الرئيسية / عربي / جورج إبراهيم عبد الله: سجين محرّر في زمن الانكسارات الوطنيّة والقوميّة
جورج إبراهيم عبد الله: سجين محرّر في زمن الانكسارات الوطنيّة والقوميّة

جورج إبراهيم عبد الله: سجين محرّر في زمن الانكسارات الوطنيّة والقوميّة

بقلم سها ميعادي

في زمن الخيبات والانكسارات وفقدان الجدوى في النّضال واعتباره حالة عاطفية انفعالية ليس إلاّ يأتينا خبر الإفراج عن الأسير الأممي جورج إبراهيم عبد الله البالغ من العمر 74 سنة وعودته إلى موطنه الأصلي لبنان بعد 41 عاما من الاعتقال في السجون الفرنسية. عاد شيخ المناضلين بعد أن ضحّى بشبابه وعمره من أجل القضية الأم وقضيّة كلّ الأحرار في العالم، القضية الفلسطينية، دون أن يتزحزح قيد أنملة عن مبادئه وقناعاته وعن ثقته في استمرار المقاومة وفي استعادة الأرض كلّ الأرض مهما كانت الهزّات ومهما كانت الانكسارات. بل إنّه وفي أولى تصريحاته بدا محرّضا للجماهير العربية، شاحذا هممها، داعيا إياها إلى التّخلي عن جبنها ومذكّرا أنّ فلسطين هي “القاعدة الأساسية لكلّ فكر تحرّري تقدّمي” وأنّ “المقاومة مسمّرة في هذه الأرض ولا يمكن اقتلاعها” وأنّ الكيان الصّهيوني “يعيش آخر فصوله في الوجود ولا بدّ أن ندحره”.

جورج إبراهيم عبد الله مناضل أممي ضدّ الصّهيونية والامبريالية

انخرط “جورج” منذ نعومة أظافره في العمل السياسي وانضمّ إلى صفوف المقاومة الفلسطينية وإلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بقيادة جورج حبش إثر الاجتياح الصّهيوني للبنان سنة 1978. انتقل في بداية الثمانينات إلى أوروبا وساهم في تأسيس “الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية”، وهي تنظيم ماركسي مناهض للإمبريالية نفّذت عمليات نوعيّة ضدّ مصالح أمريكية صهيونية كردّ على الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني في لبنان وفلسطين. وكانت له علاقات مع حركات تُعتبر إرهابية مثل: العمل المباشر (فرنسا)، والألوية الحمراء (إيطاليا)، وكارلوس الفنزويلي، وفصيل الجيش الأحمر (ألمانيا). في أكتوبر 1984 طلب من الشرطة الفرنسية في ليون حمايته من مطاردة الموساد له. إلاّ أنّ الشرطة ألقت القبض عليه وعثرت في شقته في باريس على بنادق رشاشة وأجهزة إرسال واستقبال. وحُكم عليه سنة 1986 في ليون بالسجن أربع سنوات بتهمة التآمر الإجرامي وحيازة أسلحة ومتفجرات، وفي سنة 1987 حُكم عليه بالسّجن المؤبّد بتهمة التواطؤ في اغتيال الدبلوماسيين الأميركي تشارلز راي والصّهيوني ياكوف بارسيمينتوف عام 1982، ومحاولة اغتيال ثالث عام 1984، رغم خلوّ ملفّه القضائي من أيّ دليل مادّي على الاتّهام. ومنذ سنة 1999، أصبح “جورج عبد الله” مؤهلاً قانونيّا للإفراج المشروط عنه، إلاّ أنّه وقع رفض 12 طلبا لإطلاق سراحه بسبب التدخّل السياسي للولايات المتحدة الأمريكية وللكيان الصهيوني الذي حال دون ذلك في انتهاك صارخ للقوانين. وهو ما جعل من جورج إبراهيم عبد الله أقدم السجناء السياسيين في أوروبا.

جورج إبراهيم عبد الله رمز للمقاومة والثّبات

والجدير بالذّكر في السيرة السّجنية لأيقونة الثورة والمقاومة أنّه طوال مدّة اعتقاله لم يُنكر يوما انخراطه في الكفاح المسلح ضد الاستعمار وفاءً لقناعاته الماركسية اللينينية، واعتبار أنّ نضاله يندرج ضمن الردّ الطبيعي على الاحتلال الصّهيوني في لبنان وفلسطين. لذلك لم يعتذر ولم يطلب الصّفح والعفو ولم يُبد ندمه ولم يساوم، ولم يتنازل، بل كان يصرّ على كونه “مكافحا” وأنّ المسار الذي سلكه “كان مدفوعا بانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة ضد فلسطين”. بل كان يردّد شامخا “لن أندم، لن أساوم، وسأبقى أقاوم”. كلّ هذه السّيرة حوّلت “جورج” إلى رمز من رموز النضال المناهض للاستعمار والإمبريالية، خصوصًا في الأوساط اليسارية الفرنسية والعربية والعالمية. وكانت الوقفات الاحتجاجيّة المطالبة بإطلاق سراحه تُنظّم سنويًا أمام سجن لانمزان (في منطقة الآلب العليا)، وكذلك في بيروت وتونس وأثينا… لذلك فعلا يُعدّ الإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله انتصارًا رمزيًا وانتصارا سياسيّا لكلّ أحرار العالم ولكلّ من آمنوا بقضيته ولم ييأسوا.
لقد خرج “جورج” من السجن أكثر حرية وصمودا وأشد تمسّكا بمواصلة النضال والمقاومة من الملايين خارج السجن. خرج من السجن لينفخ بلسانه الملتهب في جمرة المقاومة التي يحاولون إخمادها بالمؤامرات والصفقات والضغوطات والخيانات والخطابات، خرج لتعريتهم تماما. خرج بعد 41 سنة ليستأنف مسيرته حيث توقفت تماما: المجد للمقاومة، المجد لفلسطين.

جورج إبراهيم عبد الله والدّروس المستلهمة في واقع مأزوم

لم تكن الأنظمة الرجعية العربية ورعاتها من الإمبرياليين والصهاينة في أبشع كوابيسها أن يكون خروج جورج من السجن حدثا يحيي القيم والرموز الشيوعية والثورية بمثل هذا الصخب والضجيج ومتى كان الشيوعيون هادئين أو مهادنين أمام الظلم والطغيان؟
لم ينتظر جورج لحظة واحدة بعد خروجه من زنزانته ليعلن الحرب على كل المستسلمين والخونة الذين يحاولون إخماد شعلة المقاومة. بل إنه لم يتوقف عن شنّ هذه الحرب حتى من داخل زنزانته ممّا أجبر سجّانيه على الاستسلام وإطلاق سراحه عسى أن يرتاحوا من ضجيجه وصخبه، متناسين أنّ الساحات والجبهات أمور نسبية بالنسبة إلى الشيوعيين والثوريين. ففي كل شبر من هذا العالم توجد به مظلمة هي جبهة للنضال والمقاومة.
لقد انصهرت في مسيرة جورج عبد الله جميع جبهات النضال الوطني والقومي والأممي واختزلت شخصيته مبادئ الالتزام بمختلف أبعاده في مرحلة عصيبة من تاريخ شعوب العالم والشعوب العربية والشعب التونسي، مرحلة طغت فيها الرموز الاستهلاكية المصطنعة المعدة للتسجيل الإعلامي والدعائي مستجيبة لمختلف الأذواق والتوجهات ولكنها بلا روح وبلا معنى ووظيفتها الوحيدة الإلهاء وتأكيد الاستغلال والاستبداد والاحتلال ليخرج جورج ويطيح في لحظة بجبروت الدعاية البورجوازية والرجعية التي قضت عقودا في صناعتها، أطاح بها جورج بكل بساطة وبكل صدق دون الحاجة إلى تجميل وإكسسوارات وتقنيات لم تسمح له سنوات السجن بالاطلاع عليها أصلا. ولكن وعيه الحاد وصموده الأسطوري والمدرسة الشيوعية التي نشأ وترعرع فيها هي ما منحته الوعي والإرادة لقلب المسرح الذي تدور فيه الأحداث في منطقتنا.
لقد أطاح جورج ببضع كلمات ملتهبة صادقة بكل الخطابات الصفراء للمنظومة الرجعية التي لم ترتق حتى بعد 41 سنة ليتوجه لها جورج بالخطاب “احنا بنعرف هاي الأنظمة ما بتتغير”. هكذا تحدث جورج ليتوجه بخطابه مباشرة إلى الشعوب العربية محرّضا على الخروج إلى الشوارع وإسناد المقاومة وغزة، كم هي مزلزلة الحقيقة حين يصدح بها ثائر معرّيا خطابات الرجعية والشعبوية التي تكرّس الوهم وتنشر الخوف واليأس والإحباط في صفوف الجماهير عوض قيادتها لإطلاق طاقاتها الثورية ومصارحتها بحقيقة وضعها والدور الذي ينتظر التاريخ أن تلعبه. لم يتعامل جورج عبد الله مع الجماهير كمعجبين أو كرعايا ولم يحاول استغلال شوقهم أو مكانته الاعتبارية التي راكمها لعشرات السنين. بل إنه جازف بفقدان ذلك الرصيد حين صارحهم بحقيقتهم “ماذا فعلتم لغزة؟ هل استشهد أحد منكم؟”.. “ما في حدا استشهد”.
كان يمكن أن يذهب جورج مباشرة من المطار إلى أحد المنتجعات أو القصور الفخمة لينفض غبار سفر استغرق أكثر من أربعين سنة ويداوي جراح الذاكرة السجنية وقد بلغ به العمر عتيّا ولن يلزمه أحد على ذلك فقد دفع ضريبة النضال كما دفعها قلائل عبر التاريخ. ولكنه اختار مواصلة النضال والمقاومة ما دام في جسده قلب ينبض. لقد قدّم في لحظات وجيزة درسا لكل الانتهازيين ولجماعة النضالات الموسمية وتكتيكات الانحناء لعواصف الأنظمة الرجعية. لقد أعاد جورج ترتيب الأولويات وتعديل البوصلات. طريق واحد إلى فلسطين طريق يمرّ عبر مواجهة الأنظمة الرجعية العربية.

ختاما

دخل المناضل السجن شامخا وخرج منه شامخا مقدّما الدّروس أن لا مساومة ولا خيار بين الكرامة والتّبعيّة، بين الصّمود والخنوع، ومقدّما الدروس لكلّ من اعتبر المقاومة التزاما مستمرّا وأنّ النّضال ثمنه باهض ولكنّه مجدٍ. إنّ خروج الأسير المحرّر صفعة في وجه الأنظمة العربية المهرولة نحو التّطبيع مع الكيان الصّهيوني وصفعة في وجه كل زبانية هذه الأنظمة في الدّاخل. فهنيئا لكل أحرار العالم بهذا الحدث التّاريخي المُلهم.

إلى الأعلى
×