الرئيسية / صوت الوطن / الحشد الشعبوي في تونس: السياق والسمات (1)
الحشد الشعبوي في تونس: السياق والسمات (1)

الحشد الشعبوي في تونس: السياق والسمات (1)

بقلم علي الجلولي

انتبه الرأي العام في تونس إلى مرور “أنصار المسار” إلى الأفعال بعد الأقوال وذلك بتنظيم الهجوم على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل بالعاصمة، ويعتبر هذا التحرك الأول الذي يستهدف تحقيق مهمة عملية من المهمات التي طالما أُعلن عنها في الخطابات الرسمية لأعلى هرم السلطة أو في الحملات على شبكة التواصل الاجتماعي التي تستقطب لفيفا هاما من الرأي العام المساند لهذه التوجهات أو المعارض لها. لقد خرج “أنصار المسار” أو “أنصار الرئيس” كما يحبّذ العديد منهم إلى الشارع أكثر من مرة، لكن أعدادهم ظلت ضعيفة جدا من جهة، ومن جهة أخرى بقيت في حدود شعارات ثلب الأجسام الوسيطة وإعلان الولاء والتأييد وترديد الجمل المفاتيح التي يكررها خطاب سعيد. إن الهجوم على مقر المنظمة النقابية، وإن كان بعدد غير كبير من الأنصار، يؤشر لتحوّل مهمّ سواء في ممارسة أنصار النظام، أو في اتجاه الأوضاع في البلاد نحو مزيد التوتر والتصادم. في خضمّ هذا الوضع يُعاد طرح السؤال حول حقيقة وطبيعة هذه المجموعات التي وضعت نفسها في خدمة السلطة.

وجب التنويه أن ظاهرة الحشود الشعبوية ليست ظاهرة جديدة، بل هي قديمة قدم نظم الاستبداد وخاصة منها التي تتجلبب بجلباب الشعبوية التي تعتمد اعتمادا جوهريا في تكريس سياساتها وفي تحقيق السيطرة الكلية على الفضاء العمومي على مثل هذا النوع من عمليات التحشيد لخلق حزام اجتماعي وسياسي يساعدها في تحقيق ما تريد. لقد اختارت الشعبوية التونسية الحاكمة اليوم أن لا تعتمد الأشكال التنظيمية المتعارفة في المجال السياسي وهي التنظم صلب حزب يحمل ويعبّر عن الأفكار والتوجهات التي يتمّ استقطاب وتنظيم الناس على أساسها. لقد خيّر التيار الشعبوي التعويل على الفرد/الزعيم/الملهم ومن ثمة إنكار أيّ شكل للتنظم الجماعي. لهذا بنى قيس سعيد مشروعه السياسي برمّته على فكرة جوهرية هي فكرة رفض كل الأجسام الوسيطة باعتبارها شكلا من أشكال إلغاء العلاقة المباشرة بين الشعب وقيادته (أي رئيسه) لذلك تمّ شنّ هجوم مركّز على كل أشكال التنظم من أحزاب ومنظمات وجمعيات، وتمّ استغلال الأزمة السياسية الحادة التي أفرزها حكم منظومة الثورة المضادة وما خلفته من غضب واستياء لتوجيهه نحو تعميق العداء لكل التنظيمات بقطع النظر عن مواقفها وممارساتها. إن هذا الخطاب تمكّن من الولوج إلى الأوساط الاجتماعية الأكثر بؤسا وفاقة سواء بحكم موقعها الطبقي أو بحكم حجم الأضرار التي مسّتها من تداعيات الأزمة العميقة والشاملة التي استوطنت في البلاد بعد الثورة التي خلقت – أي الثورة – آمالا وطموحات لدى أغلب الطبقات المفقرة والمقهورة. لقد التقط المشروع الشعبوي حالة الاستياء لتحويلها إلى قاعدة فكرية ثم مادية للانقلاب. ويعتمد النظام الشعبوي على عملية الشحن الخطابي التي تستهدف النوازع الأكثر بؤسا في البشر لا من جهة العزف على أوضاعه المادية المزرية وعلى أن الخلاص آت في القريب العاجل فحسب، بل خاصة في استهداف كل ما هو حقد وكره وشر لا بمنطق استهداف الطبقات الطفيلية التي تنهب البلاد، بل بمنطق توجيه الوعي الفردي والجماعي نحو أعداء وهميين يعدّون المؤامرات والمخططات لضرب البلاد وحاكمها وشعبها. إن عملية الشحن التي يتكفلها الخطاب الرسمي وينشرها الفضاء الأزرق تشكل اليوم المرجعية الفكرية والسياسية التي على أساسها يُعاد تشكيل خريطة المواقف والاصطفافات. إن خاصية الخطاب الشعبوي في تونس هو طابعه التبشيري الأخلاقوي الذي يجد الرواج والقبول لدى الفئات والأفراد الأكثر تحطما في ذهنيتهم ونفسيتهم. إن هذه الفئات تجد العزاء والسلوى في الانخراط في الحشد الشعبوي الذي يغذي الأوهام حول دور الفرد وقيمته وحول فهم الحاضر والمستقبل. إن هدف التحشيد واضح وواع عند الحاكم بأمره وعند الطبقات الاجتماعية المتنفذة المستفيدة من عملية تدجين الوعي وغسل الدماغ التي تتعرض لها الجماهير الأكثر فقرا واضطهادا حتى لا تنخرط في النضال الجماعي الواعي والمنظم، فطالما أن هذه الجماهير تستهدف آليات الدفاع الذاتي التي أوجدتها هذه الجماهير ذاتها للتوقي والدفاع عن مصالحها، فإن المشروع الشعبوي يجد الدعم من هده الطبقات الطفيلية وخاصة من أكثرها استغلالا ولصوصية. إن الجماهير الشعبية وحدها تدفع فاتورة التبعات المدمّرة لهيمنة الشعبوية وحشودها التي تستعمل لتدمير الوعي وتخريب النضال والاحتجاج بتأليب الفقراء بعضهم ضدّ بعض.

لقد تعرضت ظاهرة الحشود الشعبوية إلى الدراسة العلمية من قبل مختلف المدارس المعرفية في علم الاجتماع والسياسة والفلسفة وخاصة من قبل علم النفس وعلم النفس الاجتماعي من ذلك دراسات الفرنسي “قابريال تارد” وهو أحد أهم مؤسسي علم النفس الاجتماعي وقد انتبه لظاهرة الحشد كممارسة تستقطب الفرد والجماعة انطلاقا من ديناميكية مخصوصة تتميز أساسا بالعاطفية والاندفاع ممّا يدفعهم إلى السلوكات والممارسات الجماعية غير العقلانية. وفي هذا الصدد تلعب وسائل الإعلام والاتصال دورا حيويا وحاسما لا في خلق هذا الانتماء للحشد بل في تكييف الفرد وعيا وسلوكا ويخرجه من خانة الجمهور ويدخله فضاء الحشد. وقد دقق “تارد” في كتابه “L’opinion et la foule” الفرق بين الممارسة الفردية والجماعية العقلانية والمفيدة والممارسة الخطيرة وينتهي إلى أهمية الانتباه إلى الديناميات الاجتماعية والنفسية التي تشكل الوعي وتخرجه من فضاء التفكير العقلاني النقدي والمستنير إلى خانة التفكير والسلوك القائم على التجييش والشحن والتقليد. إن التمييز بين المجموعات البشرية ينبني على خصائصها وعيا وسلوكا، وإذا كان الجمهور حالة مطلوبة لتقدم المجتمع، فإن الحشد يحمل كل سمات الانحراف في الممارسة بإخراجها من العقلانية وإدخالها إلى ضرب من الغريزية الفالتة عن أي ضبط عقلي واجتماعي. إن الحشود الشعبوية في بلادنا اليوم هي نموذج حي للحشود المنافية للعقلانية والمنخرطة في سلوكات تدميرية للفضاء المدني تروم تصحير المجال العمومي واختصاره في وضع لا تاريخي تجاوزه المجتمع البشري وهو نفي كل الأجسام والإبقاء فقط على جسمي الحاكم والمحكوم قياسا على علاقة الخالق والمخلوق.

لقد عرفت كل المجتمعات المعاصرة غربا وشرقا ظاهرة الحشود الشعبوية بأشكالها المختلفة، تلك التي انتظمت في أحزاب على الشاكلة الألمانية الهتلرية والإيطالية الموسيلينية، أو التي تتجه نحو إلغاء أشكال الانتظام اعتمادا على مبدأ “من تحزب خان”، لكن هذا النموذج يبقى عرضيا وليس له أيّ مقوّم للاستمرار سوى استثماره في الأزمة لا غير، وهو مرتبط بالشخص لا بالمشروع، وهو حال الحشود الشعبوية في بلادنا اليوم التي تضمّ الفئات الأكثر تضررا من الأوضاع المادية القاسية والتي انعكس عليها ذلك من خلال اتجاهها نحو إعادة إنتاج عقلية عدوانية ثأرية تنهل من كل ما هو رثّ و بغيض وبائس في ثقافة سقط المتاع والرداءة باسم الشعب والانحياز له. وتأكيدا بكونهم مجرد استمرار للحشود الشعبوية وأنهم نسختها التونسية لا غير فهم يعوّلون على وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها الآلية الأنجع في تدمير الوعي وتكييف السلوك وهو ما تؤكده صفحات “أنصار المسار” التي تقطر سموما واستعادة لكل ما هو رجعي وظلامي ومظلم في القاع الاجتماعي، وأيضا من قمة المجتمع أي ثقافة وعادات وسلوكات الطبقات الأكثر رفاهية ولصوصية، ثقافة الأنانية والفردانية والنرجسية والزبونية والنزوع للتغطي بغطاء الحاكم والخضوع له وتقديم الخدمات، كل الخدمات له.

إن الشعبوية التونسية الرثة التي تستثمر في أوضاع البؤس التي كرستها لن تدوم طويلا باعتبارها حلا لمعضلات تونس اليوم، فكل المؤشرات تدلّ على اتجاهها نحو التفكك قياسا على التدهور المريع لأوضاع الشعب ومختلف طبقاته.

(يتبع)

إلى الأعلى
×