بقلم علي الجلولي
مرّت هذه الأيام الذكرى 68 لإعلان الجمهورية من قبل “المجلس القومي التأسيسي” الذي أعلن سقوط نظام البايات الحسينيين وقيام النظام الجمهوري الذي ترأسه الحبيب بورقيبة، زعيم الحزب الدستوري والوزير الأكبر لحكومة الباي التي انبثقت عن انتخابات المجلس التأسيسي التي جرت خمسة أيام بعد توقيع بروتوكول الاستقلال يوم 20 مارس 1956. وقد عبّرت انتخابات الجمعية التأسيسية عن حقيقة التحولات الحاصلة في البلاد لا فقط من جهة خروج البلاد من حالة الاستعمار المباشر، بل أيضا من جهة موازين القوى السياسية والطبقية التي عبّرت عنها “الجبهة القومية” التي شكلت “المجلس القومي التأسيسي” والتي تشكلت من أهمّ القوى الصاعدة وهي التيار البورقيبي في الحزب الدستوري وقيادات اتحادات الأعراف والفلاحين والشغالين، وهي مكونات تجندت واتحدت حول بورقيبة الذي حسم قيادة الحركة الوطنية لصالحه خاصة بعيد إمضاء “اتفاقية الاستقلال الداخلي” التي هددت الحزب بالانقسام بين تياري بورقيبة وصالح بن يوسف، الأمين العام للحزب الذي عارض الاتفاقية واعتبرها “خطوة إلى الوراء”. وقد شكل مؤتمر الحزب بصفاقس الذي انعقد في نوفمبر 1955 لحظة فارقة تعززت بإمضاء بروتوكول 20 مارس الذي حسم الصراع لصالح توجهات بورقيبة الذي عزز صعوده بالمجلس التأسيسي الذي عبّر به عن خياراته المجتمعية الجديدة مثل تمرير مجلة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956 وتمرير عديد الأوامر والقوانين التي تهمّ توحيد القضاء وحل الأحباس… وبعث المؤسسات والأجهزة الأساسية للوضع الجديد. وكانت لحظة 25 جويلية لحظة حاسمة لا في مسار صعود بورقيبة فحسب، بل في تاريخ تونس المعاصر إذ ألغت النظام الملكي الذي استمر قرونا ودشنت الدخول إلى النظام الجمهوري في منطقة لا زال فيها هذا النظام هجينا ونشازا.
إعلان الجمهورية بين الاستحقاق التاريخي والإلغاء الاستبدادي
لقد شكل إعلان الجمهورية من قبل الجمعية التأسيسية حدثا هامّا وبمعنى ما نوعيا، ففي كل الحالات فإن الطلاق مع النظام الملكي العائلي الوراثي الاستبدادي الذي لا يحتكم إلى أيّ مشروعية سوى مشروعية القوة ولا آلية له في ممارسة السلطة والحكم إلا آليات الطغيان، نحو نظام جمهوري يؤسس الشرعية والمشروعية على أسس جديدة هي إرادة الشعب والتداول على السلطة ضمن إطار دستوري وقانوني يكرس الاحتكام إلى المؤسسات عوضا عن العائلة والفرد، هو خطوة في اتجاه التاريخ وفي اتجاه الحداثة والتقدم التي عرفت ذروتها في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولم تهبّ رياحها على الشرق والجنوب في الغالب إلا بعد الحرب العالمية الثانية ضمن سياق النضال التحرري ضدّ الاستعمار. وكان من الطبيعي أن تنطبع هذه التحولات بطابع القوى التي وقفت وراءها ونفذتها وهو ما ينطبق على المثال التونسي الذي أعلن الجمهورية في صائفة 1957 وصادق على دستورها في غرة جوان 1959. هذا الدستور الذي شكل الإطار الناظم لمأسسة الجمهورية بل لمأسسة الحكم الفردي من خلال نظام رئاسوي تمّت صياغته بالضبط على قياس بورقيبة الذي كرّس نظاما أبويا جديدا على أنقاض النظام الأبوي البائد. لقد خرجت تونس مع دستور ومؤسسات الجمهورية الوليدة من أبوية الباي والعائلة الحسينية إلى أبوية بورقيبة ونفوذ حزبه والطبقات والفئات الطفيلية التي أصبح يمثلها بعد الاستفراد بالحكم والسلطة والنفوذ. لقد كرّس الدستور نظاما رئاسويا وضع أهم السلطات في يد بورقيبة، ففي الحكومة الأولى بعد إعلان الجمهورية جمع بين رئاسة الدولة والحكومة ووزارة الدفاع والخارجية، وكان الوزراء يسمّون كتابا للدولة، وكانت كل قرارات الدولة تتمّ باسم “المجاهد الأكبر” الذي أعاد كتابة تاريخ البلاد المعاصر والذي يتمحور حول شخصه وخصاله وقدراته ومعجزاته وهو ما أكده في أحد خطبه حين أعلن أن الشعب التونسي لم يكن سوى ذرات من الأفراد حوّلها بورقيبة إلى شعب. ولئن أفرغ دستور 1959 الجمهورية من أهم شروط تحققها، فإن الممارسة السلطوية للنظام الفردي المطلق قد أجهزت عليها كليا، وفي هذا المضمار يمكن اعتبار قرار بورقيبة وحزبه دسترة الرئاسة مدى الحياة سنة 1975 بمثابة رصاصة الرحمة على الجمهورية التي تحولت فعليا إلى ملكية.
لقد استمر الرئيس/الملك بورقيبة على سدّة الحكم حتى وقعت إزاحته من طرف وزيره الأول بن علي الذي أعلن في بيان انقلابه أنه “لا رئاسة مدى الحياة”، لكن الوقائع فندت ذلك إذ كرّس مثل سلفه حكما فرديا مطلقا اعتمادا على مؤسسات صورية وعلى أجهزة القمع والاستبداد واستمر على راس الدولة بانتخابات شكلية هي أقرب إلى المبايعة حتى قامت الثورة. لقد استمرت “جمهورية حزب الدستور” 53 عاما برئيسين/ملكين لم يتنحى أيّ منهما إلا بإزاحته من السلطة، الأول بانقلاب والثاني بثورة، كما أنّ مؤسسات الحكم اعتمدت تزوير الإرادة الشعبية والدوس عليها من خلال ترسانة قوانين فاشية قهرية ألغت الحريات وصادرتها وكرّست نظاما سياسيا استبداديا لم يختلف في شيء عن أنظمة الاستبداد الشرقي “الجمهوري” منها والملكي. لذلك ظل شعار النضال من أجل الجمهورية الديمقراطية شعارا ناظما لمختلف مراحل تاريخ تونس المعاصر. علما وأن نضال التونسيين من أجل نظام سياسي ديمقراطي ومن أجل برلمان يكرّس الإرادة الشعبية والسيادة الوطنية هو نضال عريق صاحب نضال الحركة الوطنية ضدّ الاستعمار ثمّ نضال الحركة الديمقراطية والتقدمية ضد الاستبداد البورقيبي. ولقد اقترن النضال من أجل الديمقراطية بالنضال ضدّ الحكم الفردي الذي يُعتبَر بورقيبة وبن علي من أبرز نماذجه المعاصرة لا في منطقتنا وقارتنا بل في مجمل العالم المعاصر. إن استبداد الدولة وتكريسها للحكم الفردي المطلق كانت له كلفة غالية على الشعب التونسي وفعالياته النضالية طيلة عقود من النضال السياسي والاجتماعي والمدني من أجل الدولة الديمقراطية، الدولة التي يمكن أن تحمل صفة الجمهورية لا كصفة صورية وشكلية بل كصفة فعلية وواقعية وهو ما حملته وعكسته شعارات الثورة.
الثورة والمهمات الجمهورية الديمقراطية
حملت ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي طموحات الشعب التونسي في الحرية والكرامة والعدالة والسيادة، وهي طموحات فضلا عن مشروعيتها، لا يمكن أن تتحقق إلا ضمن دولة جمهورية تقطع نهائيا مع الاستبداد وحكم الفرد والعائلة والفئة والطبقة الطفيلية والفاسدة. لقد عبّرت الشعارات المرفوعة عن هذا المطلب التاريخي، وبسقوط نظام بن علي توفرت الإمكانية التاريخية لتحقيق ذلك فعليا، أي إحداث تغيير عميق على شكل السلطة وتحويلها من سلطة تسلط إلى سلطة ديمقراطية. وبطبيعة الحال فإن إحداث هذا التغيير لا يتطلب فقط الرغبة، بل يتطلب القدرة الفعلية والمادية على تحقيقه بخلق ميزان القوة اللازم لفرضه والتصدي لكل العوائق التي ستتدخل بكل الأشكال لتعطيل أو إعاقة أو إجهاض هذا المشروع التاريخي الثوري. لقد تمكنت الجماهير الثائرة من فرض تعليق دستور الحكم الفردي أي دستور 1959 والدعوة إلى انتخاب الجمعية التأسيسية التي ستصوغ دستورا جديدا لتونس الجديدة، إنه دستور الثورة الذي سيكرس الانتقال الفعلي إلى الجمهورية الديمقراطية. لكن موازين القوى داخل المجلس التأسيسي عطلت تحقيق هذا المشروع، رغم أنّ الضغط الجماهيري الواسع فرض جانبا من الشعارات والمطالب الديمقراطية وفرض على حركة النهضة التي طرحت أفكارا رجعية تتجه إلى الدولة التيوقراطية وهو ما عبّرت عنه مسودّة دستور جوان 2013. لقد حمل دستور 2014 بعضا من مقتضيات الدولة الديمقراطية، لكن وصول قوى غير ديمقراطية إلى الحكم في انتخابات 2014 ثم 2019 عطل إلى حدّ بعيد تحقيق تغيير شكل السلطة، مع أهمية صمود ونضال الحركة الديمقراطية للدفاع عن مربعات الحريات التي ظلت مستهدفة. إن سيطرة حركة النهضة وحلفائها وشركائها في الحكم من ورثة النظام المخلوع إلى قوى فاشستية ومافيوية وانتهازية عبّد الطريق إلى الديمقراطية البرجوازية الفاسدة التي حولت الفضاء العام إلى فضاء تجاري استثماري فاسد وهو ما عمق الاستياء الشعبي الذي التقطته الشعبوية لتشحن الوعي لا في اتجاه رفض الفساد والقطع معه، بل في اتجاه تحميل الديمقراطية مسؤولية كل جرائم الدولة ومسؤوليها.
الانقلاب والعودة إلى وراء الوراء
لقد شكل تعفن الديمقراطية الفاسدة عاملا مسهّلا للانتقام من المكاسب الديمقراطية الدنيا وعلى رأسها استبعاد الحكم الفردي من خلال التخلي عن النظام الرئاسوي واعتماد توزيع السلطة من خلال نظام برلماني بجرعة رئاسية محدودة. لقد كرّست القوى السياسية المهيمنة عجزا في إدارة شؤون البلاد لا بحكم النظام السياسي المتبع بل بحكم طبيعتها كقوى فاسدة لا هاجس لها سوى خدمة المصالح الجشعة للطبقات والقوى الرجعية المحلية والإقليمية والدولية التي ترتبط بها وتخدمها. في هذا السياق جاء انقلاب 25 جويلية التي اختطف رمزية إعلان الجمهورية لا من أجل تعميق توطينها بل من أجل استئصال ملامحها الجنينية وهو ما تمّ تباعا بترسانة الإجراءات التصفوية التي بلغت ذروتها بدستور ذكرى الجمهورية الذي وضعه سعيد بنفسه ولنفسه والذي قضى قضاء مبرما على الطموح الديمقراطي باستعادة نظام سياسي مستلهم من دستور 1959 لتعود بلادنا إلى وضعية الجملكية، نظام بواجهة جمهورية لكن بطبيعة وخصائص ملكية وعلى رأسها الحكم الفردي المطلق، فرأس الدولة يترأس مجلس الوزراء ويسمّي ويقيل أعضاده ويسمي الولاة والسفراء، وتقع السلطة التشريعية والقضائية التي تحوّلت إلى مجرد وظائف تحت سلطته بمقتضى هرمية لا يخضع فيها الرئيس إلى أيّ رقابة أو مساءلة أثناء ممارسة الحكم وبعده. لقد أعاد دستور سعيد بلادنا إلى وراء الوراء سواء من جهة طبيعة منظومة الحكم السائدة التي عادت القهقرى إلى الحكم الفردي المطلق، وكذلك من جهة مطالب الشعب وقواه التقدمية التي عادت كما كانت قبل عقود تناضل من أجل احترام الحريات الأساسية ومن أجل دولة ديمقراطية تقطع مع الاستبداد والدكتاتورية.
إنّ المهمات الملقاة على قوى التقدم في هذه اللحظة التاريخية هي النضال من أجل الجمهورية الديمقراطية الشعبية كمهمة واستحقاق تتوقف عليها بقية المهمات الوطنية والاجتماعية. إنّ النضال من أجل هذه الجمهورية كجزء من المهمات الديمقراطية العالقة والتي عطلتها الطبقات اللاوطنية، الريعية والطفيلية، يتطلب توسيعا لقاعدة هذا النضال صلب طبقات الشعب ليعي بأن تحقيق طموحاته ومصالحه لا يمكن أن يكون تحت حكم فردي بل في إطار دولة ديمقراطية تضمن الحقوق والحريات يتمكن ضمنها من الانتظام للدفاع عن ذاته بكل الوسائل التي يلغيها اليوم حكم الفرد الاستبدادي.
صوت الشعب صوت الحقيقة
