بقلم عمار عمروسية
دخل العدوان الصهيو-أمريكي على غزة مرحلة متقدمة يكاد يحصل إجماع عالمي على اعتبارها الأكثر وحشية وهمجية على الأقل في عصرنا الحالي.
فجيش الاحتلال النازي بمشاركة أمريكية نشيطة ودعم غربي سخيّ يمعن طوال 22 شهرا على مرأى ومسمع من العالم أجمع في حرب الإبادة الجماعية الممنهجة ضدّ أهالي القطاع المحاصر جوّا وبرّا وبحرّا منذ حوالي عقدين.
فآلة الحرب الصهيونية ثابرت كما لم يسبق على مراكمة أفظع الجرائم ضدّ جميع مظاهر الحياة دون أدنى اعتبار لأبسط ضوابط القانون الدولي وكلّ المعاهدات المتصلّة بالنزاعات والحروب.
فتحت مزاعم الدفاع عن النفس والوجود عمد جيش الاحتلال إلى استعمال كلّ أساليب التدمير والتقتيل ضمن خطط عسكرية مسترسلة ومتصاعدة لتحقيق منجزات استراتيجية فيها ليس فقط سحق المقاومة ومحوها وإنما إبادة أكثر ما أمكن من الغزاويين وإجبار الناجين على المغادرة والهجرة لفسح المجال أمام التوسع الاستيطاني، بما يمكّن لاحقا من التقدم في تحقيق حلم بناء “إسرائيل الكبرى” ضمن ما يعرف بالشرق الأوسط الجديد الذي يفترض وجوبا دور الأخيرة الريادي في جميع المعادلات الإقليمية زيادة عن التحكّم التّام في ثروات المنطقة ومصائر شعوبها.
فحكومة الكيان تحت قيادة “نتنياهو” أخضعت المؤسسة العسكرية والأمنية بعد إجراء تعديلات واسعة وعميقة طالت تقريبا مختلف المراكز القيادية (هيئة الأركان، الشاباك، قيادات مختلف المناطق والتشكيلات العسكرية…) إلى أساليب ومناهج قتالية أفلحت في التدمير والتقتيل (أكثر من 6o ألف شهيد وفوق 100 ألف جريح) وأخفقت حتّى في تحقيق الأهداف المباشرة والمعلنة للعدوان مثل القضاء على المقاومة وتحرير الأسرى.
فبَأسُ المقاومة وصمود حاضنتها الشعبية حكما بالفشل الذريع على خطّة “الجنرالات” وأجبرت حكومة الكيان على الانكفاء والدخول في جولة مفاوضات بهدف التقاط الأنفاس وترميم أركان البيت المتداعي، حيث تمّت في البداية إقالة “هاليفي” رئيس الأركان ووقع استجلاب “إيال زامير” الوافد من بؤر الاستيطان والتطرف وبعدها تمّ بلورة خطة “عربات جدعون” التي رافقتها “بروباغدا” صاخبة في الأوساط السياسية والإعلامية للكيان الصهيوني.
فرئيس الأركان الجديد استهلّ مهمّاته يوم 5 مارس 2025 عبر سيل من الوعود، أولا بالانتصار الساحق خلال 3 أشهر فقط وثانيا بالحدّ الكبير من الخسائر البشرية في صفوف جيشه المنهك تحت ضربات المقاومة البطولية.
وبالتوازي مع ذلك انخرطت آلة الدعاية الضخمة للكيان في حشد التعبئة المجتمعية وراء النجاحات القادمة من وراء “عربات جدعون” التي تحمل دلالات دينية وتاريخية وعسكرية تعود إلى مجازر فظيعة حصلت في قرية “بيسان” أثناء نكبة 1948.
على إيقاع التعبئة الوقحة المفعمة بشلالات دماء الفلسطينيين افتتح “زامير” مقتلة “عربات جدعون” من خلال أحزمة نارية غير مسبوقة امتزج فيها القصف الجوي بهدير الدبابات والمدفعية وتمّ إحكام الحصار على القطاع الذي أضحى وفق اعتراف “ايزانكوت” أحد قدامى الجنرالات الصهاينة القدامى جحيما حقيقيا تنعدم فيه شروط البقاء حتى للحيوان.
مارست فيالق الجيش بمختلف فرق النخبة مختلف صنوف التقتيل المحكوم بعقيدة الانتقام والتنكيل، وتمّ تقطيع أوصال “غزة” من خلال المعابر والحواجز العسكرية كما وقع إجبار الغزاويين على هجرات داخلية متواصلة.
عبث الكيان بجغرافيا القطاع وحوّل الفضاء إلى “كنتونات” معزولة يحكمها القصف الجوي بالمسيّرات ورصاص القناصة المغرمين بصيد النسوة والأطفال.
في عربات “جدعون” تكثفت عصارة ثقافة الغرب الاستعماري في أبشع صورها. فالإبادة الجماعية امتزجت بقوة مفاخر الصناعات الحربية مع سلاح التعطيش والتجويع.
فهندسة الجغرافيا اقترنت بهندسة الجوع والديموغرافيا في كارثة بشرية تدير بعض فصولها ما تسمّى مؤسسة “غزة الغذائية” تحت إشراف قتلة من عتاة مجرمي “المارينز” المتقاعدين.
مربعات توزيع بعض وجبات الغذاء الفاسد في أكثر الأحوال باعتراف تقارير أممية كثيرة تحوّلت إلى مصائد موت وإصابات ذهب ضحيتها حتى يومنا هذا المئات.
رغيف الخبز والقليل من الدقيق امتزج بدماء ودموع طالبيه من المجوعين عمدا من الكيان وداعميه من بعض الدول الامبريالية وخدمها من الرجعيات العربية.
عدّاد الضحايا منذ مارس تزايدت وتائر دورانه إلّا أنّ نتائجه كانت معاكسة للأهداف المرسومة وتكفينا الإشارة إلى عجز جيش الكيان ومختلف أجهزته من جهة عن فكّ شفرة ألغاز الأنفاق والرهائن ومن جهة أخرى عن كسر شوكة المقاومة وإجبارها على رافع الرايات البيضاء والاستسلام إن بقوّة السلاح أو على طاولة المفاوضات بالرّغم أولا من الانحياز المكشوف “للوسيط” الأمريكي وثانيا للأدوار الملتبسة والمشبوهة لكل من “مصر” و”قطر”.
تجمع تقريبا كلّ التقارير العسكرية على المأزق الكبير الذي آلت إليه “عربات جدعون” حيث تحوّلت الأعمال القتالية إلى مراوحة يغلب عليها هوس التقتيل وروتين تدمير المدّمر مثلما ورد على لسان وزير الحرب السابق “غالنت”.
تاهت أحلام “نتنياهو” تحت ضربات المقاومة الباسلة وتبدّدت أمانيه بتحقيق النصر المطلق الأمر الذي جعل لواء الاحتياط “كوبي مروم”، الخبير الكبير في مجال “الأمن القومي” يجاهر بالقول “إسرائيل تغوص في الطين الغزاوي دون أهداف واضحة…” الأمر الذي أعاد إلى السطح جميع الانقسامات التي تعصف بأركان الكيان الغاصب.
فالهوّة توسّعت بين العسكر والحكومة والتصدعات بين المكونات الاجتماعية تزايدت حول قضايا خلافية عديدة منها أولويات هذه الحرب وضرورة المسارعة بعقد صفقة تحت أيّ ثمن لتحرير الرهائن، مسألة تجنيد “الحريديم” الخ…
استطاعت المقاومة رغم خسارة أبرز قياداتها العسكرية وكلّ ما لحق ببنيتها التنظيمية أن تعجّل بترتيب أمورها والتأقلم مع جميع الأوضاع المستجدّة فكانت الأسابيع الأخيرة تقريبا موعدا يوميا لاجتراح البطولات حتّى أنّ الصهيوني “لابيد” تجاسر داخل قبة “الكنيست” قائلا “لسنا أمام نصر كامل إنها كارثة مطلقة…”.
تحت وطأة هذه الإخفاقات العسكرية أدار “نتانياهو” وحكومته اهتمامه نحو الخيار الديبلوماسي فعاودت الدوائر السياسية والإعلامية في “واشنطن” وبعض العواصم الغربية والعربية تحريك سواكن المفاوضات التي كثيرا ما انقلب الأمريكي والصهيوني على مخرجاتها.
فأغلب جولات التفاوض كانت وفق المنظور الصهيوني محطات لربح الوقت لمواصلة العدوان بأكثر بشاعة وهي أيضا محاولات بائسة لتحقيق مكاسب عجزت عن تحقيقها.
فجولات المفاوضات برعاية المبعوث الأمريكي “ويتكوف” لم تكن سوى محاولات فرض استسلام مهين على المقاومة وشعبها. ذلك أنّ كلّ مقترحات قوى العدوان تتمحور حول قضم الأراضي لتأكيد الاحتلال وشطب سلاح المقاومة.
أفظع من ذلك فالخرائط المقدمة على مائدة الحوار كانت بمثابة سطو على أكثر من ثلثي أرض القطاع وحشر ملايين الفلسطينيين في معتقل قرب معبر “فيلادلفيا “لتسهيل دفعهم لاحقا نحو “سيناء” أو غيرها.
صوت الشعب صوت الحقيقة
