الرئيسية / صوت النقابة / قيس سعيد وحشده الشعبوي يعلنان الحرب على الاتحاد
قيس سعيد وحشده الشعبوي يعلنان الحرب على الاتحاد

قيس سعيد وحشده الشعبوي يعلنان الحرب على الاتحاد

بقلم حبيب الزموري

كانت ساحة محمد علي بالعاصمة يوم الخميس 7 أوت 2025 مجددا مسرحا لزحف جحافل المنتشين بالشعارات الشعبوية حول حرب التحرير الوطني والحرب على الفساد والفاسدين وحملات تطهير البلاد من الخونة والمتآمرين بعد أن كانت قبل 13 سنة هدفا لأشقائهم في العداء للمنظمة الشغيلة من المبشّرين بالخلافة السادسة.

قيس سعيد والاتحاد قبل جويلية 2021: “الأنياب تحت الشفايف”

لا يمكن النظر إلى هذه الهجمة على “دار الاتحاد” بمعزل عن السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام الذي تمرّ به البلاد والذي رسمت ملامحه الأساسية السياسات الشعبوية التي يسطّرها قيس سعيد وحده لا شريك ولا حسيب ولا رقيب له، لأنّ أهم ما ميّز سياسة قيس سعيد نحو الاتحاد العام التونسي للشغل طيلة السنوات الماضية ومنذ اعتلائه لسدّة الرئاسة سنة 2019 هو المخاتلة، حيث حرص قبل تنفيذ انقلابه على استغلال توتر العلاقة بين المنظمة والحكومات الغارقة في التحالفات الفاسدة والمشبوهة بمناسبة المفاوضات الاجتماعية للظهور بمظهر المنحاز إلى مصالح العمال والكادحين في مواجهة الحكومة المدافعة عن مصالح اللوبيات والمافيات الجاثمة على اقتصاد البلاد ومواردها. بل إنه يتمادى أحيانا في لعب هذا الدور ليبرز في بعض إطلالاته الإعلامية نقابيا أكثر من النقابيّين وعاشوريا أكثر من العاشوريّين وغيورا على الاتحاد وعلى إرث فرحات حشاد أكثر من كل النقابيّين وفي أحيان أخرى لا يتردد في السخرية من مبادرات المنظمة الشغيلة (مبادرة الحوار الوطني) وعلاقتها بالشأن العام محاولا حشرها في زاوية يرسم حدودها الضيقة بنفسه كما حاول الذين من قبله رسمها، ورغم ذهاب عدد من النقابيّين والمتابعين للشأن العام إلى وصف هذه العلاقة بالمزاجية وغياب خيط فكري أو سياسي ناظم لرؤية قيس سعيد للمنظمات النقابية والوطنية بصفة عامة فإنّ الحقيقة التي أصبحت تنكشف شيئا فشيئا أمام من يريد تفكيك هذه الرؤية وفهم ما يحدث في البلاد تحت حكم قيس سعيد هي أنّ رؤية هذا الأخير للسلطة لا تحتمل القسمة كما لا تحتمل الفصل بين مؤسساتها ولا الرأي المخالف حتى لو كان من داخل نفس منظومتها ناهيك عن الرأي المناهض والمعارض لهذه المنظومة الذي أصبح عرضة للتجريم والتخوين. ورغم حرص قيس سعيد على تصوير نفسه كحاكم بأمر إلاهي ومرسل لإتمام مهمة تاريخية فإنّ رؤيته للدولة وللحكم ولعلاقة السلطة بالمجتمع تربطها أكثر من صلة بتجارب مريرة مرت بها البشرية في تاريخها المعاصر تجارب اختزلت الدولة في شخص القائد الفذّ وسيّجتهما بسياج دغمائي مغلق يتناقض مع أبسط مبادئ الديمقراطية ويتماهى مع الممارسات الفاشية التي “ترفض ما في الديمقراطية من افتراء سخيف يقول بالمساواة السياسية… وبالنسبة إليها كل شيء يوجد ضمن الدولة ولا يوجد أيّ نشاط بشري خارجها فلا المجموعات (أحزاب سياسية، جمعيات، نقابات…) ولا الأفراد يمكن لهم الوجود خارج الدولة، فالفاشية تعارض الاشتراكية وهي تكرّس وحدة الدولة التي تصهر الطبقات في كتلة اقتصادية وروحية واحدة ولنفس الأسباب تعادي الفاشية الحركة النقابية” (بنيتو موسوليني الدولة الشعبية 1930)، وللقارئ حرية استكشاف حجم التقاطعات بين شعبوية قيس سعيد وفاشية موسوليني كما أنّ العلاقات الوطيدة التي تجمعه برئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني التي تعتبر نفسها وريثة الدولة الفاشية ليست من باب الصدفة وليست مجرد خدمات أمنية يقدّمها قيس سعيد لمكافحة تدفق الهجرة غير النظامية، بل إنها علاقات لها أبعادها السياسية والإيديولوجية.

ما بعد جويلية 2021: الشعبوية والفاشية أو الحريات والحقوق النقابية

إنّ تحوّل قيس سعيد في علاقته بالمنظمة الشغيلة منذ جويلية 2021 من المخاتلة واستعراض بطولاته النقابية الوهمية التي لا أثر واقعيا لها حتى في مجرد عريضة لنقابة أساسية إلى المواجهة والاستهداف المباشر ليس مفاجئا لمن تفطن للمشروع الحقيقي لقيس سعيد مبكرا والمتمثل في نسف مقوّمات الدولة المدنية الديمقراطية ووضع أسس حكم فردي مطلق محاط بهالة مقدسة من المهام الإلهية والتاريخية غير القابلة للمتابعة أو التقييم أو المحاسبة إلا من قبل القائد الأوحد والزعيم الملهم القادر وحده على رسم ملامح الوطن والعالم البديل الذي يبشّر به بنفس قدرته على متابعة البغلة المتعثرة في المسالك الجبلية الوعرة في أعماق جبال خمير أو جبال مطماطة التي لم تشرق عليها شمس الاستقلال ولا شمس الثورة ولا شمس فخامته، هذه الرؤية الفردية المطلقة للحكم المتقاطعة مع الرؤية الفاشية لا تؤمن بوساطة بين القائد وشعبه ولئن كانت الملامح الكبرى لهذه الرؤية ماثلة في ذهن قيس سعيد منذ ما قبل 2019 من خلال خطابه الإعلامي والندوات التي يشارك فيها والتي كان يهوي فيها بكلماته وشعاراته الرنانة على الجميع دون استثناء أحزابا ومنظمات وجمعيات حكومة ومعارضة حاثا التونسيات والتونسيين على نبذ كافة أشكال التنظم والالتزام دون تقديم البدائل، فقط شعارات فضفاضة وكلمات رنانة حسبها الشعب التونسي الظمآن للحرية والكرامة والعدالة ماء، ومن الطبيعي أن تكون الحقوق النقابية والاتحاد العام التونسي للشغل في صدارة المستهدفين بعد نجاح قيس سعيد ودون صعوبات تذكر في تركيع منظمة الأعراف واتحاد الفلاحين. فعمل في مرحلة أولى على سحب البساط من تحت أقدام المنظمة الشغيلة عبر الانفراد بالملفات التي كانت محور تفاوض بين الحكومة والاتحاد طيلة سنوات والتي كانت إحدى أبرز واجهات الحركة الشعبية الاحتجاجية كملف عمال الحظائر وملف الأساتذة النواب والعائلات المعوزة بالإضافة إلى ملفات أخرى كانت تغذّي الحركة الجماهيرية قبل أن يخترقها قيس سعيد بخطاباته ووعوده الشعبوية على غرار أصحاب الشهائد الذين طالت بطالتهم والدكاترة المعطلين عن العمل. وقد انطلق قيس سعيد مبكرا في عملية تفكيك المنظمة من الداخل بضرب مصداقيتها أمام منظوريها عبر ضرب مصداقية التفاوض والاتفاقيات وتجميد مستحقات العمال والشغالين التي نصّت عليها قبل أن يتمّ تفعيل بعضها فيما بعد من قبل الرئيس وليس حتى الوزارة أو الحكومة التي تمّ إمضاء الاتفاقية ومحضر الجلسة معها كما تمّ تجميد مجلس الحوار الاقتصادي والاجتماعي الذي “يوفر منصة للحوار بين الأطراف الاجتماعية الثلاثة (الحكومة، ومنظمات أصحاب العمل، ومنظمات العمال) حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية ذات الاهتمام المشترك” وما من شك في أنّ ضرب مؤسسة الحوار الاجتماعي يُعتبر استهدافا للاتحاد في وجوده بالنظر إلى العلاقة التشاركية التي جمعت بين الاتحاد ومؤسسات الدولة منذ تأسيسه. وحتى لحظات الصدام بينهما لم تكن تستهدف أسس هذه العلاقة بقدر ما كانت تهدف إلى تحسين شروط هذه العلاقة لهذا الطرف أو ذاك. فالدولة سعت في أكثر من مناسبة إلى تقزيم دور الاتحاد أو تدجينه، والاتحاد بدوره لم يتردد في خوض معركة الاستقلالية والحيلولة دون تحوّله إلى شعبة مهنية ملحقة بالحزب الحاكم. ولكن قيس سعيد له رؤية أخرى للدولة ولعلاقتها بالفرد وبالمنظمات والأحزاب كما بيّنا سابقا رؤية لا تتسع إلا له وحده. فاستهداف الاتحاد هذه المرة في ظل النظام الشعبوي ليس استهدافا حول مناطق النفوذ أو التدجين أو إعادة صياغة شروط العلاقة التشاركية بقدر ما هو استهداف للمنظمة في وجودها. فتونس الجديدة التي يبشّر بها قيس سعيد التونسيين والتونسيات والرخاء والكرامة الذي ينتظرهم في المنعطف الأول من طريق التحرر الوطني تستوجب إزالة العوائق والعراقيل التي يفخخ بها الفاسدون والمتآمرون والمجرمون والخونة هذا الطريق وفي مقدمة هؤلاء النقابيون والعمال الذين سوّلت لهم أنفسهم وهياكلهم تعكير صفو القائد وحشده الشعبوي المنغمس في معركة التشييد والبناء والتحرير الوطني بالإضرابات وآخرها إضراب قطاع النقل الذي تحوّل في الصفحات الشعبوية بل على لسان رئيس الدولة إلى خيانة عظمى وتآمر على أمن الدولة وإجرام في حق الشعب وهو ما أعطى الضوء الأخضر للحشود الشعبوية للزحف على مقر الاتحاد في ساحة محمد علي ورفع الشعارات الشعبوية والفاشية المطالبة بحل الاتحاد ومصادرة مقرّاته قادمين من شارع الحبيب بورقيبة. وممّا يميط اللثام أكثر عن الأطراف المنظمة والداعمة لهذه الهجمة التعامل الأمني مع التهديدات والدعوات التي انطلقت قبل يوم 7 أوت بأيام حيث قام الجهاز الأمني باتخاذ التدابير الاحتياطية اللازمة صبيحة يوم 7 أوت لتأمين ساحة محمد علي وكافة الطرق المؤدية إليها قبل أن يقوم نفس الجهاز برفع الحواجز وإلغاء كافة الاحتياطات الأمنية للسماح للميليشيات الشعبوية بالوصول إلى ساحة محمد علي والاكتفاء بإقامة حائط بشري يحول بين الشعبويّين والنقابيّين الذين تمترسوا أمام الباب الرئيسي دفاعا عن مقر الاتحاد. ولكن ما يثير التساؤل والاستغراب في الآن نفسه إصرار عدد من النقابيّين والمعلّقين على الحادثة على وصف المعتدين بالأطراف المجهولة والعصابات الغريبة رغم وضوح هويتهم السياسية ورفعهم للشعارات المساندة لقيس سعيد وقناعتهم بأنّ همجيتهم وفوضويتهم إنما هي انخراط في معركة التحرير الوطني وتلبية لطبول الحرب التي ما انفك قيس سعيد يقرعها صباحا مساء.

الاتحاد العام التونسي للشغل: القلعة المحاصرة من الداخل ومن الخارج

لئن كان الاستهداف الخارجي للاتحاد سواء من السلطة الحاكمة مباشرة أو من الموالين لها ليس جديدا على النقابيّين، بل إنّ هذه المعارك والمواجهات أصبحت تُعتبر من التقاليد النقابية فإنّ استهداف المنظمة من الداخل هو ما أعطى للأزمة التي تمرّ بها طابعها المركّب والخطير على مصير المنظمة برمّتها فإلى حدّ اللحظة يصرّ عدد من النقابيّين بمن فيهم قيادات في الهياكل المركزية على تعويم التحديات والمخاطر التي تهدّد المنظمة في وجودها ويراهن على عودة السلطة الشعبوية إلى “رشدها” بفتح باب المفاوضات مجددا وعودة سياسة الوفاق الاجتماعي إلى مجاريها رغم كل المؤشرات التي ما فتئت تصدر عن رموز المنظومة الشعبوية في السلطة وخارجها الساعية إلى سحب البساط نهائيا من تحت أقدام الاتحاد وإنهاء وساطته التاريخية بين السلطة وعموم الأجراء في تونس ناهيك عن تجفيف الحاضنة الشعبية للاتحاد الذي عاش طويلا في أفئدة التونسيين والتونسيات كرمز للنضال والتضحية ومما عمق من عزلة المنظمة هو السلوك المهادن الذي تنتهجه القيادة النقابية في أكثر من محطة مفصلية بحجة المحافظة على المناخ الاجتماعي المتعفن أصلا بفعل حملات التخوين والتجريم المتنامية والتي تدفع بالمجتمع التونسي إلى حافة الاحتراب الأهلي إذا ما تواصلت بنفس النسق. هذا بالإضافة إلى طرحها لقضية استقلالية المنظمة طرحا مثاليا ممّا يهدد المنظمة بالانفصال عن حاضنتها الوطنية الديمقراطية الشعبية في ظل انحسار شعبيتها كما قلنا بفعل حملات التخوين وترذيل العمل النقابي التي لم تنقطع منذ سنة 2011 ولكن أيضا بفعل عديد السلوكيات والممارسات النقابية الخاطئة. إنّ الحساسية المفرطة للقيادة النقابية نحو انتقادات القوى الديمقراطية والوطنية لمظاهر البقرطة وبعض السلوكيات النقابية الخاطئة لا تخدم الاتحاد بالمرة بل تفاقم عزلته في هذه الظرفية الخطيرة التي يمرّ بها لا سيما أنّ هذه القوى لطالما زوّدت الاتحاد بخيرة المناضلين النقابيّين مثلما زوّدت المنظمة هذه القوى بخيرة المناضلين السياسيّين.

لا خيار أمام المناضلين النقابيين المتمسكين بالخط النقابي المناضل داخل المنظمة اليوم سوى تصدّر الصفوف الأولى في مواجهة الهجمة الشعبوية دون تقديم تنازلات في صراعهم الداخلي ضدّ مختلف مظاهر البقرطة والسلوكيات والممارسات النقابية المشينة التي تمسّ من سمعة المنظمة وإرثها النضالي في الداخل والخارج. إنّ الاتحاد العام التونسي للشغل في أمسّ الحاجة اليوم إلى نَفَس ثان يواصل به مسيرته ودوره الوطني والمطلبي، نَفَس يستلهم قيم التضحية ونكران الذات ويكرّس النقاش والصراع الديمقراطي في إطار الوحدة النقابية الصماء بالتزام الأقلية برأي الأغلبية بعيدا عن تجريم الرأي المخالف داخل الهياكل وصراع المواقع الذي فتح الباب على مصراعيه أمام التلاعب بقوانين المنظمة وهيمنة علاقات الاستزلام والزبونية على حساب العلاقات النضالية والتنظيمية.

الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم وهو يستعدّ لعقد مؤتمره الاستثنائي ويتعرض في الآن نفسه لهجمة شرسة من جحافل الشعبوية والفاشيين الجدد أمام مفترق طرق مصيري فإمّا طريق إصلاح المنظمة من الداخل عبر الآليات والطرق النقابية بتنقيح النظام الداخلي والقانون الأساسي بتعزيز الديمقراطية الداخلية في التسيير والنقاش واتخاذ القرار وتكريس القيم النضالية وتجريم السلوكيات والممارسات المضرة بالاتحاد وبالعمل النقابي وإمّا طريق التآكل والتفتت مثلما بشرنا قيس سعيد في أطروحاته حول الأجسام الوسيطة التي تجاوزها التاريخ وستندثر من تلقاء نفسها.

إلى الأعلى
×