بقلم سناء بعزاوي
شهدت تونس خلال الفترة الأخيرة ارتفاعا خطيرا في الانتهاكات المرصودة داخل السجون، من شبهات التعذيب التي ارتفع عدد الشكاوي فيها بنسبة 200%، إلى الحرمان من أبسط الحقوق المكفولة قانونيا كالحق في العلاج، وصولا إلى وفاة ثلاث شبان في ظروف مسترابة أثارت انتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان والنشطاء السياسيين. ثلاث حالات وفاة خلال أسبوع واحد تثير تساؤلات جدية حول مدى احترام السلطات لحقوق السجناء وواجباتها القانونية في توفير شروط الاحتجاز الإنسانية لهم.
وقائع مأساوية وأزمة حقوقية
توفي الشاب وسيم الجزيري (25 سنة) في السجن المدني بصفاقس وكانت آخر زيارة لوالده قبل الوفاة قد حملت شكوى عن سوء الأوضاع وعدم تناوله الطعام لمدة 4 أيام، حيث قال لوالده “بابا، ما كليتش عندي أربعة أيام” ما يشير إلى وجود إهمال من قبل إدارة السجن.
وفي سياق مشابه، توفي حازم عمارة، الذي كان يعاني من أمراض مزمنة (داء السكري ومشاكل في القلب) بسبب نقص الرعاية الصحية داخل سجن “بلّي” بنابل إن لم يكن انعدامها. كما أثارت وفاة محمد أمين الجندوبي بسجن برج العامري الشكوك حيث أكد أقاربه وجود علامات تعذيب على جسده، كما أفادوا بأنهم لم يتلقوا خبر وفاته إلا بعد مرور عشرة أيام.
تقارير حقوقية حذرت من تدهور الأوضاع
لم تقتصر هذه الحوادث على قصص فردية، بل رصدتها تقارير عدة مؤسسات حقوقية محلية ودولية، من بينها:
- الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي عبّرت في تقريرها عن تدهور الأوضاع، معتبرة السجون “مناطق دون سلطة” تفتقر لأدنى شروط السلامة والإنسانية. وأكدت الرابطة أنّ الاكتظاظ يفوق الـ250% في بعض المؤسسات، وأنّ أكثر من 55% من السجناء يُحتجزون احترازيا دون صدور أحكام نهائية، ممّا يفاقم الأزمة.
- هيئة الوقاية من التعذيب (CNLTP)، أصدرت تقريرا في 2025 أكد استمرار حالات التعذيب والعزل التعسفي، وغياب آليات رقابة فعالة على أماكن الحرمان من الحرية ممّا يسمح بتكرار الانتهاكات دون محاسبة، كما طالبت بضرورة تعزيز الشفافية وفتح تحقيقات مستقلة في كل حالات الوفاة والاعتداءات.
- منظمة العفو الدولية بدورها سلطت الضوء على الاعتقالات التعسفية التي طالت نشطاء سياسيين ومدافعين عن حقوق الإنسان، وذلك في ظل غياب ضمانات المحاكمة العادلة مشيرة إلى حالات احتجاز طويلة بلا محاكمات (تجاوز مدة الاحتجاز القانونية)، وذكرت أيضا حوادث تعذيب تستهدف معارضي النظام، ضمن حملة منهجية ضد الحريات.
- هيومن رايتس ووتش (HRW) التي أبلغت عن ممارسات مهينة ومذلة، من بينها تفتيشات عارية وعنف جسدي ونفسي داخل السجون واعتبرت أنّ هذه الانتهاكات تشكل انتهاكات صارخة للقانون الدولي.
قيس سعيد وفشستة الحياة العامة
وضع السجون ليس في معزل عن الوضع العام في تونس، فما نراه ونعيشه اليوم هو نتيجة خيارات منظومة الحكم الشعبوية حيث أنّ قيس سعيد يجرّ البلاد بخطى ثابتة نحو الفاشية. فمنذ الانقلاب جمع في يده كل السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية وانطلق في قمع كل الأصوات المعارضة له والمطالبين بأبسط الحقوق في ظل أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة، من يطالب بالشغل يُسجن، ومن يحتجّ على غلاء الأسعار يُسجن، من يدّون حول تردّي الخدمات العمومية كالماء والكهرباء والتصرف في النفايات يُسجن… ولعلّ الجهاز الرئيسي الذي يستخدمه النظام في إخماد هذه الأصوات هو وزارة العدل، فرغم اعتداءات البوليس المتكررة والمتزايدة على المواطنين وحقوقهم إلا أنّ تصفية الخصوم السياسيين تعتمد على الجهاز القضائي ولم يعد هناك حاجة للتعذيب لاقتلاع الاعترافات، بل حتى الملفات الفارغة يُحكم فيها بأحكام خيالية جاهزة مسبقا. كما أصبح التعذيب آلية إلى جانب السجن لمعاقبة “المجرمين”.
إنّ تكرار حالات الوفاة والتعذيب داخل السجون يؤشر إلى غياب إرادة سياسية لمحاسبة المسؤولين أو تحسين ظروف الاحتجاز، كما يعكس تغيّرا خطيرا في واقع الحريات وحقوق الإنسان، خصوصا فيما يتعلق بحرية التعبير والاحتجاج.
إنّ قضية الحريات لا ينبغي أن تكون بأيّ شكل من الأشكال قضية نخبوية لا تهمّ سوى النشطاء، سياسيين كانوا أو مدنيين، بل يجب الوعي بأن تردّي أوضاع الحريات والممارسات القمعية يطال جميع المواطنين دون استثناء بهدف نشر ثقافة الخوف وتكميم الأفواه.
من يوقف آلة القمع؟
المحاسبة الحقيقية لن تتمّ في ظل هذا النظام.
فالجلاد لا يحاكم نفسه، ولا تنتج الشعبوية القمعية غير الموت والفقر والذلّ.
منظومة الاستبداد الجديدة، التي تتزيّن بلباس “الشعب” وتدير الدولة بمنطق العقاب لا بمنطق القانون، لا يمكن إصلاحها من الداخل.
لا يمكن إيقاف آلة القمع ما دامت السلطة مطلقة بلا رقيب، وما دام المواطن يعامل كمتّهم حتى تثبت طاعته.
الخلاص الوحيد اليوم هو عبر ثورة تسقط هذا النظام، وتبني دولة ديمقراطية شعبية، دولة تحترم الإنسان، تحفظ كرامته، وتخضع أجهزة القمع للمساءلة، لا العكس.
دولة لا يدفن فيها الأبناء قبل أن يدفن الاستبداد.
صوت الشعب صوت الحقيقة
