتّى الافتراء عن الآخر. وبطبيعة الحال استندت بعض الأقلام، ومنها أقلام جدية، إلى ما حصل لتعبّر، انطلاقا ممّا قرأته من “معلومات” منشورة في صفحات التواصل الاجتماعي، عن “امتعاضها” من حال المعارضة وتزداد “تشاؤما” بشأن مستقبلها وتتهمها بعدم الوعي بالمخاطر المحدقة بالشعب والبلاد. هذا بالطبع دون الحديث عن ردود أفعال “الزقافنة” الطفولية والتّهريجية.
وفي رأيي من المهم في مرحلة أولى وفي انتظار تناول المسألة (أقصد العمل المشترك في واقع بلادنا الحالي) بأكثر شمولية وعمق تقديم بعض المعطيات بهدف توضيح الصورة أولا وقبل كل شيء لأنّ عدة مواقف وردود أفعال مؤسسة مع الأسف على معطيات خاطئة. وبناء على ذلك يمكننا فهم بعض “خفايا” ما حصل وتحديد المسؤوليات ومواطن الضعف في سلوك مختلف الأطراف. وفي هذا السياق من المهمّ أن نذكّر أوّلا بأن جبهة الخلاص أصدرت بتاريخ 2 جويلية 2025 بلاغا حدّدت فيه تنظيم تحرّك يوم 25 جويلية 2025 على الساعة العاشرة صباحا انطلاقا من “ساحة الباساج” للمطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين وعودة الحريات والتضامن مع الشعب الفلسطيني. وفي وقت لاحق أصدرت الشبكة التونسية للحقوق والحريّات بلاغا بتاريخ 18 جويلية 2025 قررت فيه تنظيم تحرّك بنفس المناسبة على الساعة السادسة مساء انطلاقا من بطحاء محمد علي للاحتجاج على ما آلت إليه أوضاع البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أربع سنوات بعد الانقلاب. وكل هذا أمر عادي إذ اعتادت مختلف الأطراف السياسية والمدنية المتكتلة في مجموعات أو شبكات أو تنسيقيات أو التي تنشط بمفردها الدعوة إلى تحركات بهذه المناسبة أو تلك سواء كانت محلية أو خارجية.
لكن حدث حادث بتاريخ 19 جويلية 2025 إذ أصدرت جبهة الخلاص بلاغا ثانيا تقول فيه إنّه “تفاعلا مع الدعوات المتواترة من مكونات الطيف السياسي والمدني لتحرك 25 جويلية وحرصا على وحدة العمل تعلن جبهة الخلاص الوطني عن تغيير موعد مسيرتها إلى الساعة السادسة من بعد ظهر نفس اليوم على أن تكون نقطة الانطلاق من ساحة محمد علي بالعاصمة باتجاه المسرح البلدي” أي في نفس توقيت تحرك الشبكة ومكان انطلاقه. وهو ما لم تستسغه الأطراف المكونة للشبكة ورأت فيه حركة غير مقبولة بل تسلّطا على نشاط الغير لأن العمل السياسي لا يحتمل “سلوك الغمّة” و”فرض الأمر الواقع” بل يقتضي الوضوح. وقد ترسّخت هذه القناعة بعد أن أكّدت كافة أطراف الشبكة (وأسطّر على “كافة أطراف الشبكة” دون الدخول في تفاصيل نعتبرها داخلية لا تهمّ إلّا أهل “البيت”)، أحزابا ومنظمات ألّا أحد منها اتصل بجبهة الخلاص أو نسّق معها أو حتى أجرى حديثا مع أحد أطرافها يمكن أن يؤوّل على أنّه دعوة لتنسيق سياسي بين الطرفين.
وبناء على هذه المعطيات دار نقاش داخل “الشبكة” أفضى إلى موقف أغلبي يدعو إلى إلغاء التحرّك اجتنابا لأيّ إشكالات سياسية أو تجاوزات ميدانيّة وتنظيم ندوة صحفية حول وضع الحريات والحقوق يوم الثلاثاء 27 جويلية 2025. وصدر بلاغ في هذا الأمر بتاريخ 21 جويلية، لكن جبهة الخلاص ردّت ببلاغ في اليوم الموالي الموافق لـ22 جويلية 2025 جاء فيه: “على إثر فشل جهود التنسيق الرامية إلى تنظيم تحرك مشترك للقوى السياسية والمدنية يوم 25 جويلية 2025، رغم ما قدّمته جبهة الخلاص الوطني من تنازلات لإنجاح هذه الجهود تعلن الجبهة عن تأجيل المسيرة التي دعت إليها ليوم 25 جويلية 2025 وسوف تتولّى الإعلان عن مواعيد أنشطتها القادمة في أوقاتها”. ولا يمكن أن يفهم من هذا الكلام سوى أنّ بعض أطراف الشبكة اتصلت أو نسّقت مع جبهة الخلاص أو بعض مكوناتها وقدمت نفسها على أنها تتكلم باسم الشبكة أو على الأقل تصرّفت تصرّفا يفهم منه ذلك. وبطبيعة الحال إن حصل هذا الأمر لا يمكن لوم جبهة الخلاص على ردّة فعلها.
خلاصة القول إنّنا أمام أمرين: من جهة “الشبكة” مستاءة من جبهة الخلاص ظنّا منها أنّها تريد أن تفرض عليها عملا مشتركا عن طريق “الغَمَّة”. ومن جهة ثانية “جبهة الخلاص” مستاءة لأنّ طرفا أو أطرافا من الشبكة اتصلت بها باسم الشبكة للتنسيق حول تحرّك مشترك ممّا اضطرها إلى تغيير موعد ومكان تحركها “خدمة للعمل المشترك”. وبالطبع فالنتيجة هي إنّ الطرفين ألغيا تحرّكيهما لضيق الوقت وتركا الساحة فارغة وهو ما يخدم، دون أدنى شكّ، سلطة الانقلاب. ومن البديهي أنّ على الشبكة أن تتعظ بما حصل. وأقول الشبكة لأنّنا طرف فيها ونتحمل مثلنا مثل أيّ طرف سياسي أو مدني عضو فيها مسؤوليّة أعمالها وأفعالها بإيجابيّاتها وسلبيّاتها. فإنْ صحّ (ونؤكّد “إن صحّ”) أنّ بعض أطراف الشبكة الحزبية أو المدنية اتصلت بجبهة الخلاص ونسّقت معها دون علم بقية الأطراف فهذا يتطلّب توضيحا ومحاسبة بكل تأكيد لأن ليس من حق أحد أن يتكلم باسم الشبكة دون تكليف منها كما أنه ليس من حقّه أن يقحمها في عمل أو نشاط أو موقف لم تناقشه ولم توافق عليه بالإجماع أو بأغلبية مكوناتها.
إنّ ما اجتمعت عليه الشبكة واضح منذ اليوم الأول بأتمّ الوضوح وهو العمل سياسيّا باستقلالية سواء عن جبهة الخلاص أو عن الدستوري الحر وبالطبع عن سلطة الانقلاب. وهو حق من حقوق الشبكة مثلما أنّ من حق أيّ طرف سياسي أو مدني آخر أن يختار مع من يعمل ويتحالف ومع من لا يعمل ولا يتحالف. كما أنّ من حق أيّ طرف ألّا يقبل موقف الشبكة هذا ويعتبره “خاطئا” أو “غير مناسب للظرف” ويجادله أو يتباين معه. فنحن في الشبكة لا نخشى الاختلاف داخلنا فما بالك مع الغير. فالاختلاف والنقاش داخلنا يؤدّي إلى اتفاقات صلبة. أمّا الاختلاف والجدل مع خصومنا فيؤدّي إلى توضيح التباينات أمام النّاس ليفهموا أسباب عدم التقائنا مع بعضنا البعض وتشكيلنا لتحالفات وتجمعات مختلفة. وحتى داخل الشبكة فمن حق أيّ طرف أن يراجع الموقف المتفق عليه ويتخلّى عنه في الوضوح لكنه ملزم باحترامه طالما أنّه في الشبكة وموافق عليه. وما من شكّ في أنّ هذه الأشياء تبقى مرتبطة بالتجربة السياسية ومع الأسف فالاستبداد في بلادنا حال لمدة عقود دون نشأة حياة سياسية حقيقية تنشطها أحزاب وتيارات راسخة في الواقع ولها تقاليدها سواء في الصراع أو في الاتحاد.
إن كل الأطراف السياسية والمدنيّة تعرف جيدا مواقف حزب العمال. فنحن لسنا لا من دعاة “التقية” ولا من هواة “الغَمَّة” فالسياسة بالنّسبة إلينا تعتمد الصراحة والشجاعة والوضوح والمبدئية. لذلك كانت مواقفنا وما تزال واضحة تمام الوضوح نعبّر عنها بصراحة ومسؤولية بل دون أي مواربة ونتحمل عواقبها لا لشيء إلّا لأننا مقتنعون بها وحين يقتضي الأمر مراجعة أيّ موقف منها فإننا نقوم بذلك ونعلنه للعموم لأننا أيضا مقتنعون به. وعلى هذا الأساس فإن مواقفنا داخل الشبكة وخارجها واضحة لا لبس فيها. ونحن بهذه المناسبة لا نخفي أنّنا من بين من دافعوا عن المحافظة على تحرّك يوم 25 جويلية مع تغيير المكان لكنّنا التزمنا بموقف الأغلبية بالنظر إلى ضيق الوقت من ناحية وإلى ما يمكن أن يدخله هذا التّغيير من اضطراب لدى النّاس.
ومن موقعنا كطرف في الشبكة لا يمكننا إلّا أن نحمّل المسؤوليّة الأساسية فيما حصل للطرف أو الأطراف التي قد تكون اتصلت بجبهة الخلاص ونسّقت معها لأنّه في صورة حصول ذلك فإنها تكون ارتكبت خطأ مزدوجا الأول على حساب الشبكة والثاني على حساب جبهة الخلاص وقدّمت من حيث لا تشعر خدمة مجانية لسلطة الانقلاب. أمّا إذا لم يحصل ذلك وحصل تسرّع من جهة ما من جبهة الخلاص سواء بمبادرة منها أو باتفاق مع جهة ما من الشبكة فإن المسؤولية مسؤوليّتها فيما حصل. ونحن إذ نقول هذا فإننا لسنا من هواة “الدّراما” فقد علّمتنا التجربة أنّ مثل هذه الأشياء يمكن أن تحصل وإذا حصلت فهي لا تعني نهاية النشاط وإذا استفادت منها سلطة الانقلاب فما ذلك إلّا بصورة مؤقتة فنضالنا لن يتوقف ولن ينتهي وكل مشكل يحصل نستفيد منه لنتقدم ونجوّد أسلوب عملنا.
هذه بعض الأفكار حول ما حصل ومن المؤكّد أن حزب العمال ستكون له عودة في القادم من الأيام للمسألة الأساسية وهي مسألة التكتيك في اللحظة الراهنة ودعوات العمل المشترك ليخوض فيها مجّددا أولا لمزيد توضيح موقفه وثانيا رغبة منه في دفع النقاش حولها وتعميقه. فالساحة الفكرية والسياسية في تونس تشكو من ركود كبير.

إلى الأعلى
×