تعيش تونس في المدة الأخيرة على وقع تصاعد التوتر في العلاقة بين السلطة والمنظمة النقابية. والحقيقة أنّ أزمة العلاقات بينهما ليست جديدة ولكنها تطورت بشكل لافت في المدة الأخيرة وخاصة منذ أن خرج الخطاب الرسمي، وفي مستوى رمز النظام قيس سعيد، عن كل تحفظ وانتقاله ممّا كان يتخفى وراءه سابقا من تلميحات وجمل وشعارات تعميمية إلى الإشارة وبالوضوح التام إلى قيادة الاتحاد فيما يعني اتهامها والتلويح بـ”تفعيل القانون” و”فتح الملفات” وإيقاف العمل بالخصم المباشر في الانخراطات النقابية مقابل تبرئة أنصاره من كل “النوايا الخبيثة” إثر هجومهم على مقر المنظمة الشغيلة يوم 7 أوت الجاري، ومحاولة اقتحامه.
جاءت هذه التطورات بعد نجاح إضراب قطاع النقل الذي شلّ الحياة العامة خاصّة في العاصمة طيلة ثلاثة أيام، 30 و31 جويلية وغرة أوت، وإثر التلويح بتحركات أخرى منها الإضراب في مؤسسة نقل النفط عبر الأنابيب الخ…
وقد رأى النقابيون وكل متابعي الشأن الوطني في محاولة اقتحام مقر الاتحاد التي تبعتها تصريحات قيس سعيد ردة فعل تعكس استياء “الرئيس” بل غضبه من الاتحاد ومبادرته بفتح جبهة صراع معلن معه. وتأكد ذلك فيما بعد من خلال الحملة الإعلامية والدعائية المعادية للاتحاد وهياكله وقيادته وسيل الدعايات والتشويهات والأكاذيب التي راجت على أوسع نطاق في الفضاء الافتراضي حيث يدير قيس سعيد “ماكينة” صنع الرأي العام وتوجيهه.
وضمن هذا التّصعيد ردّت الهيئة الإدارية الوطنية لاتّحاد الشّغل يوم الاثنين 11 أوت الجاري بالإعلان عن جملة من القرارات منها تنظيم تجمّع عمّالي يوم الخميس 21 من الشّهر ومسيرة في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة دفاعا “عن الحقّ النّقابي وضدّ تعطيل التّفاوض وإلغاء الحوار والهجوم على مقرّ الاتّحاد” وفق ما جاء في بلاغها. كما قررت “البقاء في حالة انعقاد دائم لمتابعة المستجدات وتحديد موعد الإضراب العام المقرّر مبدؤه منذ سنة 2024، في “حال تواصل غلق باب التفاوض وضرب الحقّ النقابي والاعتداء على الاتحاد”، وفق ما نشرته الصحيفة الإلكترونية “الشعب نيوز”.
لقد كان تجمّع يوم الخميس 21 أوت والمسيرة التي أعقبته، بالإشارات الرمزية التي تعمدّت الهيئة الإدارية الإيحاء بها (يوم الخميس إحالة على الخميس 26 جانفي 1978) موعدا شدّت فيه البلاد أنفاسها ومناسبة أكدت من خلالها قيادة الاتّحاد أن المنظّمة لا زالت قادرة على التعبئة والنزال وليس أدلّ على ذلك من العدد الضخم من النقابيين والعمال الذين لبّوا الدعوة في يوم عمل وفي ظروف مناخية قاسية وهتفوا بشعارات تصدع بالاستعداد للمواجهة من أجل حماية منظمتهم.
لقد نجحت المنظمة النقابية رغم كل أشكال التّضييق في العاصمة وفي الجهات مثل منع شركات النقل العمومية والخاصة من كراء حافلات للحيلولة دون تنقل العمال والنقابيين إلى العاصمة وكذلك تشديد الرقابة على عموم الموظفين والعمال في جهة تونس الكبرى ومنعهم من مغادرة مقرّات العمل ساعة انطلاق التّجمع في محاولة لإفشال التّحرّك. ومع ذلك كان تجمّعا ضخما عدديا وساخنا من حيث الرّوح الذي سادت فيه وفي المسيرة من مقر الاتحاد إلى المسرح البلدي بشارع بورقيبة. لقد حضرت كل الشعارات المناوئة في الوضوح للسّلطة ولقيس سعيد رأسا وتناولت لا فحسب القضايا المتّصلة بالعمل النّقابي والحرّيات النّقابية وقضايا الأجور والمقدرة الشرائية بل ركّزت في العديد منها على قضيّة الحريات والديمقراطية منها مثلا “حرّيات حرّيات دولة البوليس وفات” و”c’est fini c’est fini يا قوّاد ميلوني” و”لا خوف لا رعب الشّارع ملك الشّعب” وغيرها من الشّعارات.
يمثّل تحرّك يوم الخميس 21 أوت خاتمة مرحلة تبادل الرّسائل عن بعد بين قيس سعيد ومنظومته من جهة والقيادة النقابية واتحاد الشّغل ككل من جهة ثانية. وليس واضحا ما إذا سيشكل هذا التاريخ منطلقا لمرحلة تصعيد جديدة. وسيكون علينا انتظار أيام أخرى للحكم على نوايا قيس سعيد وطاقته على خوض غمار صراع في ملف كان على الدوام مقبرة لكل من يستهين بخطورته. ذلك أن الزيارة التي أجراها مساء نفس اليوم لمستشفى الرابطة ولاعتصام الدكاترة لم تبح بعد بشيء سوى بكونها محاولة يائسة لتجديد شعبية اهترأت وصورة مهشّمة لرئيس فاشل ليس لديه ما يقدمه للشعب عدا حفنة من الشعارات والأوهام.
في المقابل مازال من السّابق لأوانه الحكم على الاتّجاه الذي ستسير فيه قيادة الاتّحاد التي لا يخفى أنها ممزقة بين الرغبة في تسوية مع قيس سعيد من جهة وخوض غمار معركة لم تخترها بل فرضت عليها فرضا ولا شيء يؤشر حتى الآن على أنّ قيس سعيد مستعدّ للتراجع فيها من جهة أخرى.
من جانب آخر مازال أيضا من السابق لأوانه الحكم على جدية القيادة النقابية في إصلاح العطب الذي طال الجبهة الداخلية رغم حالة الوئام الظاهر الذي يميّز المكتب التنفيذي المنشق على نفسه. لكن الأمر الأكيد أنّ حسابات الرّبح والخسارة من كلا الطرفين (السلطة والاتحاد) وكذلك الحسابات الشّخصية لعدد من أعضاء القيادة والمخاوف التي تخبّئها الأيام القادمة ستلعب كلها دورها في ضبط إيقاع نسق الصراع في قادم الأيام.
في الأثناء ستظل دار لقمان على حالها، أزمة خانقة وشاملة ومتشعبة أثبتت المنظومة الشعبوية درجة عالية من الفشل في معالجتها، ومؤشرات على بداية انقشاع غيوم الأوهام وعلامات على أننا مقدمون على موسم ليس كسابقيه. وقتها ستسقط كل الحسابات، حسابات الرّبح والخسارة والحسابات الأنانية الضيقة.
فلِنَنْتَظِرْ ونَرَى ماذا سيحدث.
صوت الشعب صوت الحقيقة
